الصراع العربي الإسرائيلي، له أبعاد مثيرة ومتعددة. ساعة تبدو عناصره الأساسية بسيطة واضحة، وساعة تبدو معقدة التركيب إلى آخر الحدود.

          ولسنا نعني هنا، فضلا عن اننا لا نقوى ـ في  عرض سريع ـ على ملاحقة التطورات المتسارعة لهذا الصراع. ولكن من الممكن أو من الضروري التعرض للخطوط الكبرى والأهداف العامة لقضيتنا العربية ازاء اسرائيل، خصوصا اذا كانت معها خلفية فكرية أو ثقافية.

          الحرب والسلم، او اللاحرب واللا سلم، علاقات تتوالى بين الدول، أو الشعوب، أو القوميات أو النظم.

          وتتراوح حظوظ الاطراف يوما عن يوم، تبعا لعلاقات القوة في فترة ما، وللظروف المحلية، والظروف الدولية، وغيرها.. خصوصا ونحن في عالم يزداد تقاربا وتأثرا متبادلا، فلم تعد هناك أزمة او مشكلة أو قضية، يمكن عزلها عن ظروف العالم الذي نعيش فيه، وتفاعلاته المتغيرة.

          من هذا المنطلق، كنت ولا ازال لا اتصور للصراع العربي الاسرائيلي إلا نهاية بعيدة. قد تتوالى الفصول وتتعدد الوقفات والنهايات الوقتية. ولكن نهاية (طبيعية) حقيقية، لا سياسية فحسب، لن تكون الا بوجود مجتمع يهودي، مهما كان الاسم السياسي الذي سوف يحمله، يعيش تحت ظل وارف من وجود مجتمع عربي واسع كاليم، له قيمه الحضارية والانسانية التي تتسع لهذا الوجود وامثاله في البحر العربي الفسيح.

          بمنعى آخر: مجتمع يهودي يرضى عنه العرب، بل ويكونون هم حفاظ عليه.. وليس (قوة كبرى محلية)، روابطها وشخصيتها اجنبية تماما، تمارس دور الارهاب والفرض والاقتناص من هذا العالم العربي الفسيح.

          والتاريخ لا يكرر نفسه، على الاقل لا يكرر نفسه بنفس الاسلوب. ولكن هذا لا ينزع عن الشهادة التاريخية قيمتها تماما. ذلك ان التاريخ لا تتكون احداثه من فراغ، ولكن وقائعه تنشأ من ظروف معينة. فهو يتشابه ولو بوسائل شتى بتشابه الظروف.

          والظرف المتشابه الذي ينطلق منه تفكيرنا، هو وجود حضارة عربية قوية متجددة، يمتزج فيها أحسن ما في ماضيها بأحسن ما يمكن ان نحققه في حاضرها ومستقبلها.

          لو قام هذا الظرف ـ وما أظن الا انه يوما سيقوم ـ فلا يمكن تصور اي صيغة اخرى للعلاقة العربية الاسرائىلية.. اوغيرها من العلاقات في المنطقة.

          وقبل ان نخوض في المراجع الاسرائيلية، من حقنا ان نعود إلى مؤلفات المؤرخ العربي الكبير النزيه عبدالله عنان، اهم من ارخ للاندلس في العصور الحديثة.

          ينقل الاستاذ عبدالله عنان عن (ابن خلدون) قوله: ان شمال إفريقيا الغربي كانت توجد فيه قبل الفتح الاسلامي قبائل يهودية، تلقت تعاليمها الدينية من بني اسرائيل في المشرق. ولكن تلك الاقطار كانت تحت حكم الامبراطورية قبل الاسلام. وكانت تتعرض لغزوات (الوندال) من شواطىء فرنسا واسبانيا. وكانت الامبراطورية الرومانية تعمل على تنصير الاهالي بالقوة. فمنهم من تنصر ومنهم من تعرض لعذاب شديد.

