أفريقيا هى مهبط الجنس البشرى، فقد برهنت الأدلة العلمية أن الإنسان بدأ خطواته الأولى على يابسة أفريقا منذ ما يقارب من سبعة ملايين من السنون، كما كشفت الحفائر عن هياكل للإنسان الأول الذى عاش فى أثيوبيا منذ مائتي ألف سنة. لذا بدأ حضارته فى ربوع القارة لتسجل أعلى تقدم لحضارات الكون على ضفاف نهر النيل حيث حضارة الفراعنة فى أرض الكنانة. أفريقيا هى قارة متعددة الثقافات و بها مئات اللغات المختلفة و عديد من القرى و التى منها مازالت تعيش عيشة بدائية لم تتطور منذ مئات السنين. أفريقيا هى جنة الله فى الأرض بما حباها الله من ثروات طبيعية و موارد نباتية و حيوانية، كما هى نار الكوكب لما لاقته على يد جحافل المستعمرين و ما نشب و ينشب من حروب لم تهدأ منذ قرون، و إنتشار المجاعات و الأمراض و الأوبئة و القلاقل و كثرة اللاجئين. و اليوم يبحث أبناء القارة عن مستقبل لقارتهم، و قد يكون السبيل هو العلم و التكنولوجيا، بعد نيل كامل حريتهم. لكن و نظرا للظروف الخاصة بتلك القارة فإن إنتاجها العلمى قليل، و تساهم بما هو أقل من 1.8% من إنتاج العالم من البحوث العلمية، لذا لا بد من إهتمام أبناء القارة، حكاما و شعوبا بتوحيد جهودهم و تنظيم أمور حياتهم للحاق بركب العالم المتقدم، كما يجب على دول العالم المتقدم مد يد العون لشعوب القارة للأخذ بيدها، من آجل الإنسانية جمعاء و للتكفير عما أقترفوه فى العصور المظلمة فى حق إفريقيا.
إفريقيا الجنة و النار:
إفريقيا السمراء ثان أكبر قارة فى العالم بعد أسيا، من حيث تعداد السكان، ففيها يعيش اليوم 950 مليون نسمة يمثلون 14.2% من سكان العالم، و مساحتها تقدر بـ 30.4 مليون كم2 تمثل 6% من مساحة الكرة الأرضية و 20.4% من إجمالي مساحة يابس المعمورة، و هى تعادل ثلاث أضعاف مساحة أوربا, و تمتد أفريقيا طولا قرابة 8 آلاف كم، و عرضا 7.4 آلاف كم، تضم 53 دولة. و هى تحوي جميع معالم الجغرافيا من السهول والوديان إلي الهضاب والجبال، ومن الصحراوات القاحلة إلي الأراضي الفيضية والغابات الكثيفة، وتمتد الحياة البرية علي أراضيها لتضم أكثر من نصف ثروات الأرض من الأنواع النباتية والحيوانية، وهي غنية بكل أنواع الثروات الطبيعية، ففيها مثلا أكبر مناجم الذهب و الألماس فى العالم، ومع كل ذلك يظل سكانها هم الأكثر فقرا في العالم، و الأقل من حيث النمو الإقتصادى، ويواجهون كل آثاره التي ذهبت بثرواتها من البشر والموارد الطبيعية، واستنزفتها القوي الاستعمارية طويلا وتركتها تعاني وحدها آثار الفقر وشح الموارد بما فعلته و بما جنته الحروب والصراعات بين القبائل والشعوب الإفريقية نفسها، فلم تعرف أفريقيا استقرارا تاما إلى يومنا هذا. و من اللائق ألا ننسى ما يدور حاليا فى دارفور و العنف الحاصل فى الكونغو و إضطرابات الصومال و كوت ديفوار و زيمبابوى و المجاعات المخيفة فى النيجر و زامبيا، كذا هناك تسعة ملايين إفريقى فى جنوب القارة يعانون المجاعة، و كذا يحذر برنامج الغذاء العالمى من وقوع كارثة بشرية فى شرق أفريقيا يصعب تخيلها أو حتى إحتمالها و ذلك بسب قلة سقوط الأمطار و الجفاف القادم. فأكثر التقارير الدولية تفائلا تذكر أن من بين كل ثلاثة أفارقة يعيشون فى تلك القارة، واحد على الأقل منهم يعانى من الجوع و سوء التغذية. ناهينا عن الحروب الأهلية التى تعود لتدق أبواب تشاد و النيجر و مالى، كذا التربص على حدود أثيوبيا و جيبوتى و جارتهما العنيدة إريتيريا و اللاجئون فى الصومال و أريتيريا و بورندى و تشاد و دول حوض النيل عامة. و قرصنة البر و البحر كما هو حادث فى دلتا نهر النيجر فى الغرب و قراصنة