أبناء بلا أمهات

 

بقلم أ. د. قاسم زكى [email protected],eg

 

أستاذ الوراثة بكلية الزراعة، جامعة المنيا، المنيا، مصر (MU)، وعضو اللجنة القومية المصرية لعلوم الوراثة،  والرئيس الأسبق للجمعية الأفريقية لعلوم الحاصلات الزراعية (ACSS)، و عضو الرابطة العربية للإعلاميين العلميين (ASJA)

 

قد يظن البعض ان عنوان هذه المقالة سيتناول رواية او مسرحية او قصة فيلم، و لكن انوى في السطور التالية الكتابة عن اكتشاف علمي جديد ازيح عنه الستار  يوم الثلاثاء الموافق 13 سبتمبر/أيلول 2016م فى مجال "هندسة الإنجاب"، حينما نشرت المجلة العلمية الأشهر "نيتشر كوميونيكيشنز" (Nature Communications) فى مجلدها السابع، المقالة رقم (12676)، عن نتائج بحثا علميا مثيرا سيكون له صدى كبير جدا خلال الفترة القادمة، حيث يحمل تفسيرات جديدة لعملية الاخصاب وتكوين الاجنة فى عالم الحيوان (ومنهم الإنسان بالطبع)، مع نتائج تبعث بعض الامل وكثيرٌِِا من الجدل، مع تغيير مفاهيم علمية استقرت منذ أكثر من مائتي عام.

 

الخيال العلمى محرك إبداعات العلماء:

ولكن الخيال العلمى (Science Fiction) دائما ما يسبق أبحاث العلماء و نتائجهم، كما حدث مع مخططات "ليوناردو دافنشى" (Leonardo Da Vinci ،1519 -l452  م) فقد تم تنفيذ أفكاره بعد وفاته بأكثر من ثلاثة قرون، فصُنعت السيارة والغواصة والطائرة والدبابة. و أيضا حدث هذا بالنسبة لاستنساخ البشر الذى تناولته قصص الخيال العلمي، كما في رواية "عالم بلا رجال" (World Without Men) عام 1958م للكاتب البريطاني "تشارلز إيريك" (Charles Eric; 1981-1921)، ورواية «الكوكب العذري» (Virgin Planet) عام 1959م للأميركي "بول أندرسون" (Poul Anderson، 1926-2001م)، وكذلك رواية «انقراض الرجل» عام 1990م للكاتبة الكويتية طيبة الإبراهيم. يتخيل الرواة انه سوف يأتي الزمان الذى يتمكن فيه العلماء من آن يستنسخوا الأطفال من المرأة دون حاجة الى الرجل و تشرح الروايات كيف يمكن للنساء آن يعيشن على كوكب الأرض بدون رجال.

 أيضا في رواية وفيلم "أولاد من البرازيل" (The Boys from Brazil) عام 1978م، تأليف الروائي الأميركي "اير مارفين الفين" (Ira Marvin Levin، 1929-2007م) حيث يحاول النازيون فيها استنساخ 940 ولدا من الخلايا التي أخذوها من جلد و شعر "هتلر". و أيضا سلسلة أفلام "حديقة الديناصورات" (Jurassic Park) من تأليف "مايكل كريتون" (Michael Crichton، 1942-2008م) و إخراج ستيفن سبيلبرج (Steven Spielberg) (70 عاما)، والتى تناولت الاستنساخ للديناصورات (التى انقرضت منذ 60 مليون سنة) عن طريق بقايا الحمض النووي للديناصورات (الذى وجد فى دم بعوضة متجمدة) و منه أمكن إعادتها للحياة في حديقة خرافية. و أيضا فى مصر  قصة قصيرة (سنة مليون) نشرها عام 1953م الكاتب الكبير توفيق الحكيم (1898 - 1987م) ضمن مجموعته (أرني الله)، وقد تحدث عن تكاثر البشر بطريقة الكائنات الدقيقة، و قد كتب فى قصته أن (سكان الأرض سنه مليون سوف يربون النطفة كما يربون البكتيريا، حيث لا توجد ذكور أو إناث، إنما هو كائن واحد سرمدي). و ها هى تلك الخيالات و الأفكار تأخذ طريقها للمعامل ثم لتعيش بيننا في الحياة كحقيقة ملموسة

