كان الأستاذ أنتوني ستور يقول (لا يمكن لأي بلد غير فرنسا أن ينجب مفكراً من طراز ميشيل فوكو). فمع أن ميشيل فوكو Michel Foucault لايزال في الخمسينيات من عمره, فإنه أفلح - ومنذ سنوات - في أن يفرض نفسه على الحياة الأكاديمية والثقافية العامة في فرنسا, وأن يحتل مكانة مرموقة بين مجموعة المفكرين البنائيين الفرنسيين البارزين من أمثال ليفي ستروس وجاك لاكان ورولان بارت وغيرهم, وأن يحقق لنفسه شهرة واسعة عريضة تعدت حدود فرنسا وأوربا إلى بقية انحاء العالم بحيث أصبح يعتبر أحد (صنّاع) الفكر العالمي الحديث.
          وليس أدل على ذلك من أن إحدى الجامعات الأمريكية أقامت منذ عامين ندوة استغرقت ثلاثة أيام خصصتها كلها لمناقشة أعماله وآرائه وأفكاره ودعته لحضور بعض جلساتها التي شارك فيها عدد كبير من الفلاسفة والمفكرين والأساتذة, كما أنه يتردد بكثرة على أمريكا لالقاء محاضراته في عدد من جامعاتها حيث يستمع إليه أعداد وفيرة من الطلاب وعامة المثقفين, وذلك على الرغم من كل ما يتصف به تفكيره من صعوبة وتعقيد كما هو حال جميع البنائيين الفرنسيين باستثناء ليفي ستروس.
          ومع أن ميشيل فوكو يعتبر بوجه عام أحد أعمدة الفكر البنائي في فرنسا في الوقت الحالي فإنه هو نفسه يرفض أن يرتبط اسمه بأي مدرسة فكرية محددة, لأن ذلك من شأنه - كما يقول - أن يفرض قيوداً منهجية على فكره وكتاباته ويحد من انطلاق تفكيره. وقد كان من الطبيعي أن تختلف الآراء وبخاصة في إنجلترا وأمريكا حول مكانته وأصالة أفكاره وأهمية إسهاماته والدور الذي يلعبه في تشكيل العقل الحديث. ومعظم الأساتذة الأمريكيين يقفون منه بطبيعة الحال موقف المعارضة والنقد وإن كان منهم من يرتفع به إلى مستوى كبار الفلاسفة من أمثال فيتجنشتاين ونيتشه. فبينما نجد الأستاذ ليو برزاني أستاذ اللغة الفرنسية في جامعة بركلي بكاليفورنيا يصفه بأنه (ألمع الفلاسفة المعاصرين الذين تكلموا عن القوة) نجد أن بيتر جاي أستاذ التاريخ بجامعة بيل يتهمه بأنه لم يقم بأي بحث علمي بالمعنى الدقيق للكلمة, وإنما هو يرتاد مختلف الموضوعات فينتقل من موضوع لآخر منقاداً وراء غريزته البحتة بينما يقول كليفورد جيرتز أستاذ الأنثربولوجيا بجامعة برنستون (لقد أصبح ميشيل فوكو نوعاً غريباً من البشر ومشكلة يستحيل فهمها أو حتى الاقتراب منها, فهو مؤرخ يتنكر للتاريخ, وهو مفكر انساني ذو نزعات غير إنسانية, إنه مثال لما ينبغي أن يكون عليه المفكر الفرنسي في هذه الأيام, وأعني بذلك أن يكون غامضاً ومراوغاً). ويعزز الأستاذ هايدن هوايت هذا الحكم في مقال حديث نسبياً يصف فيه أسلوب فوكو بأنه مليء بالجمل الطويلة والاعتراضية, زاخر بالاقتباسات والتكرار والمفارقات, وأن كتاباته تتراوح بين الأسلوب التحليلي والأسلوب الشعري كما تقترن فيها المصطلحات العلمية بالعبارات والأوصاف الخيالية الأسطورية. ويصل الأمر بالأستاذ هوايت إلى حد اتهم فوكو بأنه يتعمّد استخدام هذا الأسلوب كنوع من الثورة والتمرد على فكرة (الوضوح) التي ورثها الفكر الفرنسي عن ديكارت من ناحية, وكنوع من الدفاع عن الذات من الناحية الأخرى, لأن غموض الأسلوب وتعقده يجعلان من الصعب تلخيص آرائه ونقدها والكشف عما بها من ثغرات وتناقضات. إلا أن كل هذه الانتقادات التي توجه إلى فوكو لم تمنع من أن تجد كتاباته ومحاضراته وندواته صدى عميقاً لها في أوساط المثقفين وبخاصة من الشباب في فرنسا وأمريكا, وإلى حد أقل في بريطانيا.
