ليس يكفي أن نطلب نقدا أدبيا لنجد النقاد الذين يصلحون لهذه المهمة. فان نطلب شيء، وأن نجد ما نطلبه شيء آخر. فالناقد كالفنان تماما، لا يصنع وإنما يوجد نتيجة توافر عوامل عدة، لا بد من وجودها كي يصبح الناقد الأدبي ناقدا أدبيا له وزنه وقيمته، وله دوره في تكوين فكر أمته وتوجيه أدبها وآدابها. وكما أن الفنان إنسان مطبوع يزيد أدواته بالاكتساب والخبرة والمعايشة، فكذلك الناقد إنسان مطبوع أولا، ثم هو إنسان يزيد أدواته بالاكتساب والخبرة والمعايشة أيضا، فليس كل خريج معهد من معاهد الأدب أو الفن أو أقسام النقد الأدبي أو الفني بها ناقدا بالضرورة. فهذه المعاهد تعطي الأدوات وتفتح الطريق أمام الاطلاع والبحث، وتكشف الطريق الطويل الذي سار فيه النقد منذ بدايته، ولكنها لا تخلق الموهبة ولا تمنح الحس الفني الأساسي، والحس النقدي الضروري في تكوين ناقد الفن بعامة وناقد الأدب بخاصة. وعلى هذا فليس كل متخصص في الدراسات الأدبية ناقدا، ولو أن العكس صحيح تماما فكل ناقد أدبي لا بد أن يكون متخصصا في الدراسات الأدبية، وسواء أكان الناقد خريجا لمعهد من معاهد الأدب والنقد أم لم يكن خريجا من مثل هذه المعاهد فلا بد له لكي يستكمل أدواته أن يكرس حياته لدراسة ما تقدمه هذه المعاهد من مواد علمية، بل لا بد له أن يستغل مناهج هذه المعاهد لتفتح له الباب أمام الاطلاع العلمي الموسع والمنظم لعلوم الأدب وفنونه. 
وعلوم الأدب هي تلك التي تيسر سلامته من حيث الأداء ومن حيث الشكل ومن حيث المعنى. وهي التي تيسر معرفته من حيث العمق التاريخي له فهي أيضا التأريخ الأدبي. وأما فنونه فهي ألوانه المختلفة التي أظهرتها الحاجات التعبيرية للفرد والجماعة على السواء. فهي ألوانه الشعرية والنثرية معا. وهي فنونه الفردية الذاتية والجمعية الشعبية معا. 
هي شعره وملاحمه، وهي سيرته وقصصه ورواياته ومسرحه ومقالاته وترجماته الغيرية والذاتية جميعاً. 
كل هذا علوم الأدب وفنونه، يشترك فيها الناقد والدارس الأكاديمي. ولكن الناقد يبدأ من هنا تحصيله لنوع آخر من الأدوات اللازمة له، وتلك هي دقة التذوق والحساسية وشمول الرؤية، وعمق الارتباط بالنص والقدرة على رؤية المتناقضات، والقدرة على الحكم... وهي كلها وان كانت وليدة الارتباط بمعارف النفس والاجتماع والحضارة والتاريخ وأنثولوجيا الشعوب، إلا أنها ترتبط ارتباطا رئيسيا وهاما بالموهبة، فمن غير الموهبة ستصبح كل هذه الأدوات فعالة في خلق باحث أكاديمي ممتاز، فان أضيفت الموهبة فنحن هنا أمام الناقد الأدبي صاحب الرؤية التي لا تقل في خطورتها وأهميتها عن رؤية الكاتب المبدع نفسه. 
ومعرفة علوم الأدب وفنونه بأنواعها المختلفة شيء هام وضروري، ولكنه مجرد جزء من التكوين العقلي للناقد الأدبي. ولكن عدم معرفة علوم الأدب تعني العجز الكلي والكامل عن خلق الناقد الحقيقي أيا كانت الموهبة التي يتحلى بها. 

