المشهد الليبي يتجه الى المزيد من التعقيد، سواء على الارض حيث المعارك الطاحنة مستمرة بقوة بين الثوار وقوات العقيد معمر القذافي وكتائب ابنائه، او على الصعيد السياسي حيث مازال المجتمع الدولي متردداً في اتخاذ اي قرارات عسكرية لانهاء الصراع وحماية المدنيين الابرياء.
مجلس الامن الدولي عقد يوم امس جلسة مشاورات غير رسمية حول الملف الليبي شاركت فيها الدول الاعضاء، بينما تستعد قمة دول الثماني الاقتصادية الكبرى بحث الشيء نفسه في اجتماعها خلال اليومين المقبلين.
السيدة كاثرين اشتون وزيرة خارجية الاتحاد الاوروبي حلت ضيفة على العاصمة المصرية يوم امس وبحثت مع السيد عمرو موسى امين عام الجامعة قرار وزراء الخارجية العرب مساندة فرض حظر جوي على ليبيا، ودعم اي جهد من قبل مجلس الامن في هذا الصدد لانهاء استخدام العقيد الليبي سلاح الطيران في قصف الثوار الليبيين ضعيفي التسليح والتدريب والعتاد اللازم للدفاع عن انفسهم.
من الواضح ان هناك ارتباكاً على الصعيد الدولي تجاه التدخل العسكري في ليبيا، وسببه يعود الى معارضة دول دائمة العضوية، مثل روسيا والصين لمثل هذا التدخل، وتلكؤ الادارة الامريكية الحالية في الاقدام على مثل هذه المغامرة في وقت تخسر كلاً من حربيها في العراق وافغانستان.
وزراء الخارجية العرب زادوا من هذا الارباك عندما تهربوا من المسؤولية الملقاة على عاتقهم تجاه شعب شقيق يقذف الكرة الى المجتمع الدولي، ومجلس امنه على وجه التحديد، تماماً مثلما فعلوا عندما رفضت اسرائيل مبادرتهم السلمية.
ولعل تأكيد السيد رجب طيب اردوغان رئيس وزراء تركيا رفضه اي تدخل عسكري غربي في ليبيا سيشكل احراجاً للدول العربية، وامين عام جامعتهم الذي يؤيد مثل هذا التدخل بالقوة حتى قبل ان يتخذ وزراء الخارجية العرب قرارهم الآنف الذكر، وذلك مثلما جاء في حديثه الى مجلة 'دير شبيغل' الالمانية.
السيد اردوغان يجادل محقاً بان الدول الغربية لا تهتم كثيراً بالشعب الليبي وأرواح ابنائه، وتدخلها اذا ما تم، سيكون من اجل تعزيز مصالحها الاقتصادية المتعلقة بقطاع النفط، وفرص الاستثمار والتجارة في الاسواق الليبية الاستهلاكية البكر.
فلم نر حتى الآن اي حملات دولية لحماية الشعبين اليمني والبحريني في مواجهة قوات امن لا تتورع عن استخدام الرصاص الحي والغازات السامة في التصدي للمحتجين المطالبين بالاصلاح وقطع دابر الفساد.
المشكلة تكمن في ان العقيد معمر القذافي هو المستفيد الاكبر من هذا التردد الدولي، حيث يلعب عنصر الوقت لصالحه، فالانباء القادمة من ميادين القتال في مختلف انحاء ليبيا تؤكد ان قواته تحقق تقدماً في معظم الجبهات، واستطاعت استعادة مدينة رأس لانوف النفطية الاستراتيجية، وقبلها مدينة الزاوية في الغرب وتقصف حالياً مدينتي اجدابيا ومصراتة بعد حصارهما طوال الايام الماضية.
الشعب الليبي الذي صمد حتى الآن، وبشجاعة نادرة في وجه قوات القمع التابعة للديكتاتور القذافي وكتائبه المسلحة يعارض التدخل الاجنبي، وكل ما يريده هو الدعم من اشقائه العرب لكي يعزز صموده، ويواصل مسيرته للوصول الى اهدافه في ازالة الديكتاتورية وتحقيق مطالبه في العدالة والديمقراطية والمساواة والحكم الرشيد، ومن المؤسف ان هذا الدعم لم يصل بعد.
ودعوات لتسليح المقاومة الليبية 'كي لا يتكرر درس البوسنة' والسفير الامريكي يعلن ان بلاده لن تتحرك منفردة...
