د. محمد ناصر

متى نسترد إرادتنا المستلبة .
________________________________________
ما أبدعته المقاومة اللبنانية في الجنوب ومن قبلها المقاومة الفلسطينية ، والمقاومات السلمية العربية الحالية التي تجري على ساحات البلدان العربية في هذه الأيام يشبه الرؤيا الشعرية، وان كان حقيقة واقعية ملموسة شديدة الأثر والتأثير. إنها مفصل تاريخي بليغ بكل معاني العبارة ودلالاتها. وهذا المفصل البطولي المشهود، لأول مرة في تاريخ العرب الحديث، يجعلني أضع يدي على قلبي المعطوب مخافة أن تودي بكل منجزاته الرائعة تلك الخلافات العصابية الدائرة، بدءا من الساحة اللبنانية وليس انتهاء بالعواصم العربية الخانعة... وإنما تمتد ظلال الغيوم والتحركات المريبة من زوايا الذل والبغاء (المستورة) في قصور تلك العواصم حتى بيت الأفاعي في واشنطن .. 

ذلك الصمود المظفر، الذي واجه وما زال يواجه به رجال المقاومة وجماهيرها وشهداؤها قوات العدوان الصهيوني والأنظمة المستبدة، جعل العرب جميعا يقفون وراء ضفتين متباعدتين لا جسور بينهما: جماهير الشعب المساندة للمقاومة بكل تصنيفاتها والمتطلعة إلى مواصلة النهج ذاته في معارك التحرر الوطني تقف في ضفة... وعلي امتداد الضفة الأخرى تقف الطبقة المهيمنة علي مقدرات الوطن الكبير وثرواته، وهي تستمتع بامتيازات الخنوع أمام قوي الفتك والنهب والعدوان. وهؤلاء المتواطئون، بعد أن فاجأتهم الجماهير بمواقف الغضب والاستنكار، يحاولون توضيب الأقنعة لستر مخازيهم وركوب الموجة الصاعدة، 

ليصح فيهم قول المتنبي:
وإذا ما خلا الجبان بأرضٍ
طلب الطعنَ وحده والنزالا

لكن الأمر المحير والمغيظ إلى حد الريبة والاستغراب أن نفرا من المثقفين، وكنا نحسبهم في صفوف اليسار التحرري (العروبي الإسلامي الاشتراكي والعلماني، وربما الديمقراطي.. إلى آخر السلسلة الذهبية المعروفة) هذا النفر العجيب يوشك أن يعلن موقفه صراحة بأنه مع العدو الصهيوني نكاية بحزب الله وحماس وكل تحرك عربي يتزيا بلبوس الدين، ولو كان من الضحايا والشهداء!
أهذه ظاهرة صحية تبشر بصحوة جديدة شفافة وبلا أقنعة، علي مستوي الأمة، أم هي حالة مرضية مزمنة ستودي بنا إلى التردي في مهاوي التناحر والوبال؟!


لم تكن المعارك العربية- العربية يوما في صالح الأمة وبناء مستقبلها المرتجي. لكن خمسة عقود أو ستة مرت ونحن ضحايا أكذوبة فظيعة اسمها الاستقلال، في حين كان ساداتنا وأولو أمرنا أتباعا وخدما صغارا في قلاع الشرق والغرب، وان اختلفت الأدوار والمهام والنسب والدرجات. حكومات ما سمي زورا وبهتانا استقلال ، علي تعددها، لم تستطع انجاز حلم التحرر الوطني البعيد المنال، بل بقينا ندور كبغال المعصرة وأعيننا معصوبة وأيدينا مشلولة وإرادتنا مستلبة ومرهونة وراء البحار.


ما أنجزته المقاومة في جنوب لبنان وفلسطين وما ينجز حالياً من قبل ثوار الدول العربية المنتفضين على أنظمتهم التي كانت تتحكم بمصيرهم ، ومن ورائها الحاضنة الشعبية الكبرى، كان بشارة الاستقلال الحقيقي، ولقد طرحت سؤالا جارحا علي جميع الأنظمة العربية، في مشرق الوطن ومغربه: هل أوطاننا مستقلة فعلا؟ أم كان الاستقلال أكذوبة مزمنة؟! وأن بلادنا ما زالت طوال هذه السنين مرهونة للقوي الاستعمارية، من الإبرة وحبة الدواء حتى القلم والدفتر والهاتف ومحطات البث، ومن خلجة الوجدان الشعرية حتى إرادة الأمة العليا؟! وهل كان رحيل الجيوش الأجنبية عن أرضنا أكثر من مناسبة احتفالية لتغيير أشكال الأقنعة وجنسيات الأحصنة؟! .


