السلطان عبد الحميد وقضية فلسطين

يرجع أصل اليهود في الدولة العثمانية إلى زوجة السلطان سليمان القانوني الروسية الأصل التي أهداها تتار القرم للسلطان المذكور، نجحت الزوجة اليهودية في توصيل ابنها (سليم الثاني) لعرش الدولة العثمانية على حساب ولي العهد (مصطفى) ابن سليمان من زوجته الأولى، ثم توسطت لدى السلطان سليم للسماح لليهود المضطهدين في أسبانيا والفارين من محاكم التفتيش بالهجرة إلى الدولة العثمانية، فاستقروا بها في القرن السادس عشر الميلادي.

يهود الدونمه والدولة العثمانية

وفي القرن السابع عشر ظهر من بين اليهود المهاجرين من أسبانيا شخص يدعى شبتاي زايفي، ادعى أنه المسيح، وأنه سيقيم دولة لليهود في فلسطين، فلما استفحل أمره ألقت السلطات العثمانية عليه القبض، وسؤل عن ادعائه بأنه المسيح، وسوف يختبر رمياً بالرصاص فإن كان المسيح حقاً لن يموت، فأنكر من فوره، وعرضوا عليه الإسلام فأسلم تقية، وطلب السماح له بدعوة اليهود للإسلام، فأسلم معه عدد كبير ظاهرياً، يؤدون مظاهر الإسلام مع إيمانهم باليهودية والعمل لها، وظلت هذه الحركة تنمو في المجتمع العثماني بشكل سري كخلايا سرطانية، عُرف أتباعها بيهود الدونمه، وتعني في اللغة التركية المرتدين، وتركز أتباعها في سالونيك، بعيداً عن السلطة المركزية.

ويهدف يهود الدونمه إلى هدم الدولة العثمانية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، بوسائل عدة منها التعاون سراً مع أعداء الدولة العثمانية من الروس والأوربيين، فيلعبون دور الجاسوسية أو ما عرف بعد ذلك في المصطلح السياسي بالطابور الخامس، وكذلك التغلغل في الجمعيات السرية مثل جمعية الاتحاد والترقي لهدم الدولة من الداخل، ومساندة قيادات تتبنى الأفكار التورانية، مثل كمال أتاتورك، كما تبنوا حملة لتشويه صورة السلطان عبد الحميد واتهامه بالجمود والتخلف، تمهيداً لإبعاده عن سدة الحكم.

الصهيونية وعبد الحميد وفلسطين

لم تفلح جهود تيودور هرتزل -مؤسس الصهيونية العالمية- في مقابلة السلطان عبد الحميد على مدار عامين كاملين فوسط صديقه نيولنسكي (رئيس تحرير الشرق) ليبلغ السلطان استعداد اليهود لحل الأزمة المالية للدولة العثمانية "مشكلة الديون مع الدول الأوربية" وحل مشكلة ثوار الأرمن، وحماية الدولة العثمانية من الممالك الأوربية، في مقابل السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين وإقامة دولة بها. وعلى الرغم من سخاء العرض الذي تقدم به الصهاينة إلاّ أن السلطان عبد الحميد رد بشكل قاطع بأنه لا يستطيع أن يتنازل عن شبر واحد من أرض فلسطين المقدسة، لأنها ملك للمسلمين جميعاً، فليحتفظ اليهود بملايينهم، ويمكنهم الحصول على فلسطين بدون مقابل على جثته.

 ولما كان اليهود يملكون معظم الصحف الأوربية حاول هرتزل إثارة حملة إعلامية في أوربا ضد الدولة العثمانية، وأثار قضية الأرمن، للضغط على السلطان عبد الحميد، واستمر هرتزل في بذل الجهد حتى ظفر بلقاء السلطان عبد الحميد في عام 1901م، واستمع له السلطان حتى أفرغ ما في جعبته من وعود ومطالب، ولم يعطه السلطان رداً قاطعاً، خرج هرتزل من اللقاء موقناً تماماً برفض السلطان عبد الحميد ، ومن ثم استحالة الاعتماد على تركيا في ظل هذا الرجل العنيد، مؤمناً بضرورة التخلص من السلطان عبد الحميد وتوريط الدولة العثمانية في مشكلات وحروب مع دول أوربية، كما ركز الصهاينة على هدم الدولة العثمانية من الداخل عن طريق المحفل الماسوني ويهود الدونمه، فتولوا التنسيق مع الجبهات المناوئة للسلطان عبد الحميد من الجمعيات السرية، ولاسيما جمعية الاتحاد والترقي وتركيا الفتاة والدستوريين كما تمكنوا من رشوة الجهاز الإداري لتسهيل الهجرة إلى فلسطين دون علم السلطان.

أفيقـوا أيها السـادة

إذا كان السلطان عبد الحميد بهذا الورع والإخلاص فكيف نجحت مخططات الغرب والصهاينة ضده؟ ولابد أن نعترف أن الرجل يكفيه فخراً موقفه من الصهيونية، ورفضه بيع قضية فلسطين، لكن لكي نستفيد من حركة التاريخ لابد من نقد بناء لا تجريح فيه ولا رياء، ففي رأيي أن الثغرة الرئيسية التي نفذ منها أعداء الدولة كانت هي تهمة الاستبداد التي انساق وراءها كثير من المثقفين العرب، ولا نستطيع أن نخلي جانب السلطان عبد الحميد منها؛ فقد جاء إلى الحكم بطموحات كبيرة من الحرية والديمقراطية وبدأ بإعداد دستور جديد للدولة، لكن تعثرت تجربة الدستور، ومع فساد المحيطين به من رجال الإدارة اضطر – من وجهة نظره بالطبع- أن يقبض على أزمّة الأمور بقبضة من حديد، الأمر الذي أتاح لأعدائه فرصة أن يتهموه بالاستبداد، ووجدت هذه التهمة صدى لدى الأحرار والقوميين العرب والدستوريين الأتراك وغيرهم، وليس أدل على ذلك من سوء العلاقة بين السلطان والسيد جمال الدين الأفغاني، الذي تحمس للسلطان عبد الحميد وبايعه بالخلافة من قبل، فكانت تهمة الاستبداد سبباً في انهيار دولته وتحطيم حلمه في جمع كلمة المسلمين وتوحيدهم تحت راية الخلافة، وكانت سبباً أيضاً في نجاح الصهاينة والغرب في تحقيق أهدافهم ونجاح الهجمة الاستعمارية وتقسيم العالم الإسلامي، وما أشبه اليوم بالبارحة، فتحت ستار الحرية والديمقراطية ومحاربة الاستبداد يأتي الاستعمار الأمريكي الجديد، فهل من متعظ ؟!!

المصدر: مقال أ. د/ عبد اللطيف الصباغ
  • Currently 43/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 474 مشاهدة
نشرت فى 14 ديسمبر 2010 بواسطة Latif

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

20,483