حاول المعلقون في الصحف البريطانية التذكير بأهمية الموضوع الليبي وضرورة مواجهة نظام العقيد معمر القذافي بعد سلسلة الخسائر التي تكبدتها قوات الثوار، وتعالت اصوات المعلقين من اجل التدخل العسكري وتزويد الثوار باسلحة مماثلة لما يملكه النظام، فيما اكد السفير الامريكي في لندن، لوي سوسمان، ان بلاده لن تقوم باتخاذ اي قرارات من جانب احادي بل بناء على اجماع دولي، مؤكدا ان اي قرار يتم اتخاذه بشأن ليبيا يبدأ من لندن. وتساءلت تحليلات عن سبب التراجعات في صفوف الثوار الذين كانوا منتصرين قبل اسابيع ونظام القذافي بدا على حافة الانهيار.
وردوا الامر الى سوء التنظيم في داخل صفوف القوات المعارضة للنظام وتشتت صفوفهم، وسط خوف اهالي المناطق التي استعادتها القوات الموالية للقذافي. ونقلت صحيفة 'التايمز' عن سكان بلدة اجدابيا التي يعتقد انها ستكون في خط المواجهة القادم سخروا من الثوار المتراجعين وقالوا لهم لا تتركونا من النظام.
ولاحظت الصحيفة ان هناك نقاشاً واضحاً بدا بين القوات المعارضة او عدد من افرادها المتطوعين حول خطط للفرار.
وتساءل باتريك كوكبيرن عن السبب الذي لم تظهر فيه قوة من 6 الاف من الجنود النظاميين الذين انشقوا عن النظام في معارك الثوار، حيث يقول انهم يقفون على الجانب وينتظرون الطرف المنتصر وعندها سيقررون. ويخشى مراقبون ان تؤدي تراجعات الثورة الليبية الى عودة فيروس القمع كما بدا في مقال جاكسون ديهل في 'واشنطن بوست' الذي جاء فيه انه لو نجا القذافي من الانتفاضة ضده فهذا يعني وقف حملة التغيير في العالم العربي والذي بدأ في تونس وانتقلت عدواه الى مصر ومناطق اخرى من العالم العربي.
ومن ناحية اخرى فان فيروس القمع والاضطهاد الذي ساد المنطقة قد يعود ويؤكد بقاء الحكام الاتوقراطيين.
ومنها اكد السفير الامريكي ان الرئيس باراك اوباما كان واضحا في موقفه حول ضرورة رحيل القذافي 'العنف فظيع، لقد قمنا بوضع الكثير من الضغوط المالية على النظام ونحاول عزله'.
وقال سوزمان الذي كان يتحدث الى جون غوغلان في 'ديلي تلغراف' ان الادارة الامريكية يجب ان تكون في وضع تقوم به بانشاء منطقة الحظر الجوي مشيرا الى مطالب ديفيد كاميرون، رئيس الحكومة البريطانية 'لقد تحدث رئيس الوزراء عن منطقة الحظر الجوي ولكن علينا ان نكون في وضع نتمكن فيه من انشائها'، ومع ذلك قال 'نحن واضحون ان اي فعل يتم اتخاذه في محور يجب ان يكون دقيقا ومناسبا'.
وشمل الحديث مع السفير عددا من القضايا غير الموضوع الليبي منها العلاقة الخاصة بين البلدين وعلاقة العمل بين كاميرون واوباما التي تختلف عن العلاقة التي كانت مع غوردون براون، رئيس الحكومة السابق وكذا الدور البريطاني في افغانستان.
من جهة اخرى طالب وزير الدفاع والخارجية السابق مالكوم ريفنكد الغرب بتسليح المقاومة ضد القذافي والا واجه الشعب الليبي هزيمة كاملة في الاسابيع القليلة القادمة، مما سيقتل الربيع العربي ويعطي رسالة من ان القوة الغاشمة هي القادرة على ضبط الشارع ويعزز مواقف الحكام الاتوقراطيين من سورية الى ايران. وقال ان اهمية ما حققته قوات القذافي انها سيطرت الان على مصافي النفط التي يقع 80 منها في الغرب مع ان نفط البلاد موجود في الشرق.
واتهم الوزير السابق القذافي بجلب مرتزقة من الجزائر وسورية وتشاد لحماية نظامه. وعاب على المجتمع الدولي تشتت مواقفه وعدم قدرته على التوحد حتى في موقف صغير يتعلق بفرض منطقة حظر جوي على القذافي.
وتساءل عن كيفية انقلاب الموازين من موقف كان يشير الى ان القذافي قد انتهى ونظامه يتداعى والجميع كانوا يناقشون الى اين سيهرب او اين سيعثر عليه لو ظل مختبئا في العاصمة.