          (وكان يهود الجزيرة (شبه جزيرة ايبيريا التي هي حاليا اسبانيا والبرتغال) كتلة كبيرة عاملة، ولكنهم كانوا موضع البغض والتعصب والتحامل، يعانون اشنع الوان الجور والاضطهاد. وكانت الكنيسة منذ اشتد ساعدها ونفوذها تحاول تنصير اليهود، وتتوسل الى تحقيق غايتها بالعنف والمطاردة. ففي عهد الملك سيزبوت فرض التنصر على اليهود أو النفي أو المصادرة، فاعتنق النصرانية كثير منهم كرها ورياء (سنة 616 ميلادية). ثم توالت عليهم بعد ذلك صنوف الاضطهاد والمحن، حتى ركنوا مرة إلى التآمر وتدبير الثورة، وتفاهموا مع يهود المغرب على المؤازرة والتعاون. ولكن المؤامرة اكتشفت قبل نضجها (694 ميلادية)، وكان ذلك في عهد الملك راجيكا، فقرر ان يشتد في معاقبتهم، واجتمع مؤتمر الاحبار في طليطلة للنظر في ذلك. واجاب الملك إلى ما طلبه، وقرر معاقبة اليهود باعتبارهم خوارج على الدولة يتآمرون على سلامتها، ولانهم ارتدوا عن النصرانية التي اعتنقوها من قبل. وقرر ان ينزع املاكهم في سائر الولايات الاسبانية وان تحول إلى جانب العرش، وان يشردوا ويقضى عليهم بالرق الابدي للنصارى. وان يهبهم الملك عبيدا لمن يشاء، وألا يسمح لهم باسترداد حرياتهم ما بقوا على اليهودية، وان ينزع ابناؤهم منذ السابعة ويربون على دين النصرانية. والا يتزوج عبد يهودي إلا بنصرانية، ولا تتزوج يهودية إلا بنصراني. وهكذا عصفت يد البطش والمطاردة باليهود ايما عصف. فكانوا قبيل الفتح الاسلامي ضحية ظلم لا يطاق وكانوا يتوقون إلى الخلاص من هذا النير الجائر، ويرون في اولئك الفاتحين الذين يتركون للناس حرية الضمائر والشعائر مقابل جزية ضئيلة، ملائكه منقذين).

          كانت هذه الصورة للواقع اليهودي في المغرب والاندلس بين سنتي 616 و694 ميلادية تقابل ـ في المشرق ـ الفترة الواقعة بين الهجرة النبوية تقريبا وخلافة عمر وفتح الشام وفارس ومصر والعراق، وخلافة علي. وقيام الدولة الاموية، ثم اول اصطدامات ضد البيزنطيين في ديارهم ذاتها، واول حصار للقسطنطينية سنة 679 ميلادية. ولم يتأخر فتح الاندلس (711) كثيرا.

          ولاشك ان كسر العرب لشوكة الامبراطورية الرومانية في عقر دارها، كان أكبر عامل لسكان شمال افريقيا واسبانيا على الثورة، واكبر امل لهم في الخلاص.

          ولذلك لم يكن غريبا، حين عبر طارق بن زياد بجيوشه إلى اسبانيا، ان (اليهود كانوا يعاونون المسلمين في تلك الفتوح.. وعندما وصل طارق بن زياد بجيوشه إلى طليطلة مخترقا هضاب الاندلس.. كان القوط قد فروا، ولم يبق بها سوى اليهود وقليل من النصارى، فاستولى طارق عليها، وابقى على من بقى من سكانها، وترك لاهلها الكنائس، وترك لاحبارها حرية اقامة الشعائر الدينية.

          يقول المؤرخ الامريكي سكوت (.. كان دفع الجزية يضمن الحماية لاقل الناس، وكان يسمح للورع المتعصب ان يزاول شعائره دون تدخل، كما يسمح للملحد ان يجاهر بآرائه دون خشية المطاردة، والاحبار يزاولون شئونهم في سلام!).

          حرية الرأي والدين والعقيدة، كانت مفتاح الحضارة العربية الذي فتحت به الابواب على ظلام العصور الوسطى في اوربا نفسها. ومازالت ولا تزال في كل مكان مفتاح كل تقدم.