          والموضوعات نفسها التي يعالجها ميشيل فوكو في كتبه ومقالاته خليقة بأن تجذب إليها اهتمام القرّاء رغم غرابتها, أو ربما بسبب غرابتها وتنوعها وأسلوب معالجتها. وتتراوح هذه الموضوعات من كتاب عن (الأمراض العقلية وعلم النفس) الذي صدر لأول مرة عام 1954 تحت عنوان (الأمراض العقلية والشخصية) إلى كتابه عن (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي) الذي ترجم إلى الانجليزية بعنوان (الجنون والحضارة), الى كتابه عن (مولد العيادة) الذي يضع له عنواناً فرعياً هو (اركيولوجيا النظرة الطبية), إلى كتاب بعنوان (الكلمات والأشياء) ويضع له عنواناً فرعياً أيضاً هو (اركيولوجيا العلوم الإنسانية) إلى كتاب بعنوان (اركيولوجيا المعرفة) إلى كتيب آخر بعنوان (نظام المقال), إلى كتاب عن (التهذيب والعقاب) يضع له عنواناً فرعياً هو (مولد السجن). إلى مشروع لمؤلف ضخم عن (تاريخ الحياة الجنسية) ظهر منه الكتاب الأول الذي يعتبر بمنزلة مقدمة ومدخل عام 1976, ثم صدر الكتاب الثاني في العام الماضي, ولاتزال هناك أربعة مجلدات أخرى حتى يكتمل المشروع كله, إلى كتاب عن الأديب الفرنسي ريمون روسل الذي مات عام 1933.
          وعلى الرغم من كل ما قد يبدو في هذه العناوين من تفاوت وتباين فإنها كلها تدور حول نقطة واحدة مركزية هي (مشكلة القوة) ففي كل هذه الكتب يعرض فوكو بشكل أو بآخر للحرية الفردية والقهر الاجتماعي. ويظهر هذا واضحاً في المقالات والمحاضرات العديدة التي كتبها أو ألقاها في مناسبات مختلفة ثم جمع بعضها في كتاب بعنوان (القوة - المعرفة), وهو عنوان يكشف عن وجهة نظره في أن المعرفة تمنح صاحبها قوة هائلة تتيح له الفرصة للسيطرة على غيره من الناس. وخليق بالباحث أن يجد في حياة فوكو ذاتها بذور هذا الاتجاه الفلسفي, أي الاهتمام بمشكلة القوة وعنايته بدراسة الحرية الفردية والدفاع عنها ضد القهر الاجتماعي, سواء أكان ذلك القهر صادراً عن جماعة معينة بالذات أم من المجتمع ككل أم من الدولة التي تتمثل سلطتها بوجه خاص في القوة الحربية من ناحية وقوة الشرطة من الناحية الأخرى.