ولكن الوضع لم يعد كما كان مما يستدعي صحوة من الغرب والمجتمع الدولي. وكرر انه لو نجا القذافي فلن يكون كارثة على الشعب الليبي ولا على العالم العربي بل على المنطقة بعمومها مما يعني تحول الربيع العربي الى بودابست عام 1956 وبراغ عام 1968 وساحة تيانامين في بكين. واقترح امام هذا السيناريو الخطير استراتيجية يجب على الغرب تبنيها تقوم على اربعة نقاط.
النقطة الاولى، تقول انه يجب على الغرب تسليح الثوار بأسلحة ثقيلة تشابه ما يملكه النظام، وقال ان الامم المتحدة قد حظرت البيع للجماهيرية وهو الاسم الذي استخدمه القذافي لليبيا، وعليه يجب على الامم المتحدة ان لا تمنع وصول الاسلحة لمن يقومون بمواجهته وذكر بتجربة البوسنة حيث كان الحظر على تصدير السلاح للحكومة في سراييفو سببا في المجازر ويقول انه كان وزيراً للدفاع في حينه.
وقرار مجلس الامن كان الاخطر الذي لعب دورا في تطور الاحداث، فيما كان الجانب الاخر وهم الصرب قادرين على التزود باسلحة من الدول الداعمة لهم. وقال ان اي دعم للثوار لن يؤدي الى حرب دعائية من القذافي لانه نفسه قام بتدويل الحرب عندما استعان بمرتزقة من الخارج لدعم نظامه.
والنقطة الثانية، حسب ريفكند، هي عن ممارسة الضغط على حكومات الجزائر وسورية وتشاد للتوقف عن ارسال المرتزقة لأن خروجهم تم بمعرفة حكومات بلادهم. وفي النقطة الثالثة يقول ريفكند انه لا يتفق مع النقاش حول عدم نجاعة الحظر الدولي، ويقول انه لا توجد الا ادلة قليلة على ان النظام يقوم باستخدام الطيران لضرب المدنيين بل يستهدف في غاراته مخازن الاسلحة.
ومن هنا فان منطقة الحظر ستعمل على منعه من استخدام طيرانه لاعادة السيطرة على الشرق. واكد ان هذا الخيار لن يتم فقط بدعم امريكي، بريطاني وفرنسي بل يجب ان يكون باجماع دولي على غرار ما حدث في العراق بعد حرب الخليج الاولى.
اما النقطة الرابعة فهي اصدار تحذير واضح لجنرالات القذافي انهم سينتهون في سجون محكمة جرائم الحرب الدولية، واكد في نهاية المقالة ان الحرب هذه ليست مثل العراق الذي كان احتلاله خطأ، وما يهم الان هو التوافق على دعم وتعزيز قوة الثوار على مواجهة النظام ومنح الليبيين فرصة لتحرير انفسهم بأنفسهم وهذه قضية عادلة يجب العمل على تحقيقها كما يقول. واخذت الصحيفة اقتراحات ريفكند وضمنتها في افتتاحيتها مضيفة اليها تأكيدات ان ما يجعل القذافي خطرا انه داعم للارهاب. ودعت كاميرون على اتباع حدسه وتحشيد الدعم الدولي.
وقالت ان معاناة الليبيين ليست شأنا داخليا والليبيون ليسوا ملكاً للقذافي والحرب حرب عدوانية يشنها نظام عدواني ضد شعب 'اسير'. وذكرت بتاريخ القذافي وتفجيراته ومحاولة اغتيال الملك عبدالله السعودي وما الى ذلك. وتقول انه لا يوجد في القانون الدولي ما يمنع التدخل الانساني في حالة مواصلة القذافي عناده.
ومن هنا دعت كاميرون إلى استخدام هذا القانون والتلويح به ضد طاغية غير منضبط وتحذير من حوله من النتائج القانونية التي تنتظرهم والتأكيد على الخطر الذي يمثله القذافي على النظام الدولي.
وانتقدت الموقف الامريكي المزدري من انشاء منطقة الحظر الجوي داعية كاميرون الى اعادة طرحها على الامريكيين وان العقوبات الاقتصادية وتجميد اموال اعمدة النظام ليست الا امورا رمزية ولن تكون فاعلة على المدى البعيد.
التعتيم الاعلامي
ويرى معلقون ان النظام الليبي كان محظوظا لأن عين الكاميرا الاعلامية العالمية انحرفت عنه من اجل التركيز على التسونامي الياباني الكارثي. وقالت انه لولا الانفتاح الاعلامي في اليابان لما عرف الناس عن الكارثة اليابانية، ولو كان الامر متعلقا في كوريا الشمالية لما عرف الناس الا القليل.
