<!--<!--<!--<!--<!--<!--
الاكتفاء من القمح ..صداع كل عام و التقاوي جذور المشكلة
بقلم د. قاسم زكى [email protected]
(أستاذ الوراثة و وكيل كلية الزراعة بجامعة المنيا لشئون خدمة المجتمع و تنمية البيئة و الرئيس الأسبق للجمعية الأفريقية لعلوم الحاصلات الزراعية و عضو الرابطة العربية للإعلاميين العلميين)
مع قدوم شتاء كل عام و قرب موسم زراعة القمح نعاود الحديث عن مشكلة عدم الاكتفاء الذاتي من القمح، و كأنه صداع يزورنا كل عام فى هذا الموعد، و نرى أن هذه المشكلة يمكن حلها بالتخطيط الجيد و فى غضون سنوات قليلة، و لكن قبل هذا لابد من أن نضع أيدينا على جذور المشكلة و التى تبدأ من قبل زراعة القمح مثلا المساحة المتاحة لزراعته و تنافسها مع المحاصيل الشتوية الهامة الأخرى كالفول و البرسيم، بل أيضا حين نشرع فى زراعة القمح فى المساحة المخصصة له نرى جملة من المشاكل و فى مقدمتها عدم توفر التقاوى المنتقاة و بضمان الدولة لجميع المساحات المخصصة.
و على الرغم من أن مصر المحروسة تحتل الرقم 30 بين دول العالم من حيث المساحة (حوالى واحد مليون كم2) و الرقم 16 من حيث عدد السكان (85 مليون نسمة)، إلا إنها تحتل (و للأسف) المرتبة الأولى عالميا فى قائمة الدول المستوردة للقمح، و هذا يلقى عبأ ثقيلا على صانع القرار و مدى استقلاليته، و أيضا على كاهل الشعب كله و الذي كان أجداده أول من زرع و حصد و صنع الخبز فى تاريخ البشرية. ففى حين تنتج مصر قرابة ثمانية مليون طن قمح سنويا إلا أنها تستورد قرابة ستة ملايين طن لتكفى احتياجاتها المتزايدة سنويا مع الزيادة السنوية للسكان (قدرها 1.3%)، و منذ سنين و تسعى الحكومات المتعاقبة لزيادة الإنتاج و تقليل الفجوة الغذائية (المتزايدة أصلا)، و بدون جدوى. و لعل وزير الزراعة الحالي (د. صلاح يوسف) أعلن بأن وزارته تستهدف زيادة الإنتاج الكلى من القمح فى مصر بنسبة 20% خلال العامين القادمين من خلال التوسع الأفقي والرأسي، بالإضافة إلى التوسع فى إقامة الصوامع لزيادة الطاقة الاستيعابية للتخزين من 4 ملايين طن إلى 8 ملايين طن لتقليل الفاقد فى الحبوب نتيجة لسوء التخزين، ففى هذا العام (موسم 2011/2012م) تستهدف الدولة زراعة 3 ملايين فدان، بالإضافة لمائة آلف فدان فى توشكى و شرق العوينات، ليصل بالإنتاج إلى ما بين 8-9 مليون طن (ليغطى 55-60% من الاحتياج المحلى). و وعد سيادته بتوفير التقاوي و الأسمدة و المبيدات و أيضا القروض للفلاحين للنهوض بتلك الزراعة الهامة.
و لكن لو تفحصنا حالة زراعة القمح، نجد أن الدولة ممثلة فى وزارة الزراعة، لا تستطيع توفير سوى 40% من التقاوي المحسنة المنتقاة العالية الإنتاجية المطلوبة هذا العام (بدلا من 25 % فى السنوات السابقة) لزراعة تلك المساحة المستهدفة (آي يمكنها تزويد الفلاحين لزراعة مليون و أربعون آلف فدان فقط) خاصة مع إقبال المزارعين على التوسع فى زراعة القمح بالتقاوي المعتمدة لتحقيق أعلى إنتاجية فالأصناف الجديدة (مثل مصر 1، ومصر2) تتجاوز متوسط إنتاجيتها 25 إردبا للفدان الواحد بدلاً من 18 أردبًا للأصناف الحالية، (بل سجلت رقما قياسيا حيث وصلت إنتاجية الفدان إلى 32.9 إردبا فى قنا). كما تعمل وزارة الزراعة على عودة الدورة الزراعية إلى سابق عهدها، وذلك بالتنسيق مع مديريات الزراعة بالمحافظات، و تزويد الفلاح الملتزم بالأسمدة اللازمة و كذا برامج المكافحة للآفات بالمجان بالإضافة إلى حزم الإرشاد الزراعي. كما ستُقصر توزيع التقاوي والأسمدة والمبيدات المدعمة على الجمعيات الزراعية بموجب الزراعات الفعلية بالأرض وليس الحيازة الزراعية كما كان متبعا من قبل، و كان يمثل فرصة لتسرب أغلب الأسمدة المدعمة و مستلزمات الإنتاج الأخرى للتجار الجشعين.