          ولد ميشيل فوكو في عام 1926 في مدينة بواتييه Poitiers حيث كان أبوه يعمل طبيباً وكان المفروض أن يدرس فوكو الطب, ولكنه انصرف إلى علم النفس والتحق لذلك بمدرسة المعلمين العليا (الايكول نورمال سوبيريور Ecole Normale Superieure) التي تخرج فيها عدد كبير من كبار الفلاسفة والمفكرين الفرنسيين, وتتلمذ فيها على الفيلسوف الماركسي الشهير لوي التوسير الذي سبق لنا الكتابة عنه في هذه المجلة, كما أنه تلقى تدريبه العملي في مستشفى سانت آن للأمراض العصبية والعقلية. ولكن الظاهر أن ميشيل فوكو لم يحب علم النفس أيضاً كما أنه كره فترة الاقامة في ذلك المستشفى الضخم الشهير, وهو نفسه يقول في ذلك (لقد شعرت بأنني أقرب إلى المرضى العقليين ولا أكاد أختلف عنهم تماماً, كما أنني كنت أشعر, بشيء من عدم الارتياح لمهنة الطب. وهناك في تلك المستشفى بزغت في ذهني مشكلة ماهية القوة الطبية ونوع السلطة التي تضفيها هذه القوة على من يمارس الطب). وقد اشتغل فوكو بعد تخرجه بتدريس الطب النفسي في باريس قبل أن يتولى عدة مناصب تعليمية أخرى في جامعة تونس وفي جامعة أبسالا في السويد حيث تولى تدريس اللغة الفرنسية, كما إنه شغل بعض المناصب الأخرى في وارسو وهامبورج. ويبدو أن خبرته في السويد وبولنده فتحت أمامه آفاقاً جديدة لمعرفة مقومات القوة في مختلف مظاهرها وأشكالها. وهونفسه يقول في ذلك: (لقد عشت في السويد بلد الحرية, ثم عشت في بولنده وهي بلد يختلف كل الاختلاف عن السويد في هذا المجال, وقد بينت لي هذه التجارب أنه أيا ما يكون النظام القانوني فإن أساليب وأجهزة القوة تقهر الفرد وتتحكم في سلوكه وتوجهه توجيهاً معيناً يستهدف تطبيع ذلك الفرد وتطويعه).
          وأخيراً شغل ميشيل فوكو كرسي (تاريخ انساق الفكر) في الكوليج دي فرانس حيث يعمل الآن, وكما هو الحال بالنسبة للكثير من المثقفين الفرنسيين من أبناء جيله انضم فوكو إلى الحزب الشيوعي الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية, ولكنه لم يستمر طويلاً وترك الحزب بعد عامين اثنين فقط, وكان يقول إن الماركسية أثارت في نفسه الكثير من الاهتمامات, ولكنها أخفقت في اشباع هذه الاهتمامات اخفاقاً شنيعاً. بل إنه ذهب إلى حد القول (إن الماركسية كانت تجتذب إليها الشباب ولكنهم كانوا يدركون بسرعة أنها مجرد نوع من أحلام المراهقة التي تدور حول إمكان وجود عالم آخر أفضل من هذا العالم الذي نعيش فيه).
          حين ابتكر ميشيل فوكو لنفسه ذلك التخصص الجديد الذي أضفى عليه اسم (تاريخ انساق الفكر) وشغل الكرسي الذي يحمل اسم هذا التخصص في الكوليج دي فرانس عكف على معالجة (التاريخ) بأسلوب يختلف اختلافاً كبيراً عن الأسلوب الذي يتبعه أغلب المؤرخين المحدثين والمعاصرين الذين ينظرون إلى التاريخ على أنه عملية منفصلة, وأنه (يتدفق) باستمرار وينساب بغير توقف في مجرى معين بالذات, ويرون أن وظيفة المؤرخ الأساسية تنحصر في تحديد ذلك التدفق وتتبع اتجاهه للتعرف على ما إذا كان يتجه نحو الحرية مثلا أو نحو الرأسمالية أو نحو تكوين الدولة القومية وما إلى ذلك.
          هذا الموقف يعارضه فوكو الذي يرى أن هذا التدفق تعترضه بعض (الانقطاعات) الحادة الواضحة التي تفصل المراحل التاريخية الكبرى الواحدة عن الأخرى والتي يمثل كل منها قيام عصر جديد يتولى بنفسه خلق وابتكار الاطار العقلي الخاص به والذي يعبر عن نظرته الى العالم, وتتم هذه العملية بطريقة لاشعورية.