والعلم لا يعرف المستحيل فقصة النعجة "دوللى Dolly" تقرب الى أذهاننا الفلسفة العميقة من خلق المسيح بدون اب، أي بالآمر "كن فيكون" فسبحان الله الذى خلق عيسى، و كذا خَلق أدم بدون أم أو أب وولادة سيدتنا سارة زوجة سيدنا إبراهيم بعد ان أصبحت عجوزا عقيم، فأمكن بقدرة الله ان يمنحها حملا طبيعيا. و نقلت لنا الأخبار  في مايو/أيار 2015م نبأ ولادة أمرأه ألمانية ("أنيغرت رونيجك "Annegret Raunigk) بلغت من العمر 65 عاما لأربعة توائم (3 ذكور وأنثى) في صحّة جيّدة؛ بعد عملية إخصاب صناعي خارج الرحم و زرع الأجنة مع حمل دام 26 أسبوعاً. علما بأنها أم لـ 13 ولداً، يبلغ أكبرهم 44 عاماً، وجدّة لـ 7 أحفاد، من خمس زيجات مختلفة.

العلم يحلم الان بالحفاظ على العبقرية الانسانية ليس فقط من خلال المحافظة على التراث الفكري و ما كتبه المتميزون، و لكن بالمحافظة عليهم هم بالذات فى كامل تركيبهم البيولوجي. الخيال يدعو لتحقيق الرغبة فى الحصول على ذرية منتقاة بعناية قبل او بعد فحص الخلية الملقحة ومعرفة تركيبها الوراثي ثم الدخول من خلال الجراحة الجينية (هندسة الإنجاب)، لإزالة الامراض الخلقية و العيوب الوراثية مثل مرض الكولسترول, البله المنغولي او فقدان الذاكرة "الزهايمر" فينتج إنسان يتمتع بالخلق السوى. بل يتخيل العلماء إمكان التحكم فى جنس المولود و عدد الذكور و الإناث و التخلص من جينات الإجرام و الحقد و الإحباط و داء باركنسون و الجنون. و سيتم الإمساك بعنق السرطان ثم الوصول الى سر تجدد الخلايا ثم الاقتراب من سر امتداد عمر سيدنا نوح الى ما يقرب من الألف عام، و سيتم زراعة اعضاء جديدة حسب الطلب بدلا من كبد تالف و كلية تلفظ أنفاسها الأخيرة و قلب معلول مرتخ أو بنكرياس فاشل. فهل هذا ممكن؟

ويقول العالم (تونى بيري) صاحب تجربة اليوم، أن على المجتمع الاستعداد لتقبل اليوم الذى سيأتي قريبا، يستطيع الوالدين اختيار مواصفات ابنائهم حسب الطلب. ويعتقد بعض العلماء ان ذلك ليس شركا بالله ولا خللا فى الطبيعة بل هى وظيفة أعطاها الله للإنسان بموجب عهد الخلافة ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30 البقرة﴾.

ولعل قصتنا اليوم حول التعرف على خلق الاجنة ومحاولة فهمها على المستوى الخلوي و الجزيئي، في دراسة شيقة، ماهي إلا خطوة على طريق "هندسة الإنجاب"، فدعونا نخطو إليها

قدرة الخلية على تكوين كائن:

منذ الازل وبدأ الخليقة، لم يكن هناك من كائنات الكون (موجودة أو منقرضة حاليا) ربما سوى فرد أو زوج واحد فقط خلقه الله، ثم حدث له تكاثر حتى ملأت الكون (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1 النساء). وحين خُلق الانسان ونصبه الله خليفة له في الكون، بدأ يعمل فِكرُة في انتقاء واستئناس و إكثار وتربية الكائنات الحية، مما يحتاج إليها في معيشته. فحاكى الإنسان الطبيعة فلاحظ ان بعض النباتات تتكاثر خضريا، أى بجزء ولو صغير من جسمها كورقة أو عقلة تعيد تكوين كائن كامل منها مثل الأصل، و لاحظ ان هناك نباتات تكون بذورا و تنثرها فتعيد تكوين نباتات مماثلة،  فقام بتكرار هذا و حصل على تلك النباتات وزرعها و حصدها و خزن محصولها لحين حاجته.  أما في عالم الحيوان فكان ينتظر المولود فقط و أحيانا كان يزاوج بين حيوانات معينة للحصول على افراد مرغوبة.