          يقول المستشرق الاسباني جاينجوس (لقد سطعت في اسبانيا اول اشعة لتلك المدنية التي نثرت ضوءها فيما بعد على جميع الامم النصرانية، وفي مدارس قرطبة وطليطلة العربية، جمعت الجذوات الاخيرة للعلوم اليونانية بعد ان أشرفت على الانطفاء. وإلى حكمة العرب، وذكائهم يرجع الفضل في كثير من أهم المخترعات الحديثة وأنفعها).

          ويقول المؤرخ لين بول (انشأ العرب حكومة قرطبة التي كانت اعجوبة العصور الوسطى! بينما كانت اوربا تتخبط في ظلمات الجهل، فلم يكن سوى المسلمين من اقام بها منائر العلم والمدنية).

          ويعود الاستاذ عبدالله عنان، وقد استقرت الاندلس وازدهرت فيقول في سياق حديثه (اما اليهود فقد كانت منهم اقليات في معظم المدن الأندلسية تتمتع بحماية الحكومات الاسلامية ورعايتها. وقد ازدهرت هذه الاقليات اليهودية فيما بعد، وظهر منها شخصيات بارزة تولت مناصب كبيرة في الدولة، وغلب نفوذها في بعض المناطق، كما حدث في مملكة غرناطة، وظهرت كذلك في ميدان العلوم والآداب، ونبغ عنها علماء نابهون مثل ابن ميمون وغيره).

          وفي سياق آخر من تاريخ عبدالله عنان الضخم عن الاندلس، يروى ان الاندلس كانت اول بلد في أوربا تشيع فيه القراءة والكتابة بين الناس، بينما كانت في بقية اوربا مقصورة تقريبا على رجال الدين. وفي عصر (الحكم المستنصر) الذي انشأ المكتبة الاموية الكبرى، شاع اقتناء الكتب واقتناء المكتبات الخاصة (وكانت سوق الكتب في قرطبة من اشهر الاسواق واحفلها بالحركة، وسرى هذا الشغف باقتناء الكتب إلى النصارى واليهود) بعد ان شاعت اللغة العربية بينهم (وكان كثيرون منهم يتذوقون ثمرات التفكير العربي من ادب وشعر وفلسفة وغيرها، وكان من اشهر هؤلاء الطبيب اليهودي حسداي، طبيب الحكم الخاص، وفي ظله وتحت رعايته كتب يهود قرطبة باللغة العربية، وألفوا بها مختلف الكتب. وكان من اشهر المكتبات الخاصة فيما بعد، مكتبة يوسف بن اسماعيل ابن نغرالة اليهودي، وزير باديس أمير غرناطة).

          ومن اكثر الفقرات دلالة، قوله (ويجب أخيرا ألا ننسى الاقلية اليهودية. فقد عومل اليهود منذ الفتح بمنتهى الرفق والرعاية، وازدهرت أعمالهم التجارية والصناعية في ظل ذلك التسامح الإسلامي المأثور. ووصلوا في قرطبة في ظل الخلافة إلى ذروة النفوذ والرخاء. وفي ايام الناصر تولى احدهم، وهو العلامة حسداي بن شبروت، الاشراف على الخزانة العامة، وكان قبل ذلك قد حظي برعاية الناصر لخدماته الدبلوماسية، وترجمته لكتاب ديستوريدس عن الاعشاب الطبية، من اليونانية إلى العربية، وهو الكتاب الذي اهدى قيصر منه نسخة إلى الناصر. وفي ظل هذه الرعاية، وفد كثير من العلماء والادباء اليهود إلى قرطبة، ايام الناصر وولده الحكم، وقامت في ظل نشاطهم مدرسة قرطبة التلمودية، ومؤسسها الرابي بن حنوش، وازدهرت في ظلها البحوث التلمودية، وغدت مركز الرياسة والتوجيه لهذه البحوث. واستمرت الخلافة الاخوية، ومن بعدها حكومات الطوائف على رعاية الاقلية اليهودية وتشجيعها. وكان يهود قرطبة يرتدون الزي العربي، ويتخلقون بالتقاليد والعادات العربية، ويمتازون بثرائهم ومظاهرهم الفخمة).