          ويطلق فوكو على ذلك الاطار كلمة (ابستيمة Episteme) وهو مصطلح متسمد من الكلمة اليونانية التي تشير إلى العلم والمعرفة, ولذا يمكن ترجمتها بعبارة (اطار المعرفة). ويحدد فوكو ثلاثة (انقطاعات) أساسية بالذات يتميز كل منها بإطار معرفي متميز: الأول حدث في أواسط القرن السابع عشر وأدى إلى القضاء على الاتجاه الذي كان سائداً من قبل نحو إبراز وتوكيد أوجه الشبه بين مختلف الأشياء أو بين (كل مخلوقات الله) حسب ما يقول أوتو فريدريش Otto Friedrich وظهور الميل الذي ساعد (عصر العقل) نحو إبراز وتوكيد أوجه التفاوت والاختلاف والتفاضل بين الأشياء, وهو ميل سيطر على تفكير القرن الثامن عشر بوجه خاص. ثم حدث (القطع) الثاني العام بعد الثورة الفرنسية بقليل, وهو يتمثل في ظهور فكرة التقدم التطوري في المجالين الاجتماعي والعلمي على السواء. وتعتبر هذه الفكرة بمنزلة الاطار المعرفي الذي يميز العصر الحديث ويسيطر عليه سيطرة تكاد تكون تامة. ويمر العالم الآن في رأي ميشيل فوكو, بما قد يتبلور عن ظهور (قطع) ثالث في مجرى التاريخ.
          ورغم كل ما كتبه حول هذه النقطة فإنه لم يقدم لنا أي تحديد دقيق واضح المعالم لذلك (القطع) كما أنه لم يقدم أي تفسير مقنع عن الطريقة التي تتم بها هذه التوقفات والانكسارات أو الانقطاعات وأسباب حدوثها,
          ولكن إذا كانت (المعرفة قوة) كما يقول ميشيل فوكو, فإنه انتهى من ذلك الى الاعتقاد بأن القوة والمعرفة تتضمن إحداهما الأخرى بالضرورة, وإن كلا منهما تتطلب الأخرى وتؤدي إليها. وعلى هذا الأساس, فإذا كان كل عصر من العصور التي تكلم عنها قد أفلح في تكوين وتطوير وإبراز صور وأشكال معرفية جديدة تعبر عن ذلك العصر ومقومات الحياة فيه ويمكن عن طريقها التعرف عليه, فإن هذا معناه في آخر الأمر أن كل عصر من هذه العصور إنما كان يمارس في حقيقة الأمر أشكالاً جديدة من القوة.
          وليست القوة الحربية وقوة الشرطة هما الشكلان الوحيدان للقوة في المجتمع الإنساني وإن كانا - بغير شك - أوضح أشكالها, وإنما هناك أشكال أخرى عدة يمكن الاستدلال عليها عن طريق النظر في المجتمع والحياة. فكل تراكم للمعرفة الاجتماعية, وكل نوع من أنواع البحث والدراسة والتنميط والتصنيف والحكم هو في حقيقة الأمر صورة من صور ممارسة القوة, بل إن فوكو يذهب إلى أبعد من ذلك فيقول إن مختلف فئات الناس الذين يؤدون أدواراً معينة بالذات في الحياة مثل الأطباء والمدرسين ورجال الدين ومن اليهم يشاركون مشاركة فعّالة في ممارسة القوة. ولكن الأهم من ذلك كله والأشد خطورة هو أن المواطن في المجتمع الحديث يتم تدريبه وإعداده لكي يمارس قوة الدولة على غيره من المواطنين مثلما يمارسها على نفسه هو أيضاً. وكما يقول في كتابه (التهذيب والطاعة) فإن الطاغية الغبي قد يضطهد العبيد ويقهرهم مستخدماً في ذلك السلاسل الحديدية, ولكن السياسي الحقيقي الماهر يستطيع أن يقيدهم بسلاسل أقوى من سلاسل الحديد عن طريق أفكارهم هم أنفسهم, وهو قيد يستمد قوته من أننا لا نعرف المادة التي صنع منها). ويعلق أوتو فريدريش على ذلك بقوله: (إن هذا القيد المؤلف من الأفكار ومن ذلك التراكم الضخم من الاختبارات والفحوص والتعاريف والقواعد والقوانين.. ذلك السجن العقلي أو الفكري, ليس في آخر الأمر سوى الإنسان نفسه, وليس من شك في أن هذه الأفكار السوداء المظلمة التي تتردد في كتابات ميشيل فوكو عن قوة القهر الاجتماعي وضياع الحرية الفردية نبعت إلى حد ما على الأقل في ذهنه نتيجة للمعاناة الطويلة التي مر بها في شبابه أثناء خضوع فرنسا للحكم النازي.