و مع تقدم العلوم وخاصة في المائتي سنة الأخيرة، بدأ الإنسان يفحص مكونات اجسام الكائنات الحية و اكتشف الخلية، بل تمعن في مكوناتها، و بدأ يهندس تلك الخلايا، فأنتج منها نباتات كثيرة و بمواصفات معينة (مثل الإكثار الدقيق للنباتات في القوارير كالنخيل و الموز والفراولة و نباتات الزينة عن طريق زراعة الانسجة و الخلايا النباتية)، بل بدأ ينقل مكونات معينة (مواد وراثية) من خلايا كائنات حية إلى خلايا النباتات فيما يعرف بالهندسة الوراثية، ثم يستولد من تلك الخلايا نباتات كاملة بمواصفات جديدة. ولكن الخلايا الجسدية للحيوانات لم تستجيب لإنتاج كائن حي كامل من الخلية كما في النبات. وقد اعتمدت تلك التقنيات على القدرة الذاتية للخلية النباتية فى الاستنساخ (ظاهرة "القوة الكامنة" Totipotency) و تكوين نبات كامل من خلية او عدة خلايا, فالخلية النباتية لا تفقد قدرتها على التشكل و التمايز (Differentiation) الى انسجة و الأنسجة الى أعضاء، بل ان الخلايا البالغة عادة ما يكون لها القدرة على الرجوع الى حالة الطفولة او تكوين خلايا إنشائية يمكنها بدأ التخليق من جديد. اما الخلية الحيوانية فتفقد تلك القدرة الكامنة (Totipotency) بعد مرورها بالمراحل الجنينية.

و حتى هذا التاريخ كان من المستقر فى علم الأحياء ان الطريقة الوحيدة للثدييات، و التي يقف الانسان على قمتها فى التناسل، هى التقاء خليتين (المشيجين) إحداهما ذكرية (حيوان منوى) والأخرى انثوية (بويضة) تحمل كل منهما العدد النصفى للكروموسومات (1N) و بمجرد اندماج المشيجين و تكون اللاقحة (الزيجوت Zygote) (2N) يبدأ فى الانقسام الخلوي (الميتوزى) مبدئيا بدون تميز للخلايا (Undifferentiation)، ثم ما يلبث بعد ذلك التخصص والتمايز في الشكل والوظيفة. لتتكون مجموعات من الخلايا المتشابهة لتكون النسيج، وتنضم مع غيرها من الأنسجة لتكون الأعضاء، وتتصل الأعضاء معا لتكون الاجهزة التي تتألف معا في سيمفونية الجسد الذى يصب فى هارمونية موسيقية كل الألحان الفردية الموزعة نوتتها المشفرة على مجاميع العازفين المهرة (الغدد الصماء) حيث يقود أداءهم المشترك ذلك المايسترو المنضبط الإشارة النافذ الامر والذى يقبع تحت سقف الجمجمة مباشرا (الغدة النخامية The Pituitary Gland).

و لكن دأب الانسان على تحسين السلالات الحيوانية بالتهجين تارة، لإنتاج حيوانات متميزة و الى التهجين الصناعي معمليا، و زادت رغبته فى زيادة برامج التحسين الى عزل الخلايا الناتجة عن انقسام الجنين (العلقة) الناتج من التلقيح الصناعي بعد عدة انقسامات ( 8-16 خلية)، و اعادة زراعتها كخلايا منفردة داخل أنابيب، للحصول على عدة أجنة ( 8-16 جنين)، تزرع فى عدة أرحام لتنتج حيوانات متطابقة وراثيا و تشبه التوائم المتطابقة و يعد ذلك استنساخا. ولعل تجربة العالم (أيان ويلموت) لتوليد نعجة كاملة من خلايا عادية من جسم الام بائت جميعها بالفشل، لذا نجحوا فقط حين استخدموا سيتوبلازم خلية البويضة والتي هى اصلا مُهيئة لإنتاج جنين بعد الاخصاب. ولكن لم تتوقف جهود العلماء عند هذا الحد، بل يحاولون دوما فهم طبيعة نمو الخلايا، لذا كانت هذه التجربة التي سنتحدث عنها، و أشارت إلى ان هناك عوامل ربما تجعل خلية الحيوان كخلية النبات، يمكن ان تعيد تاريخ حياتها و تنتج كائن كامل.