و لكن ماذا عن تقاوي القمح لباقي المساحة المستهدفة (أكثر من 2 مليون فدان)، حيث تتركهم الوزارة للشركات الخاصة أو ما يجنبه الفلاح من محصول العام الماضي، و هذا كثيرا ما يمثل خطورة على الفلاح و على الإنتاج القومي، فكثيرا ما تكون تلك التقاوي غير مطابقة للمواصفات القياسية للأصناف الجيدة للمنطقة التى ستزرع بها، أو ذات إنتاجية منخفضة و أصناف قديمة عفى عليها الزمن أو تكون منخفضة فى نسبة الإنبات فتسبب خسائر من البداية أو تكون مصابة بالتسوس أو مختلطة ببذور الحشائش (كالذمير) أو جراثيم الأمراض، ناهينا عن المغالاة فى أسعار تلك التقاوي و التى قد تصل إلى الضعف أحيانا و تباع فى السوق السوداء، ولعل نظرة سريعة لنتفحص أخبار زراعة القمح هذه الأيام لنكتشف هول الكارثة مع ضبط أطنان من حبوب التقاوي المغشوشة التى تتسرب للأسواق و بدون رقابة و يصعب على الفلاحين معرفة أين هى التقاوى المنتقاة. فلأي زراعة تمثل التقاوي المنتقاة أهم أركان مثلث الزراعة و الذى يكتمل ركناه الآخرين بالتربة الطيبة و المياه العذبة، فمهما كانت خصوبة الأرض و وفرة المياه و مها زودت بأسمدة و كوفحت الآفات و الحشائش، فلن يجدي هذا أبدا مع تقاوي غير جيدة.
و من المعروف أن فدان القمح يحتاج إلى 40-80 كجم تقاوي و الذى يتأثر بكثير من العوامل وأهمها الصنف وطريقة الزراعة وميعاد الزراعة ونسبة الإنبات و خصوبة الأرض، و أكدت وزارة الزراعة أن التقاوي المنتقاة متوافرة فى مقار الجمعيات الزراعية وجمعيات الإصلاح الزراعى وبنوك التنمية والائتمان الزراعى بالمحافظات، ويباع جوال التقاوى زنة 30 كيلو جراما بسعر 125 جنيه، و الدولة ستقدم العديد من التيسيرات للمزارعين لهذا العام منها الاتفاق مع البنك الرئيسي للتنمية والائتمان الزراعي على رفع الفئة التسليفية لزراع القمح إلى 3 آلاف و500 جنية للفدان، ورفع سعر استلام القمح من المزارعين لهذا لعام على أساس 380 جنيها للإردب، كل هذا يشجع الفلاحين على زراعة القمح و بالتالى زيادة الإنتاج و لكن الإخلال بهذه التعهدات يصيب ثقة الفلاحين فى حكومتهم فى مقتل (و لعلنا نذكر موسوم عام 2005، حين تم تشجيع الفلاحين على زراعة القمح و تجاوزت المساحة المنزرعة ثلاثة ملايين فدان لأول مرة فى مصر، و لكن وزارة التموين آنذاك رفضت تسلم غالبية المحصول و فضلت ما جلبة رجال الأعمال من الخارج، فهل نتعلم الدرس، أم أن الصداع سيستمر).
و لكن هذا ينبهنا لمشكلة خطيرة ليست فى زراعة القمح و حسب، بل تنسحب على غالبية المحاصيل الإستراتيجية الأخرى، و هى عدم توافر التقاوي المنتقاة بيسر و سهولة و أسعار مناسبة للفلاحين، والحقيقة المؤكدة إن التقاوي المحسنة هي أساس الإنتاج الجيد ولا يمكن أن نتوقع إنتاجا جيدا من أي محصول إذا تم البدء بتقاوي غير محسنة مهما كان الاهتمام بالعمليات الزراعية المختلفة وإجزال العطاء من المدخلات الزراعية الأخرى مثل الري والأسمدة والمبيدات واستخدام الميكنة في تجهيز الأرض الزراعية والحصاد وغيرها. وقد أدركت وزارة الزراعة هذه الحقيقة مع بداية ثمانينات القرن الماضي وبدأت في تنفيذ عدد من البرامج القومية وأنشأت العديد من مراكز إعداد التقاوي بهدف توفير التقاوي المعتمدة للمزارعين بأسعار مدعمة حتي منتصف التسعينات حيث بدأت مرحلة تحرير الاقتصاد وإلغاء الدعم علي مستلزمات الإنتاج ومنها التقاوي وسمحت للقطاع الخاص بتوسيع نشاطه في مجال إنتاج وتسويق التقاوي جنبا إلي جنب مع القطاع الحكومي، ونالت التقاوي جل اهتمام المزارعين، ولعبت التقاوي دوراً محورياً في زيادة إنتاجية الأرض الزراعية وزيادة العائد المحقق لهم من زراعة أراضيهم، وأصبحت لدينا صناعة فتية خاصة بالتقاوي. ولكن مع بداية الألفية الثالثة (مع سياسة الخصصة و التخبط) برزت العديد من المعوقات الفنية والإدارية بجانب الفساد الإداري و المالى و التي حالت دون تطوير تلك الصناعة في مصر، بينما استطاعت العديد من الدول النامية النهوض بهذه الصناعة من خلال تطوير أساليب الإنتاج والتسويق والاستفادة من تجارب الدول المتقدمة باعتبار أن التقاوي الجيدة هي نقطة البدء في تحقيق التنمية الزراعية المستدامة. و لعل موضوع إنتاج التقاوي المنتقاة (صناعة التقاوي) سيحتاج منا لوقفة أخرى، ربما نتاولة فى مقال آخر لو كان فى العمر بقية بإذن الله.
ساحة النقاش