لقد مرت البشرية بمراحل عديدة فى تاريخها منها ما أثر فى نمط الحياة و سلوك الأفراد و منها ما هزها بعنف و نقلها نقلة كبيرة فى طريق الحضارة و المدنية. و يطلق أحيانا على تلك الأحداث الجسام ثورات، و لعل أشهرها الثورة الصناعية فى منتصف القرن الثامن عشر، و التى ألقت بظلالها على التاريخ الإنسانى. و بداية فمن المسلم به أن رجال السياسة لايستطيعون وحدهم تغيير وجه التاريخ، إلا فى فترات قصيرة للغاية – و لكن العامل المحدد و المؤثر فى هذا الموضوع هو الإختراعات العلمية و الاكتشافات هى وحدها القادرة على تغيير سلوك الناس، و تحضرنا مقولة "فرانسيس بيكون" التى سجلها منذ أربعة قرون مضت "إن صناع التاريخ الحقيقيون هم بناة المدن و مشرعو القوانين و العلماء و الفنانون و يستثنى من ذلك الطغاة الذين يقتصر تأثيرهم على فترة محدودة من الزمان بينما يبقى تأثير العلماء و المخترعين إلى الأبد".
و تعيش البشرية هذه الأيام فى ثورة علمية هائلة شملت كافة نواحى الحياة، بل كان منها ما هو مجرد أضغاص أحلام منذ بضع سنوات قليلة فقط و أصبح واقعا ملموسا، و منها العديد من الإنجازات التى أدت خدمات جليلة للبشرية فى مجالات إنتاج الغذاء و الكساء و الصحة و المواصلات و الإتصالات و البناء و كافة نواحى المعرفة. و لكن كان منها المفزع و الذى صدم البشرية فى معتقداتها و عاداتها و معارفها المتوارثة عبر القرون. و كان ميلاد النعجة "دوللى" عن غير الطريق الطبيعية للمواليد حدثا هز أركان العالم فى فبراير 1997م، الذى صحا فجأة على نجاح عملية الإستنساخ فى مجال "الثدييات" بعد استخدامها من قبل فى مجالى الزراعة و بعض حيوانات التجارب. وتتم عملية الإستنساخ عامة بزرع نواة خلية جسدية للكائن المرغوب إستنساخة (كانت خلية من الضرع فى حالة دوللى) فى خلية بيضة انثوية منزوعة النواة، ثم نقلها لرحم أى أنثى لحين إكتمال نمو الجنين و ولادتة مشابها تماما للكائن المراد إستنساخة. و الكائن المستنسخ يختلف عن الذى يولد بطريقة طبيعية، حيث أن وجود الإنسان فى الحياة، مثلا، يتطلب خلية ذكرية و خلية أنثوية حتى يجمع الجنين بين صفات الأم و صفات الأب و تتحقق عملية دمج الصفات الوراثية.
و تسائل العالم كلة يومئذ: أيصبح من الممكن تحقيق مثل هذا النجاح فى استنساخ إنسان بلا أب و لا أم كما خُلق أدم؟ أو من أم بلا أب كما ولد السيد المسيح عليهما السلام؟ و لقد وصل الأمر إلى التفكير فى الاستغناء عن الذكور كما يحدث بالنسبة للبقر و هل يمكن إستخدام أرحام الحيوانات كحضانات لأجنة البشر المستنسخة و لا حاجة للنساء ؟ و كثرت التساؤلات (و ما زالت) فأصبحت كالطوفان تطالب علماء الأديان و علماء الحياة أن يتكلموا و أن يطمئنوا الناس على حاضرهم و مستقبل أجيالهم، و نادى الكثير من رجال الدين و السياسة بإدانة الإستنساح الأدمى بل طالب العديد منهم بوضع تشريع يُحرم على العلماء أن يحاولوا إستنساح الإنسان. و لكن هل توقف هذا البرنامج البحثى بعد ما تبين ماله من مخاطر جمة على البشرية من النواحى الصحية و العقائدية و إختلاط الأنساب و المشاكل الإجتماعية و الميراث و غيرها الكثير ما نعرفة و ما لا يتطرق على بالنا إلى اليوم. لعلنا لا نستطيع أن نجزم بالنفى أو الإثبات لما يدور خلف جدران المعامل، و لكن دعونا نتابع ما تنقلة وسائل الأعلام عن الأوساط العلمية عن ذلك الموضوع الحساس، و لعلنا نذكر ما أدلى به الدكتور الإيطالي "سيفيرينو انتينوري" (و هو طبيب متخصص في علم الاستنساخ) فى مطلع هذا العام (2001م) بأنة يعتزم بدء استنساخ الأجنة البشرية للذين يعانون من العقم، و بأنة لدية الإمكانات للقيام بذلك دونما عائق. و ليعلن زميلة القبرصي الأصل و الذى يعمل فى أمريكا الدكتور "بانايوتيس زافوس" فى بداية اكتوبر 2001م أنه ستكون الإمكانيات متوافرة لدى العلماء لاستنساخ أول إنسان قبل نهاية هذا العام.