وقبل شهور صفعني أحد المناضلين بقوله: التعامل مع إسرائيل أرقي وأفضل من التعاون مع جماعة حماس وأمثالها ! وكانت حكمته الرشيدة تقول: عدونا حضاري وأغلبية سكانه ينتمون إلى المستقبل، في حين أن الحركات الدينية، سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية، هي ظواهر مرضية بلا أفق ولا مستقبل لها !
ومع أني لست من المتحمسين ولا المعجبين بأولئك السادة الذين افتتحوا دكاكين سياسية في أسواق الدين الحنيف واتخذوا منه بضاعة للتجارة وسلَّما للوصول إلى كراسي الحكم، لكني أشعر وأرى أن الديمقراطية الأمريكية، سواء جاءتنا علي الطريقة العراقية أو علي الطريقة الليبية، تجعل زؤان البلد ـ كما يقول المثل الشعبي ـ أطيب وأفضل وأسلم من الحنطة المجلوبة من مزرعة العم سام والمنقوعة بألوان من السموم المعسولة... 


تري، بأي حق وبأي منطق وبأي ميزان للعدالة.. بل بأي هوان وطني وانحطاط أخلاقي، ينبغي علينا أن نستسلم بمذلة وخنوع لسعار أقطاب الرأسمالية المتوحشة حتى نحارب أبناء شعبنا في توجهاتهم وحركاتهم الإسلامية المتنامية التي ألصقت بها أمريكا والغرب وعصابتهم في الكيان الصهيوني صفة الإرهاب و الفاشية ؟! 


فلسطين الوطن ليست موضوعا للفرجة ولا هي بحاجة إلى التمجيد بقصائد المديح. إنما علينا أن نتخذ من تجربة المقاومة المختلفة المظفرة فيها دروسا لا تنسي للمستقبل وبناء مناعة الأمة والالتزام بنهج الاستقلال والحرية في كل بلد عربي آخر. 

ولكن السؤال الطافح بالمرارة: أين المشروع الفكري المستنير، علي مستوي الأمة، الذي يستأنس بدروس المقاومة ويقتدي بها؟ ومتي ندرك قيمة الحرية وأهمية سيادة القانون؟ وكيف نتخلص من حمي النزعة الاستهلاكية الخانقة؟ ومن يقوي علي تعليق الأجراس في أعناق القطط السمان المتورمة بعد أن تحولت إلى ذئاب ضارية؟!


أسئلة كثيرة وهواجس شتي لا تخلو من مخاوف أشبه ما تكون بالكوابيس... إنما أقساها وأشدها مرارة يدور حول ما أنجزته المقاومات العربية . أليست الثورات السائدة الآن في عالمنا العربي نوع من أنواع المقاومة المستحدثة ؟ هل نسعى جاهدين، ومن ورائنا قوي شيطانية غاشمة، إلى إحباط الأمل المشرق وتخريب ذلك الانجاز التاريخي العظيم وتبديده بكل نذالة واستهتار؟! 


إذا كانت لا تعنينا دروس المقاومة الاستشهادية المذهلة في فلسطين ولبنان وبعض مدن العراق، بعيدا عن أسلوب الموساد في تقطيع الرؤوس وتفجير المساجد والأسواق... والمقاومة السلمية التي تسود في بلداننا العربية والتي أصبحت أمثولة تحتذي به باقي شعوب العالم وإذا كانت السنون الستون الماضية غير كافية لتحقيق الاستقلال الجدي وانجاز مهام التحرر الوطني كاملة، فمتي نصحو ونستكمل وعينا ونسترد إرادتنا المستلبة وحريتنا المغدورة وكرامتنا الجريحة؟

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 240 مشاهدة
نشرت فى 21 إبريل 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

383,569