اعادة برمجة الحياة (الهدف من الدراسة):

حمل عنوان هذه الدراسة الجديدة "إنتاج فئران عن طريق إعادة برمجة الانقسام الميتوزى للحيوانات المنوية و حقنها فى خلايا التوالد العذري الاحادية (Mice produced by mitotic reprogramming of sperm injected into haploid parthenogenotes) . حيث تُظهر نتائج هذه التجارب المثيرة امكانية انتاج اجنة بشرية فى المستقبل دونما الحاجة لبويضات الام (أبناء بلا أمهات)، فيكفى أي خلية من جسم الفرد (ذكر أو أنثى) ليتم اخصابها بحيوان منوى لينتج الجنين البشرى. فيمكن ان تُأخذ خلية من جلد رجل ما وتخصب بحيوان منوى منه لينتج جنينا يُحضن فى رحم امرأة لينتج فردا جديدا يتشابه مع ذات الشخص. بل ذكر علماء الأجنة امكانية مستقبلية ان يقوم اثنان من الرجال المثليين المتزوجين (Gay Men) بإنتاج طفل منهما، حيث يقدم احدهما الحيوان المنوي و الاخر اي خلية جسدية منه ليتم إخصابها ثم يتكون الجنين لينمو في رحم امرأة ليولد طفل لهما (أيضا، أبناء بلا أمهات).

وعلى الرغم من غرابة تلك الاستنتاجات و طرافتها و ايضا اشمئزاز البعض منها و خصوصا كارهي المثلية الجنسية، فإن لها بعض الفوائد العلمية و التطبيقية، و التي سنذكرها لاحقا. ولكن الامانة تقتضى علينا ان نشير ان فريق البحث الذى قام بهذه التجربة الفريدة، و الذى يقوده العالم " أنتوني بيري" (Anthony C. F. Perry)، كان غرضهم الأساسي هو فهم الآلية الدقيقة لعملية الإخصاب، نظرا لأن ما يحدث عندما يندمج حيوان منوي مع بويضة مازال يكتنفه بعض الغموض. فمنذ العام 1827م حين شاهد علماء الاجنة البويضات الانثوية لأول مرة و بعدها بخمسون عاما عرفوا كيف تتم عملية الإخصاب، لم تزد معلوماتهم عن أنه بلقاء و اندماج المشيجين يكتمل تكوين المادة الوراثية و تنج فردا عاديا لهذا النوع الحيواني.

 ولكن العوامل الدقيقة التي تتحكم في سير تلك المعجزة الإلهية لم تكن معروفة بالضبط، وخاصة العمليات التي يبدأ فيها تكوين الجنين ومراحل الانقسام الخلوي ودور المادة الوراثية لكلا المشيجين في إتمام تكوين الجنين. وهكذا استقرت تلك الحقيقة، بأن لتكوين الجنين لابد من وجود بويضة أنثوية  (Oocyte)، تحمل نصف المادة الوراثية "1ن" تخصب بحيوان منوى (Sperm) (1ن). وجاءت تلك التجربة الفريدة لتغير هذا المفهوم، فقام الفريق البحثي المكون من سبعة علماء بقيادة "أنتونى بيرى" بمختبر علم أجنة الثدييات الجزيئي، بقسم علم الأحياء والكيمياء الحيوية في جامعة باث (Bath University)، بمدينة باث، بالمملكة المتحدة (و هى واحدة من افضل عشر جامعات بريطانية)، بالتعاون مع فريقين من ألمانيا (أولهما فريق من معهد فراونهوفر لعلوم السموم والطب التجريبي، و الثاني من مجموعة الطب التجريبي وبحوث العلاج، بجامعة ريغنسبورغ، بمدينة روزنبرج بألمانيا)، قاموا بتجربتهم الرائدة حيث استخلصوا بويضات فئران برية (Wild-type mouse (Mus musculus) ثم تم معاملتها بمواد كيميائية معينة و تحت ظروف نمو محددة مع التحكم فى عمليات الانقسام الخلوي لها؛ أدخلتها تلك الظروف فى حالة و كأنها قد اخصبت؛ ثم ُأتى بالحيوانات المنوية والتي تم معاملتها أيضا، وتم حقنها مجهريا لداخل البويضات المعاملة (والتي دخلت مسبقا فى طور التشكل الجنيني "Embryogenesis")، وتم الدمج بين نواتي الحيوان المنوي و البويضة تحت ظروف تحكم كامل و في مراحل انقسام خلوي معين، و تم رصد كافة الخطوات وتصويرها. ثم تم وضع الاجنة المتكونة في ارحام اناث بالغة، و التي ولدت أفرادا طبيعية تماما و ذات صحة جيدة، بل كبرت تلك الأَدْراصٌ (صغار الفئران) و أنجبت أَدْراصٌا، بل صغارها كبرت أيضا و انجبت أحفادا لتكتمل ثلاثة اجيال متعاقبة. وقد تمتع هذا النسل من الفئران بصحة جيدة، وكان متوسط عمرها المتوقع طبيعيا، كما أنها تمكنت من الإنجاب العادي كما ذكرنا.