ونفس الامر يصدق على ليبيا، حيث تقول الـ 'اندبندنت' في واحدة من افتتاحياتها انه في اربعة ايام استطاعت قوات القذافي الزحف من الغرب للشرق بدون توقف مما يعني ان بنغازي قد تكون المدينة الوحيدة في يد الثوار، وايا كان الوضع فالعالم بحاجة الى معرفة ما سيحدث هناك.
وقالت ان ليبيا ليست كوريا الشمالية ولا اليابان. وترى انه في ضوء الحملة الشرسة ضد الاعلام والصحافيين وفقر الاتصالات فان هناك القليل من الصور المتوفرة عن المعارك التي يمكن بثها. ولكنها حذرت من اغراء الصور القادمة من اليابان لتكون مبررا لتناسي ليبيا. ففي الوقت الذي يراقب العالم اليابان فيه وهي تحشد كل قواها ورجال الانقاذ والاغاثة لمواجهة اثار الكارثة 'علينا ان لا ننسى انه على مبعدة آلاف الاميال هناك حاكم قاس ٍ يقوم بالانتقام من المدن التي تجرأت على تحديه'.
ويرى الصحافي في الجريدة باتريك كوكبيرن ان القذافي يبدو ولاول مرة انه سينجو وقد يكون قادرا على سحق الانتفاضة ضده. ويعتقد ان منطقة حظر جوي حتى في هذا الوقت وان تم تطبيقها لن يكون لها اي اثر على تطورات الاحداث لان القذافي يعتمد على الدبابات والمدافع الثقيلة اكثر من قواته الجوية. كما ان عملية تمرير القرار في مجلس الامن لن تكون سهلة، خاصة ان امريكا ترى فيه انخراطا عسكريا، حيث ستقوم قواتها بضرب المطارات العسكرية الليبية.
ويرى ان الاضواء الاعلامية لم تعد تسلط عليه بسبب الكارثة اليابانية لكن في حالة ارتكابه جرائم ضد شعبه فان الجدل حول التدخل الدولي سيتجدد. ولم يفت الكاتب التذكير بان هزائم الثوار دليل على عدم وجود قيادة، اضافة لعامل آخر، وهو ان جيشا مسلحا بأسلحة خفيفة لن يكون قادرا على مواجهة قوات مجهزة بأسلحة ثقيلة. ويتساءل عن سر اختفاء قوات الجيش النظامي المنشقة، فيما اكد ان النجاحات التي حققها القذافي تعتمد في النهاية على قدرة قواته على مواصلة الدفع نحو بنغازي وعندها فجهوده العسكرية ستسبق اي جهد من الامم المتحدة ومجلس الامن والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي.
ويظل الامر متعلقا بقدرة الثوار على الاستمرار في السيطرة على الشرق وفي هذه الحالة فان دعما لهم يمكن ان يعدل الميزان لجانبهم خاصة ان الطرفين لديهم قوات قليلة يعتمد عليها.
وايا كانت اهمية الخطوة التي خطتها الجامعة العربية فان الحظر الجوي لن يكون كافيا لانقاذ الثوار. وفي الوقت الحالي يؤكد القائد العسكري للثوار، وزير الداخلية السابق عبدالفتاح يونس العبيدي، ان التراجع الفوضوي لقواته مؤقت وتكتيكي ووعد بدفاع قوي عن المدن الاخرى. وقال ان القذافي كان مهتما بتأمين منشآت النفط وان قوات العبيدي تحاول جره لمواجهة يتساوى فيها الطرفان. وتقول الغارديان انه في الوقت الذي كان يعد فيه العبيدي بالمقاومة فان عددا من سكان بنغازي كانوا يناقشون فكرة الهروب الى مصر.
ويشير مراسل 'نيويورك تايمز' ان معارك المدن التالية ستكون حاسمة في ما يظهر انها اعنف واكثر انتفاضة فوضوية في انتفاضات الشارع العربي.
ونقل عن مقاتلين هربوا من البريقة قولهم انهم بدون حظر جوي اما سيواجهون الموت او الاستمرار في القتال. ونقل عن احد المقاتلين رغبتهم بتدخل امريكي وبريطاني من اجل 'وقف الديكتاتور' لكن مقاتلا آخر رد ان هذا لن ينفع.
وفي تقرير اخر في 'واشنطن بوست' اشار الى ان مصدر الانتفاضة الليبية يكمن في تنوعها من ناحية جمعها لأطياف اللون الليبي - شيبا وشبانا واسلاميين وعلمانيين وشابات وبنات جمعهم كره القذافي، لكن هذه الوحدة قد تكون في خطر اذا اخذنا بعين الاعتبار الخسائر التي بدأ الثوار يتكبدونها.
ساحة النقاش