          وعلى أي حال, فإن شغل ميشيل فوكو لكرسي تاريخ انساق الفكر في الكوليج دي فرانس كان يملي عليه أن تكون نظرته للتاريخ نظرة أعم وأشمل من نظرة المؤرخ العادي الذي يهتم بتسجيل وتتبع الأحداث الفردية في فترة زمنية معينة أو في مجتمع معين بالذات, ولذا جاءت كتابات فوكو على درجة عالية من التجريد والشمول في الوقت ذاته. ولكن هذا لا يعني أبداً أنه لم يكن يهتم بالأحداث والوقائع الجزئية. بل الأمر على العكس من ذلك تماماً كما يتضح من كتبه الرئيسية مثل كتاب (اركيولوجيا المعرفة), وإن كان هذا لا يظهر بالدرجة نفسها في مقالاته وأحاديثه ومقابلاته الصحفية. إلا أن فوكو يتناول هذه الأحداث والوقائع بطريقة متميزة تكشف عن أصالة تفكيره وعن نوعية عقليته التحليلية التي يستطيع بها أن يعيد ترتيب الوقائع الماضية بطريقة تساعد على إلقاء كثير من الأضواء على الحاضر.
          ولقد نجح فوكو بهذه الطريقة في أن يثير الاهتمام بأمور كانت تبدو عادية جداً ومقبولة من الجميع ولا تحتاج إلى دراسة أو فحص أو تساؤل أو تفسير وتأويل. ففي إحدى المقابلات التلفزيونية انهى فوكو حديثه بملاحظة فريدة قلما تصدر - حسب قول الأستاذ إيان هاكنج الذي يروي القصة - من غير فوكو من الكتّاب والمفكرين, وذلك حينما سئل فجأة وعلى غير توقع منه إذا ما كان يعرف متى بدأ الناس يستخدمون (الزجاجة) في إرضاع أطفالهم, أو على الأقل متى دخلت هذه الطريقة إلى فرنسا? واعترف فوكو بعدم المعرفة, ولكنه أبدى سروره واغتباطه لاثارة هذا التساؤل وأنه سيكون سعيداً إذا وجد من يقدم له الجواب, ثم أنحى على نفسه باللوم الشديد لأنه لم يخطر على باله أن يسأل نفسه مثل هذا السؤال, وهذا المثال كفيل بأن يبين لنا جانباً من الأمور والمسائل التي كثيراً ما تجذب إليها انتباه فوكو وتثير اهتمامه, وهي أمور لا يشغل المؤرخ التقليدي بها نفسه في العادة.
          والواقع أن أبحاث فوكو التاريخية ادت به إلى اكتشاف عدد هائل من الوثائق التي ينشرها من حين لآخر في مجلدات منفصلة, لكي تعزز من آرائه النظرية وتؤكدها, أي أن هذه الوثائق تعتبر بمنزلة أدلة وبيانات وشهادات حية على الآراء النظرية. من ذلك مثلاً أنه في أثناء بحوثه في الجريمة عثر على إحدى الوثائق التي كتبها شخص يدعى بيير ريفيير يعترف فيها بأنه قتل أمه وأخته وأخاه. ووجد فوكو أن الطريقة التي تم بها تسجيل الاعتراف تحتاج إلى تحليل للتعرف على الدوافع الخفية التي دفعت المجرم إلى ارتكاب جريمته. ونشر الوثيقة في كتاب يحمل (كعنوان له) نفس الجملة التي افتتح بها المجرم اعترافه وهي (أنا بيير ريفيير: أقر وأعترف بأنني قتلت أمي وأختي وأخي), ثم تولى مجموعة من زملائه تحليل النص والتعليق عليه. كذلك أدت دراساته عن الحياة الجنسية إلى العثور على وثيقة أخرى ظهرت بعنوان (ايركولين باربان وهي عبارة عن مذكرات اكتشفت حديثاً بقلم خنثى فرنسية في القرن التاسع عشر), وكتب لها مقدمة بدأها بعبارة تكشف عن نوع أسلوبه حيث يقول: (هل نحن في حاجة حقيقية لحياة جنسية حقيقية?), أما آخر اكتشافاته في هذا المجال والتي ظهرت منذ فترة قصيرة في شكل كتاب فهي عبارة عن مجموعة من (الحالات) التي ترجع إلى القرن الثامن عشر والتي تدور كلها حول عدد من الأشخاص يناشدون السلطات الباريسية أن تعتقل زوجاتهم وأولادهم وتودعهم السجن لأسباب عدة وردت في طلباتهم وعرائضهم. ويقول فوكو في ذلك (إن هذه المجموعة من الحالات تمثل أحد مظاهر الصراع في العائلة وتكشف عن علاقة العائلة بالقوة أو السلطة).
