دعوة لبناء مجتمع علمي
بقلم : د. قاسم زكي
منذ ثلاثة عقود مضت ولثورة التكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية نصيب كبير جدا في المواد الإعلامية والتي تنقلها وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية عبر جنبات العالم ولعل هذا يتواكب مع مشاكل نقص الغذاء وإرتفاع أسعاره والمستجدات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لفت العالم بأسرة وكان لزاما علي العالم البحث عن مصادر جديدة لزيادة إنتاج الغذاء ليكفي النمو المتزايد في أعداد البشر والذين سوف يصلون لقرابة العشرة بلايين نسمة مع العام2050 م فكانت ثورة التكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية والتي غطت منتجاتها النباتية مساحات شاسعة من الأرض المنزرعة حول العالم، ربما تتجاوز مائة وعشرين مليون هكتار( قرابة الثلاثمائة مليون فدان) ولقد نال هذا الفرع المستحدث من العلوم والتكنولوجيا نقاشا وجدالا واسعا ليس بين العلماء أنفسهم فقط, ولكن بين الساسة وصناع القرار وفئات المجتمع عامة وحتي رجال الدين ومازال التخوف من هذه المنتجات وأثرها علي صحة المستهلكين وعلي البيئة مجال خلاف ونقاش حاد, لذا كانت مادة إعلامية خصبة.وعلي الرغم من أن البعض ينظرون اليها كثورة جديدة( ثورة الجينات) تشبها وتيمنا بالثورة الخضراء التي أطلت برأسها في سماء البشرية في ستينيات القرن الماضي, والتي أنقذت ملايين البشر من الجوع والمرض والفقر حين أحيت الأرض بعد مواتها وذلك بابتكار أصناف جديدة من الحاصلات الزراعية مثل القمح والأرز والذرة وغيرها, زادت من الإنتاج فملأت جيوب المنتجين بالأموال وبطون الجوعي بالغذاء وخاصة في العالم النامي .
أما عن ثورة الجينات فقد تسيدت الولايات المتحدة الأمريكية دول العالم في هذه التكنولوجيا حيث مازالت تحتفظ بنصيب الأسد بين الدول المنتجة والحائزة علي هذه التكنولوجيا وحتي المصدرة لها.
وقد تناول الإعلام العالمي بكل وسائله تغطية هذه الثورة ومازال, ولكن كانت ومازالت هناك بعض الشكوك, وخاصة أن تلك التكنولوجيا تكاد تكون حكرا علي الدول المتقدمة, بل والشركات العملاقةوعابرة الحدود, فظن البعض أن هذا هو استعمار جديد ولكن في ثوب اقتصادي, في رداء رغيف الخبز ومع هذا ثبت ان تلك الثورة ستكون في صالح المستهلكين والمنتجين لذا زادت المساحات التي تزرع بتلك المنتجات يوما بعد يوم,،بل بدأت حقولها تزدهر في دول العالم النامي كالصين والهند والمكسيك والأرجنتين وجنوب إفريقيا وغيرها ولكن كانت هناك حرب مستترة بين الاتحاد الأوروبي( المحافظ والمتردد في هذه التكنولوجيا) وبين القطب الأوحد أمريكا وشملت تلك الحرب التشكيك في تلك المنتجات وتأثيراتها والنزاع علي احتكار سوق منتجات تلك التكنولوجيا, مما كان له تأثير كبير في بلبلة شعوب العالم النامي نحو قبول أو رفض تلك التكنولوجيا, وبدأت التوجهات السياسية تلعب دورا رئيسيا في تلك القرارات, ولعل هدية القمح الامريكي المهندس وراثيا لزيمبابوي الفقيرة, وترددها في القبول رغم جوعي الشعب هناك, وخوفهم من مقاطعة اوروبا لصادراتهم, لخير مثال علي تلك البلبلة في عالمنا العربي والذي تربطه بالعالم صلات عديدة, حيث اصبح العالم قرية صغيرة فها هي التكنولوجيا الحيوية, ومنتجاتها تأتي الي موائد اطعمتنا وملابسنا وغذاء حيواناتنا كان لزاما ان تتناول وسائل اعلامه تلك التكنولوجيا,
وبحكم تخصصي العلمي في هذا المجال ومتابعتي لمايكتب عنه وما يقال في وسائله المختلفة فقد كانت لي ملاحظات عديدة, منها عن كيفية تناول الموضوع وعن الابحاث التي تجري فيه في بقاع الوطن العربي, ومدي نجاح ذلك لدي المتلقي العربي, وتأثير ذلك في تنمية هذه التكنولوجيا لتصبح صناعة عربية بأيد عربية وللإنسان العربي, اسوة بما تم في أقطار تشبه ظروفنا العالم النامي والتي نجحت في هذا المضمار.