و قد لاحظ الفريق البحثي، أن البويضات يمكن "خداعها" و دفعها إلى الدخول فى مراحل التطوير إلى الجنين دون الإخصاب، ولكن الأجنة الناتجة عن ذلك (والتي تسمى Parthenogenotes)، تموت بعد بضعة أيام بسبب توقف عمليات النمو الرئيسية التي تتطلب مُدخلات من الحيوانات المنوية. و لذا، فقد طور هؤلاء العلماء طريقة لحقن تلك اللاقحات (الزيجوتات) الاحادية (1ن) بحيوانات منوية (1ن) والتي تسمح لهن أن يصبحن فئرانا صغارا سليمة وطبيعية.

ذكرى "دوللى" و تجربة الإستنساخ:

وهنا تعود بنا الذاكرة لعقدين من الزمان حينما قام العالم الإنجليزي ايضا "أيان ويلموت" Ian Wilmut) (72 عاما) بالإعلان فى 27 فبراير/شباط 1997م عن نجاحهم فى استنساخ النعجة دوللى "Dolly" من غير طريق التكاثر الجنسي الطبيعي، إنما بزراعة نواة خلية جسدية (2ن) مأخوذة من ضرع نعجة يراد استنساخها، و غرسها فى بويضة نعجة اخرى منزوعة النواة (1ن) ثم زرع الزيجوت هذا فى رحم نعجة ثالثة، فولدت الحَمل "دوللى". و لكن فى تجربة "دوللى" تلك لم تنجح أى خلية جسدية فى التشكل لجنين، لذا أُُستعين بخلية البويضة الانثوية. وكانت نسبة النجاح تتراوح بين 1% الى 2% فقط. بينما فى تجربة "بيرى وزملائه" فى الفئران، فإنهم ذكروا أنه لم يكن ضروريا استخدام البويضات. و رغم استعمالهم إياها فقد عُوملت لتصبح لاقحة بدون إخصاب (كما ذكرنا أعلاه)، ثم تم ادخال الحيوان المنوي لتلك اللاقحة لتكمل النمو لجنين كامل ليولد دِرْصُا (وهذا يدل على امكانية معاملة أي خلية أخرى جسدية لتدخل مرحلة التشكل الجنيني، بعد التخلص من نصف مادتها الوراثية). وفى تجربة جامعة باث هذه، حصلوا على ثلاثين دِرْصُا (صغار الفئران)ِ،  وكانت نسبة النجاح 24% (حيث نتج جنين بين كل اربعة حالات اخصاب)، وهى نسبة أعلى بأكثر من عشرة أضعاف من تجربة دوللى.

 

ما بعد تجربة بيرى:

وانطلاقا من هذا، قال علماء الأجنة، إنه إذا كان حقن حيوانات منوية في أشباه لاقحات الفئران ينتج عنه صغارا أصحاء، بالتالي يمكن في يوم ما تحقيق نفس النتائج بالنسبة للإنسان باستخدام خلايا ليست من البويضات (هندسة الإنجاب).

وقال "توني بيري"، رئيس الفريق البحثي لتلك الدراسة "هذه هي المرة الأولى التي يستطيع فيها شخص ما إظهار أن شيئا غير البويضة يمكن أن يمتزج بالحيوان المنوي بهذه الطريقة لحدوث التناسل". و بالفعل بدأوا يكملون مشوارهم باستخدام خلايا الجلد لانجاب آجنه.

وقال الدكتور " بول كولفيل-ناش " (Paul Colville-Nash) من مجلس البحوث الطبية للملكة المتحدة (المُمول لهذه الدراسة، بجانب الاتحاد الأوربي) "هذا هو الجزء الشيق فى الدراسة التي ربما تساعدنا على تفهم كيف تبدأ حياة الانسان، وما الذى يتحكم فى حيوية اللاقحات والاجنة والانظمة الهامة فى عملية الخصوبة، و أيضا ربما تمكننا بطريقة أفضل من معاجلة مشاكل العقم".