وقد ظهر كثير من النقاد وأصحاب المواهب والذين لم يهتموا بالتزود بالأدوات اللازمة وكانت لهم لمحات جيدة، وخطرات طريفة، وانتهى الأمر... 
وأغلب هؤلاء تحولوا من نقد الأدب والاشتغال به، إلى النقد الاجتماعي الطريف أو النقد السياسي الساخر الذي لا يتطلب أكثر من الإلمام بالحياة وأحداثها المتطورة واليومية. وكان هؤلاء هم أنجح كتاب هذا اللون من النقد، ولكن الذي لا شك فيه أن دنيا الأدب قد افتقدت وجودهم، وخسرت موهبتهم التي لو زودت بالأدوات اللازمة لأثرت حياة الأدب في بلادنا إثراء حقيقيا نحن في اشد الحاجة إليه... ذلك أن هروب أصحاب الموهبة من حقل النقد الأدبي وتركه _ في معظم الأحيان، للدارسين الأكاديميين وهؤلاء بطبيعتهم علماء.. ولا يمكن لنا أن نطالبهم بتغيير هذه الطبيعة، لأن هذا أولا مستحيل، ولأننا ثانيا نحتاج إلى جهودهم العلمية أشد الاحتياج... 
والعالم يبحث عن الحقيقة بكل الوسائل الممكنة، وهو يخضع النص الأدبي لعملية تشريحية منهجية ليصل إلى أدق مكوناته وليعرف أدق أسراره، ومن هنا كانت أحكام العلماء في دنيا الأدب دقيقة اشد الدقة، حيادية اشد الحياد، ولكنها أحكام على جثة قد تمزقت أوصالها وتفتت أجزاؤها تحت مبضع العالم الذي لا يعرف في سبيل العلم عاطفة أو شفقة، وأخذ العلماء من الجزئيات الدلالات على الكليات، وخرجوا بالنتائج النقدية الكلية، التي أصبحت أحكاما ثابتة يخضع لها كل نص أدبي، ويجاز عندهم أن حققها ولا يجاز عندهم أن تتناقص معها أو تجاوزها أو أخل بأحد منطوقاتها. 
ومن هنا ظهرت القوالب الثابتة التي تحدد فنون الأدب، ومن هنا أيضا ظهرت الأحكام العامة التي تطلق على عصور الأدب، ومن هنا ثالثا كانت الأفكار الثابتة التي ألصقت بالمبدعين من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل. 
وقد وقر في آذانهم من أحكامهم العامة حول العصور، إن العصر الجاهلي عصر بداوة وأن العصر الأموي تميز بأقسامه الثلاثة الغزل النقائض والشعر السياسي، وأن العصر العباسي هو عصر العراقة في الشعر، وأن العصر العباسي الثاني هو عصر الانحلال والتخلف الفني وهذه الأحكام لا شك لأثرت على نظرتنا إلى هذا الشعر بوصفه عطاء فنيا، وأثرت أيضا في موقفنا التذوقي من إنتاج كل عصر وكتاب كل عصر. ولكنها الطريقة العلمية التي ارتضت الحركة السياسية أو العصور السياسية بمدها وجزرها لتلقي بأحكامها مستوحاة من المد والجزر السياسيين على انتج العصر الأدبي، ورجال العصر من المبدعين... والسياسة شيء متحرك، أي أن ما هو قائم اليوم إلى زوال غدا، فالتاريخ السياسي تاريخ حكومات وليس تاريخ الشعوب، بينما الفن شيء لا يزول، أي هو قائم بحكم كونه إنسانياً، ثابت بحكم كونه تعبيرا عن الشعب الذي لا يزول بزوال حكومته ولا يموت بموتها... ومن أحكامهم على الفنون ورثاء ونسيب وتشبيب وحكمة، فوضعوا الشعر من تراثنا داخل هذه القوالب إن طوعاً وان قسراً، ولكنه المنهج العلمي الذي نجم عن تشريح النص الأدبي لمعرفة مكوناته وخصائصه للخروج بالأحكام العامة طبقا لعملية التشريح العلمية والدقيقة لا شك. 
وان كان العلم يتطور، والبحث العلمي وراءه يغير من أحكامه لا انه في الحقيقة يترك حكما عاما قديما إلى حكم عام جديد، ويدور علماء كل عصر في حدود هذه الحركة العلمية أو من خلالها، أما النقد الأدبي الذي يجمع إلى العلم الموهبة الخلاقة فهو عطاء يتجاوز كل هذا إلى ما هو أجدر بالحياة وأكثر صلة بها، وأقرب إلى روح المبدع وروح النص معاً.

  • Currently 16/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 1911 مشاهدة
نشرت فى 9 مايو 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

383,531