فلقد اتسمت تغطية تلك الموضوعات في بدايتها بالخلط بين المفاهيم المختلفة دونما دليل مثل الخلط بين النباتات العادية المنتجة بالتكاثر عن طريق زراعة الانسجة, وتلك المنتجة بالهندسة الوراثية, مما كان له انعكاس سيئ لدي المتلقي العربي, فبدأ يرفض تلك التكنولوجيا من البداية ويتعصب ضدها, حتي ان هناك قطاعا من المثقفين وايضا بعض علماء التخصصات الاخري, قد رفضوا تلك النقلة الحضارية و لقد اتهم المستهلك العادي كل مشكلة تأتي في مجال انتاج النبات بأنها مهندسة وراثيا, فمثلا حينما رأي المستهلكون كبر حجم ثمار بعض الخضر والفاكهة مع اختلاف طعمها عن المألوف, وجهوا الاتهام لها بأنها مهندسة وراثيا, كذلك حين قام بعض ضعاف النفوس من منتجي تلك الحاصلات برشها بالمبيدات بإفراط لحمايتها من الآفات و الحشرات وحتي في مواعيد جمع الثمار مخالفين بذلك قواعد استخدام تلك الكيماويات, ايضا وجه الاتهام للهندسة الوراثية, علما بأن في عالمنا العربي وفي مصر تحديدا لم تزرع تلك المنتجات ولم يصرح بها بعد, وغير متداولة في الاسواق بعد سواء طبقا للتشريع او عدم توافرها انتاجا اصلا.
فقد كان يهم بعض رجال الاعلام عمل سبق صحفي او اعلامي علي حساب توضيح الصورة كاملة للمتلقي, علما بأن التركيز علي توضيح الجانب العلمي وشرحه بدقة يساعد في بناء مجتمع علمي مثقف يستطيع ان يشارك في صنع القراروتقبل الجديد من تلك التقنيات والتي ربما تكون في صالح البشرية, كما كان مع الثورة الصناعية والثورة الخضراء وربما يكون مع ثورة الجينات.
ربما الامية التي تضرب بجذورها في المجتمع العربي, وكذلك الامية الثقافية وناهيك عن الامية العلمية, تكون عائقا صلدا امام تقبل كل ما هو جديد من علوم وتكنولوجيا هذا يلقي الكثير من المسئوليات علي الاعلاميين العلميين في عالمنا العربي نحو حمل مشعل الانارة وتسليط. الضوء علي ماهو جديد وتبسيط تلك المفاهيم لرجل الشارع العادي وحتي الفلاح والمنتج البسيط ولا نغفل دور بعض الصحف والمجلات والبرامج الاذاعية والتليفزيونية في تقديم المعلومة العلمية و اطلاع المجتمع وتبصرته بالجديد في فروع العلم المختلفة. ولكن هذا قليل مقارنة بما تزخر به وسائل الاعلام تجاه الفن والرياضة والتسلية لذا نأمل في ان يتم التركيز علي بناء مجتمع علمي مثقف, يتقبل الجديد ويتفهم مستجداته, وتبني التكنولوجيات التي تتلاءم وتتواءم مع مجتمعاتنا ومع ظروفنا ومتطلباتنا. بهذا يمكن الاعتماد علي الذات والوصول لحد الاكتفاء الذاتي لدول الوطن العربي في غذائه, كما فعلت بعض البلدان الاخري التي قطعت شوطا طويلا في مجال التكنولوجيا الحيوية و الهندسة الوراثية.
ساحة النقاش