الصومال فى الشرق. و علينا ألانغفل بأن هناك قرابة 24 مليون أفريقى مصاب بالإيدز، منهم خمسة ملايين فى أكثر دول القارة تقدما، و هى جنوب إفريقيا، بينما الكوليرا تتفشى فى السنغال و غينيا بيساو و زيمبابوى، و مازالت الملاريا تحصد سنويا قرابة المليون إفريقى بل و تتسبب فى إصابة 300 مليون بالقارة بأمراض أخرى تصبح الحياة معها شاقة. و حتى الأمراض التى أختفت من خريطة العالم فمازالت تطل برأسها دوما فى إفريقيا، فمثلا في السنوات الخمس الاخيرة سجلت منظمة الصحة العالمية ما بين الف وثلاثة الاف حالة اصابة بالطاعون سنويا، اكثرها في الكونغو واوعندا ومالاوي وموزمبيق وتنزانيا. بل عادت تجارة العبيد تطل بوجهها القبيح مرة أخرى، حيث أعلنت اليونسكو منذ فترة ماتم فى نيجيريا ببيع ستة آلاف طفل من دولة بنين بسعر عشرون دولارا للطفل، و كما حدث أيضا من محاولة تهريب أطفال تشاد و السودان إلى فرنسا فى الواقعة الشهيرة التى تناولتها المحاكم فى نهاية 2007م. هناك أيضا خمسون مليون طفل أفريقى لم يتمكنوا من اللحاق بالتعليم.
الأمل فى الغد و دور العلم و التكنولوجيا:
لقد كانت صحوة إفريقيا و تحرر غالبية دولها، و بدأ التعاون بين شعوبها، هو الأمل لتك الشعوب التى عانت و مازالت تعانى الكثير في مسيرة الهم الإفريقي المشترك. و كان اختيار موضوعات التعاون بين دول القارة ذو علامة فارقة لمستقبلها، فكانت الأولية لمشاكل الزراعة و المياه و الغذاء و الصحة و البطالة والصرف الصحي، و البحث عن استراتيجية عمل مشتركة عبر الإتحاد الإفريقى أو المنظمات الإقليمية لتجاوز مرحلة التحرر والتخلص من التبعية، بكل شعاراتها التي لم تسفر إلا عن قليل من النتائج، و بذا اقتربت قمم التعاون الإفريقى من مشكلات حقيقية تنوء بها الأرض الإفريقية وتعانيها شعوبها. وهنا نقول إن مشكلات التنمية في إفريقيا لن تستطيع دول القارة مواجهتها منفردة حيث تندر مصادر التمويل, وتختفي التكنولوجيا اللازمة، فإفريقيا بحاجة إلي دعم خارجي لمواجهة مشكلاتها, ولكنها تأخرت كثيرا في بلورة موقف إفريقي موحد يعزز قدراتها علي التفاوض مع العالم الخارجي.
إن العلم و التكنولوجيا هما السبيل الوحيد لتحرر تلك الدول و حل مشاكلها المعقدة، و إكتفائها ذاتيا من الغذاء، بالطبع يسبق ذلك نيلها لحريتها الكاملة لتلحق بركب الديمقراطية كباقى دول العالم المتقدم. و فى دراسة حديثة لرصد مساهمة قارة إفريقيا فى مجال العلم و التكنولوجيا، صدر فى شهر مايو من هذا العام (2009م) تقرير يعتبر الأول من نوعة فى إفريقيا، قام باحثان من دولة جنوب إفريقيا برصد الوضع الحالى للبحوث العلمية و التكنولوجية فى القارة السمراء خلال الفترة من عام 2000 إلى العام 2004م، إعتمادا على قواعد البيانات العالمية، و ينتمى أحد هذين الباحثين (اناستاسيوس بيورس Anastassios Pouris) لمعهد الابتكارات التكنولوجية بجامعة بريتوريا، و زميلتة (وAnthipi Pouris) تنتمى لمؤسسة جنوب إفريقيا القومية، و اللذين نشرا بحثهما المميز فى الدورية العلمية (القياسات العلمية Scientometrics) و التى تصدر عن الدار الأكاديمية (المجرية) و المتعاونة مع دار سبرنجر العالمية (Akadémiai Kiadó, co-published with Springer Science+Business Media B.V.)، و اعتمد هذا التقرير على أساس مؤشرين اثنين (scientometric) و هما عدد البحوث العلمية المنشورة عالميا لعلماء و باحثى القارة الإفريقية، و كذا عدد براءات الاختراع الممنوحة للمخترعين الأفارقة من جانب هيئة USPTO (مكتب الولايات المتحدة للبراءات والعلامات التجارية United States Patent and Trademark Office).