          وفي بحث حديث جدا، منشور منذ شهور قليلة، للكاتب الاسرائيلي (الفريد مورابيا) عنوانه (الثقافة اليهودية في اسبانيا الإسلامية)، نجده يعطينا تقريبا نفس الصورة التي رسمها المؤرخ العربي الكبير. ومن اخذ عنهم من المؤرخين الاسبان.

          ويستهل (الفريد مورابيا) دراسته بكلمة للاستاذ ج. فاجولا، يقول فيها (لم يحدث طيلة العصور الاولى وحتى آخر القرون الوسطى ان حققت اليهودية المبعثرة ذاتها في بيئة غير يهودية، كما فعلت في اسبانيا). يقصد بذلك العصر الاندلسي الاسلامي هناك.

          ومعظم هذا البحث، يقدم لنا ما يشبه القائمة الطويلة لاسماء  اهم اليهود الذين ترعرعوا في ظل الدولة الاسلامية في الاندلس وتأثروا بها وتركوا لليهود أهم تراثهم.

          وهو يركز ـ من باب الاختصار ـ اختياره في مجالات أربعة هي: الدين، واللغة، والشعر، والفلسفة.

          والقائمة طويلة جدا..

          ولكن، يكفي تسجيل بعض الملاحظات عليها:

          اولا ـ ان القائمة، التي هي على سبيل المثال لا الحصر، طويلة جدا وغزيرة. وان أبحاث هؤلاء العلماء لم تتناول فقط علوم الحياة كالطب والهندسة. ولكن الكثير منها تخصص اما في تعميق وايجاد اسس للغة العبرية، واما لتعميق وتحليل وشرح اسس الديانة اليهودية.

          والدين واللغة امران من أهم الامور التي تحفظ استمرار اي شعب. والتسامح الاسلامي في هذا المجال بالذات يلفت النظر وله اهمية خاصة. لانه يدل على اتساع الحضارة الاسلامية العربية لهذه الاعمال التي اصبحت اهم مراجع التراث اليهودي. في حين كان الشائع في غير ذلك العصر، تشجيع اصحاب الاديان الاخرى فقط على الامور الدنيوية من طب وهندسة، لانها تفيد الجميع.

          ومؤرخون يهود ـ مثل ابا ايبان وزير خارجية اسرائيل السابق ـ يحاولون اذا ذكروا فضيلة التسامح ان يبرروا بروز اليهود بأبحاثهم الدنيوية فقط، أو كفاءتهم في الطب مثلا. وسنعود لذلك بعد قليل.

          ولكن دلالة التسامح والتشجيع في صدد دراسات تستكمل وضع قواعد اللغة العبرية والديانة اليهودية، اكبر واعمق، فهي تدل فوق استنارة السلطة الحاكمة وتسامحها في حرية العقيدة، على ثقة هائلة بالنفس.

          ثانيا ـ ان معظم هذا التراث اليهودي، في تلك المواضيع وغيرها مكتوب باللغة العربية التي كان يتعلمها ويتقنها هؤلاء. وابا ايبان نفسه يعترف في احد كتبه بأن حوالي 60 في المائة من التراث اليهودي مازال غير مترجم الى العبرية بعد.