          وهذا كله يوضح لنا لماذا كان المؤرخون الفرنسيون المعاصرون يوجهون اللوم لميشيل فوكو ويتهمونه بأن دراساته وأفكاره هي أفكار شخصية ومجرد انطباعات لا ترقى إلى مستوى العلم بالمعنى الدقيق للكلمة. ولكن فوكو لا يهتم بمثل هذه الاعتراضات ويرد عليها بأنه ليس من الصعب أبداً أن يكون الانسان مؤرخاً بالمعنى السائد لهذه الكلمة, كما يعترف بأن نوع التساؤلات التي يثيرها والمشاكل التي يهتم بها تتطلب نوعاً معيناً من العقلية التي يصفها هو نفسه بأنها (عقلية ملتوية) مثل عقليته, حتى تستطيع أن تنتبه إلى مثل هذه الأمور والمشكلات (الملتوية), وأن علماء التاريخ لا يدخلون في الأغلب ضمن هذه الزمرة من الرجال. وليس معنى هذا أن فوكو كان يصل دائماً إلى حلول نهائية للمشكلات التي يعرض لها, فالذي كان يعنيه في المحل الأول هو تحليل هذه الوقائع والأحداث وإبرازها للقارئ وتبين الدوافع الخفية التي تكمن وراءها وإثارة الجدل والنقاش حولها.
          وإذا كانت آراء فوكو تبدو في كثير من الأحيان متناقضة وناقصة فإن ذلك يرجع إلى حد كبير إلى أنها لاتزال حتى الآن تدور في ذهنه باستمرار. والمهم هو أنه يعالج بكل شجاعة كثيراً من المسائل والمشكلات التي لم تطرأ على بال غيره أو التي يتجنب غيره الحديث فيها. وهذا هو السبب في اختلاف الآراء حوله وفي صعوبة إصدار حكم نهائي حول إسهاماته الفكرية, خاصة وأنه لايزال في الخمسينيات من عمره كما أنه خصب الانتاج ولايزال يكتب بشكل مطرد ومستمر. ومن الطريف أن نذكر أن أنتوني ستور الذي قال عنه عبارته المشهورة: (لا يمكن لأي بلد غير فرنسا أن تنجب مفكراً من طراز ميشيل فوكو, يعتقد أنه سوف ينتهي في آخر الأمر إلى ما انتهى إليه زميل له من قبل من أتباع المدرسة البنائية الفرنسية وهو جاك لاكان الذي بدأ الاهتمام بكتاباته ينحسر بسرعة بعد مماته.
          ولكننا من الناحية الأخرى نجد كاتباً ناقداً مثل آلان شريدان يقول في كتاب له عن ميشيل فوكو: (قد يكون من الصعب العثور على مفكر له من التأثير على الربع الأخير من هذا القرن مثل ما كان لينتشه على الربع الأول منه, ولكن إنجازات فوكو حتى الآن تؤهله أكثر من غيره من المفكرين لشغل هذه المكانة).
          وأعتقد أن حكم الآن شريدان لا يخلو من الصواب!
 

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 982 مشاهدة
نشرت فى 2 مايو 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

378,482