وقد أعلن الباحثان و من واقع تحليل النتائج التى جمعاها و قاما بتحليلها، أن إفريقيا أنتجت قرابة تسع و ستون آلف (68945) منشور علمي خلال الفترة 2000-2004م ، بما يعادل 1.8٪ من المنشورات البحثية في العالم، و بالمقارنة أنتجت الهند 2.4٪، وأمريكا اللاتينية 3.5٪ ، و الصين 4.7% من المنشورات البحثية في العالم، بينما تتربع أوربا على القمة (38.8%) و تليها الولايات المتحدة الإمريكية (33.6%). ويكشف تحليل مفصل لتلك البحوث في أفريقيا أنها تتركز في بلدين فقط، أنتجتا ما يزيد عن الـ 50 ٪ من منشورات القارة العلمية، هما جنوب إفريقيا بمعدل (30.1%) و مصر بمعدل (20.2%). كما رصد التقرير أيضا أن أعلى ثماني دول أفريقية أنتجت مجتمعة ما تفوق نسبتة الـ80% من أبحاث القارة العلمية ( فبجانب جنوب إفريقيا، و مصر، أنتجت المغرب (7.9%)، نيجيريا(5.9%)، تونس(5.7%)، كينيا(4.7%)، الجزائر(4.0%)، تنزانيا (2.0%)، أثيوبيا (1.9%)، و الكاميرون(1.9%)). و قد تركزت أبحاث علماء إفريقيا فى المجالات الطبية، و الدراسات الخاصة بالنبات و الحيوان، و ثالثهما فى الترتيب جائت أبحاث الكيمياء، و تسيدت دولة جنوب إفريقيا الترتيب فى كلا المجالين الأولين، بينما تربعت مصر على قمة إفريقيا فى مجال أبحاث الكيمياء بنسبة (40%)، أما نيجيريا، فكانت الأعلى فى مجال أبحاث العلوم الزراعية (بنسبة 18.9%). ويكشف تحليل كفاءة الأداء أن عددا قليلا من الدول الإفريقية التى لديها الحد الأدنى من عدد العلماء و الكوادر و الإمكانيات للعمل فى مجال العلم و التكنولوجيا.
و فى مجال أبحاث البيئة، و هو المجال الهام لإفريقيا و ذلك للحفاظ على مكونات البيئة نظيفة و ضمان إستمراية التنمية المستدامة، هناك أربعة بلدان فقط هى: جنوب أفريقيا و مصر و نيجيريا و كينيا، تمتلك ناصية الأبحاث و الإهتمام فى هذا المجال و علمائها ينتجوا على الأقل 300 أو أكثر من المنشورات العلمية سنويا. و لكن الأبحاث المتعلقة بعلوم الأرض والموارد الرئيسية (الزراعة، والبيئة، والعلوم الجيولوجية، والعلوم النباتية والحيوانية) احتلت 26.4٪ من البحث في افريقيا، في حين تبلغ هذه النسبة فى كل من الولايات المتحدة والهند 13.5٪ و 19.5٪ على التوالي، و لعل الإفراط في التركيز، يعود لرؤية الباحثين الأفارقة.
كما أظهر المؤشر الثانى فى الدراسة، مدى تدنى المشاركة الإفريقية فى مجال الإبتكار و الاختراعات، حيث يذكر التقرير أن إفريقيا حصلت على 633 براءة إختراع مقابل 817 آلف براءة إختارع حصلت عليها دول العالم الأخرى خلال تلك الخمس سنوات، آى أن.إفريقيا ساهمت بما هو أقل من واحد فى الآلف من إبتكارات و إختراعات العالم. وعلاوة على ذلك، فإن 88% من براءات الاختراع بالقارة تتركز في دولة واحدة هى جنوب افريقيا. و لعل من الشئ الملفت للنظر هو أنه على الرغم من أن إفريقيا تساهم بما قيمتة 1.8% من المعارف و الأبحاث العالمية، فى حين تساهم فقط بما هو أقل من 0.1% من إبتكارات و إختراعات العالم، ربما يعود هذا لقلة التعاون مع بقية دول العالم و العزلة التى يعانيها مخترعى إفريقيا أو ربما لإرتفاع كلفة تسجيل براءات الإختراع عالميا و قلة الوعى لدى المخترعين و ضآلة الدعم الحكومى لهؤلاء المبتكرين.