          ثالثا ـ ان هؤلاء المؤلفين، لم يكن عملهم مقصورا على انتاجهم هذا في الاندلس الاسلامية فقط. انما نجد الكثير منهم جابوا آفاق العالم الاسلامي العربي في ذلك الوقت من بغداد شرقا إلى طليطلة غربا. بعضهم طلبا للعلم. وبعضهم لينشر افكاره عن اليهودية بين يهود العالم العربي في شتى اماكنهم، كما يقول المؤلف الإسرائيلي الفريد مورابيا في بحثه هذا الذي نعرض له! كان التسامح اذن يشملهم في كل العالم العربي الاسلامي، بينما كانوا لا يجسرون على الحركة في نصف العالم الآخر في ذلك الوقت: كل ما هو شمال البحر الابيض من دول أوربية مسيحية، فنجد مثلا:

          إسحق الفاسي، الذي ولد في (قلعة حماد) بالقرب من قسنطينة (الجزائر الآن) واستمد اسمه من فاس التي عاش فيها معظم عمره، وتلقى دروسه في القيروان. وعاش حتى الخامسة والسبعين من عمره بين المغرب والاندلس. يقول المؤلف الإسرائيلي انه من اهم من فسروا التلمود، ونشر تعاليمه بين تلاميذه مثل يوسف بن ميجاش ويهوذا هالفي، وافرايم الحمادي (نسبة لقلعة بن حماد) وباروخ بن الباليه، وكان يرسلهم الى انحاءالعالم الاسلامي حيثما وُجد مجتمع يهودي لنشر تعاليمه.

          ـ مناحم ابن ساروق، صاحب اهم قاموس عبري تلمودي إلى الآن.. والوحيد الذي كتب قاموسا حتى ذلك الوقت بالعبرية مباشرة، اذ كان معظم الكتاب اليهود يكتبون بالعربية، ثم تترجم بعض اعمالهم إلى العبرية.

          ـ دوناش بن الابرط. الذي ولد في بغداد، وتتلمذ على يد (سعيد بن جاعون) ثم جاب العالم العربي حتى استقر في فاس. وكان لغويا وشاعرا.

          ـ يهودا بن داود الذي يعتبر مؤسس قواعد اللغة العبرية إلى الآن، وقد ولد في فاس. وكتب مؤلفاته في تأصيل قواعد اللغة العبرية باللغة العربية، وترجمت بعد ذلك. واستعان بكثير من قواعد اللغة العربية في وضع قواعد جديدة للغة العبرية.

          ـ موسى بن عزرا: احد اهم الشعراء العبرانيين. واهم مؤلفاته اسمه بالعربية (كتاب المحاضرة والمذاكرة).

          ـ يهودا الحريزي الذي وصفه المؤلف بأنه كان يسافر كثيرا بين الاندلس، ومصر، وفلسطين، سوريا، وما بين النهرين (اي العراق) يقدم اعماله الفنية والفكرية لكل مجتمع يهودي. وهو اول من اخذ شعر (المقامات) من العرب واستخدمها باللغة العبرية.

          ـ وفي مجال الفلسفة يقول الباحث الاسرائيلي إن الاندلس الاسلامية كما اعطت للعالم ابن طفيل وابن رشد وغيرهما، فقد تربى ونشأ في اعقابهم اهم فلاسفة اليهودية مثل (باهي باقودة) الذي الف احد اهم كتب الفلسفة اليهودية بعنوان (كتاب الهداية إلى فرائض القلوب ولم يترجم كتابه إلى العبرية الا بعد مائة سنة من تأليفه.

          .. إلى آخره.. إلى آخره..

          واذا عدنا بعد ذلك إلى (ابا ايبان) (المورخ والسياسي قبل ان يكون استاذ تاريخ، نجده لا ينكر شيئا من هذا في الاساس..

          بل يقول في كتابه (قصة اليهود) ان اليهود لم يعرفوا درجة من الازدهار وتحقيق الذات طوال التاريخ كله الا مرتين: مرة في الولايات المتحدة الامريكية اليوم، ومرة في الاندلس الاسلامية منذ قرون!

          ونقول له ان هناك مع ذلك فارقا: فما وصلوا اليه في الولايات المتحدة جاء بعد العصر الحديث وانتشار التنوير في العالم كله.. في حين انهم وصلوا إلى ذلك في الاندلس، في العصور الوسطى. ووسط ظلامها، وفي اوج التعصب والاضطهاد الديني في اوربا!

