من روائع الراحل نزار قباني -هـذي البـلاد شـقـةٌ مفـروشـةٌ
من روائع الراحل نزار قباني
هـذي البـلاد شـقـةٌ مفـروشـةٌ ، يملكها شخصٌ يسمى عنترة …
يسـكر طوال الليل عنـد بابهـا ، و يجمع الإيجـار من سكـانهـا ..
و يطلب الزواج من نسـوانهـا ، و يطلق النـار على الأشجـار …
و الأطفـال … و العيـون … و الأثـداء …والضفـائر المعطـرة ...
هـذي البـلاد كلهـا مزرعـةٌ شخصيـةٌ لعنـترة …
سـماؤهـا .. هواؤهـا … نسـاؤها … حقولهـا المخضوضرة …
كل البنايـات – هنـا – يسـكن فيها عـنترة …
كل الشـبابيك عليـها صـورةٌ لعـنترة …
كل الميـادين هنـا ، تحمـل اسـم عــنترة …
عــنترةٌ يقـيم فـي ثيـابنـا … فـي ربطـة الخـبز …
و فـي زجـاجـة الكولا ، و فـي أحـلامنـا المحتضـرة ...
مـدينـةٌ مهـجورةٌ مهجـرة …
لم يبق – فيها – فأرةٌ ، أو نملـةٌ ، أو جدولٌ ، أو شـجرة …
لاشـيء – فيها – يدهش السـياح إلا الصـورة الرسميـة المقررة ..
للجـنرال عــنترة …
فـي عربـات الخـس ، و البـطيخ …
فــي البـاصـات ، فـي محطـة القطـار ، فـي جمارك المطـار..
فـي طوابـع البريـد ، في ملاعب الفوتبول ، فـي مطاعم البيتزا …
و فـي كل فئـات العمـلة المزورة …
فـي غرفـة الجلوس … فـي الحمـام .. فـي المرحاض ..
فـي ميـلاده السـعيد ، فـي ختـانه المجيـد ..
فـي قصـوره الشـامخـة ، البـاذخـة ، المسـورة …
مـا من جـديدٍ في حيـاة هـذي المـدينـة المسـتعمرة …
فحزننـا مكررٌ ، وموتنـا مكررٌ ، ونكهة القهوة في شفاهنـا مكررة …
فمنذ أن ولدنـا ، و نحن محبوسون فـي زجـاجة الثقافة المـدورة …
ومـذ دخلـنا المدرسـه ، و نحن لاندرس إلا سيرةً ذاتيـةً واحـدة …
تـخبرنـا عـن عضـلات عـنترة …
و مكـرمات عــنترة … و معجزات عــنترة …
ولا نرى في كل دور السينما إلا شريطاً عربياً مضجراً يلعب فيه عنترة …
لا شـيء – في إذاعـة الصـباح – نهتـم به …
فـالخـبر الأولــ – فيهـا – خبرٌ عن عــنترة …
والخبر الثالث والخامس والتاسع والعاشر فيها خيرٌ عن عنترة
لا شـيء – في البرنامج الثـاني – سـوى :
عـزفٍ – عـلى القـانون – من مؤلفـات عــنترة …
و لـوحـةٌ زيتيـةٌ من خـربشــات عــنترة ...
و بـاقـةٌ من أردئ الشـعر بصـوت عـنترة …
هذي بلادٌ يمنح المثقفون – فيها – صوتهم ، لسـيد المثقفين عنترة …
يجملون قـبحه ، يؤرخون عصره ، و ينشرون فكره …
و يقـرعون الطبـل فـي حـروبـه المظـفرة …
لا نجـم – في شـاشـة التلفـاز – إلا عــنترة …
بقـده الميـّاس ، أو ضحكـته المعبـرة …
يـوماً بزي الدوق و الأمير … يـوماً بزي الكادحِ الفـقير …
يوماً على دبابة روسيـةٍ …
يـوماً عـلى مجـنزرة …
يـوماً عـلى أضـلاعنـا المكسـرة …
لا أحـدٌ يجـرؤ أن يقـول : " لا " ، للجـنرال عــنترة …
لا أحـدٌ يجرؤ أن يسـأل أهل العلم – في المدينة – عن حكم عنترة …
إن الخيارات هنا ، محدودةٌ ، بين دخول السجن ، أو دخول المقبرة ..
لا شـيء فـي مدينة المائة و خمسين مليون تابوت سوى …
تلاوة القرآن ، و السرادق الكبير ، و الجنائز المنتظرة …
لا شيء ، إلا رجلٌ يبيع - في حقيبةٍ - تذاكر الدخول للقبر ، يدعى عنترة …
عــنترة العبسـي … لا يتركنـا دقيقةً واحدةً …
فـ مرة ، يـأكل من طعامنـا … و مـرةً يشرب من شـرابنـا …
و مرةً يندس فـي فراشـنا … و مـرةً يزورنـا مسـلحاً …
ليقبض الإيجـار عن بلادنـا المسـتأجرة
ساحة النقاش