ولعل هناك بعض الفوائد فى حال نجاح تلك التجارب على البشر و خاصة بعد تطبيقها على خلايا الجلد بدلا من البويضات واخصابها بحيوانات منوية كما وعد فريق العالم "تونى بيرى". فمثلا تستطيع الأمهات اللاتي فقدن خصوبتهن نتيجة عقاقير علاج السرطان أو استعمال الأشعة، يمكنهن استعمال خلايا جسدية اخرى لهن كالجلد بدلا من البويضات، و حتى فى حالة كبر سن الامهات ايضا يمكن استعمال تلك الطريقة لتعويض ما فاتهن و اللحاق بالسيدات المنجبات للأطفال. ومن المعروف ان المرأة تُولد ومعها كل بويضاتها والتي تتحلل مع تقدم العمر وتصبح غير قادرة على الانجاب. وحتى فى حالة الحيوانات البرية المعرضة للانقراض، يمكن استخدام آى خلايا لإنتاج أجنة صغار تحافظ على تلك الانواع وتجنب البحث عن بويضات.

وأثناء تنقيح تلك المقالة، و قبل إرسالها الى ادارة التحرير، صدقت نبوءة العالم (تونى بيرى)، والتي حذر فيها من أن "على المجتمع الاستعداد لتقبل اليوم الذى سيأتي قريبا، يستطيع الوالدين اختيار مواصفات ابنائهم حسب الطلب". فقد نشرت مجلة "نيو ساينتست" (New Scientist) العلمية الأسبوعية البريطانية (عدد الاثنين 24 سبتمبر/أيلول 2016م) نجاح ولادة أول طفل في العالم (وهو أردني) بطريقة "الطفل ثلاثي الآباء" باستخدام تقنية خصوبة جديدة تسمى "تبرع الميتوكوندريا" ويتمتع بصحة جيدة. ويحمل الطفل (المولود في ابريل/نيسان 2016م) الحمض النووي الطبيعي لأمه وأبيه، بالإضافة إلى قدر قليل (1%) من الشفرة الوراثية للمتبرعة، ضمانا ألا يكون للطفل نفس الحالة الوراثية التي تحملها والدته الأردنية في جيناتها، والتي كانت تعانى من خلل يطلق عليه "متلازمة لي-فراوميني" (Li-Fraumeni syndrome) وهو مرض وراثي نادر يتسبب بخطر متزايد للإصابة بالعديد من أنواع السرطان المختلفة، أدى إلى فقدها اثنين من ابنائها واجهاضها 4 مرات.

واستخدم الفريق الأمريكي، الذي يقوده الدكتور "جون تشانغ " (John Chung) من مركز الأمل الجديد للخصوبة (New Hope Fertility Center) في نيويورك، والذي أجرى تلك العلمية فى المكسيك، حيث لا توجد هناك قوانين تحظر ذلك. في هذا الأسلوب أخذت نواة بويضة الأم (بها كل الحمض النووي) وزرعت فى بويضة الأم المتبرعة (بعد التخلص من نواتها، مع بقاء الميتوكوندريا في السيتوبلازم)؛ لتكوين بويضة جديدة سليمة أمكن إخصابها بالحيوانات المنوية للأب. الميتوكوندريا هي أجزاء صغيرة توجد داخل كل خلية حيوانية (وبشرية) وتعمل كمكان لإنتاج الطاقة، وتحمل قدر قليل من المادة الوراثية مسئولة عن بعض الصفات الامُية مثل "متلازمة لي-فراوميني". وربما هذه التقنية (هندسة الإنجاب) تصبح تقنية المستقبل، لإنتاج أطفال حسب الطلب، ولا يمكننا تجاهل رأى الدين و التمسك بأخلاقيات العلم و الطب، وهذا ربما يكون مقالنا القادم، إن كان في العمر بقية.

المصدر: مجلة التقدم العلمى (الكويتية)، العدد رقم (98) ، يوليو 2017، الصفحات: 62-67.

ساحة النقاش

الأستاذ الدكتور قاسم زكى أحمد حامد Kasem Zaki Ahmed

KasemZakiAhmed
تعريف مختصر بالدكتور/ قاسم زكى أحمد أستاذ الوراثة المتفرغ ورئيس اللجنة المصرية الوطنية للعلوم الوراثية، والوكيل الأسبق لكلية الزراعة - جامعة المنيا- المنيا- مصر)، (والرئيس الأسبق للجمعية الأفريقية لعلوم الحاصلات الزراعية، وعضو الرابطة العربية للإعلاميين العلميين، وعضو اتحاد كتاب مصر) • مواليد 8 أغسطس 1958م بمحافظة أسوان- جمهورية مصر العربية، »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

273,722