          ثم ان ابا ايبان ـ كما سبق وذكرت ـ يركز على الذين برزوا في ظل العالم العربي في تلك الحقبة بمهاراتهم الشخصية في الطب أو المال أو الهندسة او الترجمة. ومن الطبيعي ألا يبرز ولا يوضع في كتب التاريخ الا اسماء الاكفاء والمشهورين.. ولكن اليس هذا البروز بحاجة، فوق الكفاءة، الى شيء آخر.. وهو جو التسامح واحترام حرية العقيدة?

          ان النابهين لا يبرزون فجأة في عصر دون عصر. ولا في قطر دون قطر. انما يبرزهم عنصر أساسي يسمح للموهبة أن تتفتح إلى أقصى قدراتها. وذلك هو جو احترام حرية العقيدة.

          والغريب ان ابا ايبان يقول في احدى صفحات كتابه عن (قصة اليهود) ان سبب بروزهم قام على اتقانهم اللغات المختلفة، بحكم وجودهم في اقطار مختلفة. وبالتالي كانوا ضروريين للنقل والترجمة بين تلك الاقطار. وبين عالم العرب وعالم اوربا مثلا في تلك الحقبة التي نتحدث عنها. وهو من حيث لا يشعر يحاول ان يجعل هذا دورا خالدا لليهود، يميزهم عن سائر الدنيا، ويجعلهم ضروريين لتسيير هذه الدنيا.

          وهو بهذا يهزم قضيته من وجوه كثيرة دون ان يدري.

          صحيح انهم قاموا طويلا بدور المبعوثين والمترجمين بين الدول..

          ولكن هذا يفترض دوام وجودهم في (الشتات)، بعكس العقيدة الصهيونية التي تريد جمعهم في وطن واحد.

          ثم ان هذا كان مفهوما في عالم كانت القراءة والكتابة ودراسة اللغات كلها مقصورة على القلة النادرة، لضرورات الفكر والاطلاع أو لضرورات العامل التجاري والسياسي. وكانت مقصورة تقريبا على رجال الدين.

          اما الآن، وقد اصبح التعليم ومعرفة اللغات شيئا شائعا وأساسيا بل ومفترضا وجوده في اي مجتمع انساني.. فان هذه الوظيفة الخاصة قد انتهى دورها. ولم يعد دور اليهودي العالمي مطلوبا!

          والواقع ان الإسرائيلي حين يكتب يحتار دائما بين اختيار دور المواطن الصهيوني وبين دور المواطن العالمي. وهما نظرتان مختلفتان.

          ولنا عودة إلى كتابات ابا ايبان، فهي آلاف من الصفحات.

          وبعده..

          فلم يكن موضوع هذا الحديث كل العلاقة العربية الاسلامية اليهودية، والا لطال الحديث. ولذكرنا آلاف الأدلة على أن ازدهار العرب وتحضرهم وقوتهم كانت تلقائيا تعطي اليهود فرصة اكبر.

          وانه ليكفي ان نذكر ان عمر بن الخطاب هو الذي اعادهم اول مرة الى القدس بعد ان حرم الرومان عليهم سكنى المدينة.

          وان صلاح الدين الايوبي هو الذي أعادهم مرة ثانية بعد ان هزم الصليبيين، الذين حرموا اليهود بدورهم من مجرد الاقتراب من القدس.

          ولكن الحديث انصرف اساسا الى تجربة واحدة، هي التجربة الأندلسية، التي لم يتسع المجال مع ذلك الا لمجرد سرد لمحات خاطفة منها.. تثبت صواب ما ذهبنا اليه في أول هذا الحديث على المدى التاريخي.

          ان النظرة التاريخية المفصلة، تثبت قول بعض الباحثين اليهود انفسهم، من: ان عصر التنوير العربي في اوج الامبراطورية الاسلامية وحضاراتها، هو الذي لعب اكبر دور في حفظ استمرارية اليهود كبشر، وكتراث، وتاريخ، ومعتقدات. فلم يكن لهم طول التاريخ مكان آخر يتنفسون فيه.

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 165 مشاهدة
نشرت فى 2 مايو 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

383,686