سبل النهوض بالقارة:
وخلص الباحثان الى ان "مصدر الإهتمام الرئيسي في القارة ينبغي أن يدور حول كيفية تطوير القدرات البحثية بصورة شاملة (وليس فقط على نوعية التخصصات). وتحتاج البلدان الإفريقية أن تفعل شيئين في وقت واحد. أولهما، ينبغي أن تهدف إلى تخريج المزيد الطلاب المتدربون جيدا و بكفاءة عالية (آى تنمية الموارد البشرية فى مجال البحث العلمى و التكنولوجيا) ، وعلى الجانب الآخر يجب تهيئة الظروف الملائمة لهؤلاء الخريجين و إغرائهم للبقاء في بلدانهم. وبالمثل، ينبغي أن تهدف الجهات الدولية المانحة لدعم و مساندة مراكز البحوث القائمة لتأدية رسالتها للنهوض بمتطلبات البحث العلمى فى القارة وتطويرها لتصبح مراكز للخبرة، و أيضا المساعدة على إنشاء نظام ناجح للبحث العلمي في القارة ".
و قد اقر المؤتمر الوزاري الأول للشراكة الجديدة لتسخير العلم والتكنولوجيا والشراكة الجديدة لتنمية أفريقيا وإعلان (نيباد ، 2003) بأن تلتزم الشراكة الجديدة من أجل "وضع واعتماد مجموعات مشتركة من المؤشرات لنظم الابتكار الإقليمية و مراعاة المصالح الوطنية "، فإن أفريقيا هي القارة الوحيدة التي ليس لها وكالة مسؤولة لتشجيع ومساعدة الوضع فى مجال العلم والتكنولوجيا .
و رغم ضائلة مساهمة إفريقيا عالميا فى مجال البحث العلمى و التكنولوجيا، فلابد من أن تتوائم إستخدامات العلوم و التكنولوجيا مع معتقدات و عادات و ثقافات تلك الشعوب و موروثها الشعبى المتراكم عبر فترات التاريخ المختلفة. إن العلوم الحديثة بدأت تشق طريقها عبر دروب القارة. فعلى الرغم من تأخر دول إفريقيا فى اللحاق بركب الثورة الخضراء فى مجال الزراعة مثلا، إبان سبعينيات القرن الماضى، فإن اليوم هناك 14 دولة فى القارة تعمل فى مجال الهندسة الوراثية للمحاصيل، منها ثلاثة دول (جنوب إفريقيا، و بوركينا فاسو، مصر) قد زرعت المحاصيل المعدلة وراثيا على نطاق تجارى، و البقية تأتى. على أنه لابد من أن تملك دول القارة تلك التقنية و لا تكون سوقا رائجة لتلك المنتجات أو سوقا لإنتاج تلك المنتجات لحساب الشركات العملاقة ذات الجذور خارج القارة، و ربما فى دول لها تاريخ إستعمارى للقارة، نعم للتعاون و لا للتبعية مرة أخرى.
و هذا الموضوع يفتح باب النقاش بقوة حول الموارد الوراثية التى تزخر بها القارة، و ما لها من فوائد عظمى لمحتواها الوراثى، و الذى تلهث خلفة الشركات العالمية بحثا عن جينات مقاومة الملوحة و الجفاف و الأمراض و الحشرات و تلك ذات الفوائد الإقتصادية الأخرى للمحاصيل. و إنها لمعضلة تقنية و أخلاقية ينوء بها كاهل أبناء القارة للحفاظ على تلك الثروة الحيوية، التى حبى الله بها تلك القارة. و نعلم يقينا أن الغذاء غير كاف، فإفريقا البقعة الوحيدة فى العالم التى يتناقص معدل إنتاج الغذاء فيها، على الرغم من زيادة السكان، وحتى فى حال توفر الغذاء، فهل هذا الغذاء آمن صحيا، آى غير ملوث ببقايا المبيدات و الكيماوات الأخرى و الطفيليات و الحشرات، و هل المنتجات الغذائية الجديدة سواء من الهندسة الوراثية أو الحيوانات المستنسخة ستكون آمنة غذائيا و صحيا فى حال توفرها. و هل إفريقيا هى حقا حقل تجارب لأبحاث العالم المتقدم كما يعتقد البعض؟.
المراجع:
1-Anastassios Pouris and Anthipi Pouris (2009) The state of science and technology in Africa (2000–2004): A scientometric assessment. Scientometrics, Volume 79, Number 2 / May, 2009, Pages: 297-309.
_________________________________________________
نشر هذا المقال على موقع ليبيا 8 (http://www.libya8.com/11.htm)
يوم 20 يوليو 2010م
ساحة النقاش