وأوضح الدكتور زافوس، الذي يعمل مع زميله الدكتور الإيطالي انتينوري في مشروع مثير للجدل للإستنساخ (منذ 1998م) تسبب في قلق بين أوساط مختلفة في العالم، أن بحوثها لاستنساخ أول إنسان تسير على نحو أفضل وأسرع مما كان متوقعا. وكان هذا الفريق العلمي قد منع من استكمال أبحاثه في معظم دول الاتحاد الأوروبي، إلا أن الدكتور زافوس، ، قال إن ذلك لم يعرقل المشروع.
وأضاف هذا الباحث، في تصريحات صحفية لرويترز، أن الأبحاث تسير على نحو جيد، وسنحاول إنتاج أول أجنة بشرية مستنسخة في المستقبل القريب جدا، وربما خلال ثلاثة أو أربعة اشهر من الآن (أى مع نهاية هذا العام 2001م؟). يشار إلى أن احتمالات بحوث هذا الفريق العلمي مفتوحة على إنتاج إنسان مستنسخ من إنسان أخر إما حيا أو ميتا. وأكد الدكتور زافوس، الذي أعلن في السابق أن " الجني انطلق من القمقم" عقب استنساخ النعجة دولي لتصبح أول حيوان ثديي مستنسخ، انه لا يوجد ما هو غير أخلاقي في مشروعه. وأوضح أن هدفه الأساسي يتمثل، فى نجاح المشروع، في مساعدة الأزواج المصابين بالعقم في التمتع بالأبوة والحصول على طفل. بينما هاجم زميلة البروفيسور أنتينوري منتقدي الاستنساخ، قائلا إن الاكتشافات الطبية والعلمية الضخمة في الماضي كانت تقترن غالبا بانتقادات عنيفة. واضاف هذا العالم (الدكتور زافوس) المتخصص في العقم، والمستقر في ولاية كنتاكي الأمريكية، أنه ليس مهتما بإنتاج نسخ جديدة لشخصيات معروفة، سواء كانت طيبة أو شريرة، وليس استنساخ من مات.
وكانت دول مثل فرنسا وألمانيا قد دعت الأمم المتحدة إلى حظر استنساخ البشر في إطار معاهدة دولية، بعد أن أثيرت زوبعة حول الموضوع بين جمهور من الأطباء وزعماء جماعات دينية متنوعة الأصول، ترى أن تسعين بالمئة من عمليات الاستنساخ في الحيوانات لم تنجح، وأن العشرة بالمئة الباقية ينتج عنها أجنة مشوهة.
وفي هذا الصدد نفى الدكتور زافوس أن يكون الهدف من وراء استنساخ أول إنسان هو مطامع شخصية. وأكد أن آلافا من المحرومين من الإنجاب من كل أنحاء العالم يساعدونهما في مشروعهما. وامتنع هذا الباحث عن تحديد المكان الذي تجري فيه الأبحاث، لكنه أشار إلى أنها تجرى في اكثر من بلد؟. وخلص إلى القول إن الحكومات التي حظرت تجارب استنساخ البشر أخطأت بخلطها القضايا السياسية بالأمور العلمية والطبية. يذكر أن البروفسور زافوس و زميلة أنتينوري قد سببا جدلا واسعا و تصدرا عناوين الأخبار حينما ساعدا امرأة عمرها اثنان وستون عاما على الإنجاب بزرع بويضة مخصبة من امرأة أخرى في رحمها.
و فى السابع من أغسطس هذا العام (2001م) اجتمع عدد من خبراء الاستنساخ وأطباء أمراض النساء والولادة في الولايات المتحدة لمناقشة موضوع الاستنساخ البشري الذي أصبح من أهم الموضوعات المثيرة للجدل في الوقت الحالي. وقد حاول الدكتور زافوس، و الدكتور انتينوري، إقناع لجنة تحقيق تابعة أكاديمية العلوم الوطنية بأن استخدام الاستنساخ لمساعدة الأزواج غير المنجبين على إنجاب الأطفال هو أسلوب عملي ومقبول أخلاقيا . وقد ذهب الدكتور انتينوري إلى واشنطن يحمل تحذيرا من السلطات الطبية بأنه يخاطر بفقدان حق ممارسة المهنة في إيطاليا بسبب خططه لاستنساخ البشر.
وتنظر اللجنة في الاستنساخ من جميع الزوايا كوسيلة لتطوير علاجات جديدة وأساليب جديدة لتحسين سلالات الماشية في المزارع، وتأمل في الخروج بتقرير يطرح للنقاش العام بحلول نهاية العام، وهو الوقت الذي يأمل الطبيبان المؤيدان للاستنساخ فيه في بدء تجاربهما على البشر.
وقال الدكتور زافوس في بدء اجتماع اللجنة إنه يدرس حاليا إمكانية إخضاع نحو مئتين زوج لأسلوب الاستنساخ بداية من شهر نوفمبر المقبل (2001م) مضيفا أنه لايوجد شيء اسمه الكمال في مجال التناسل البشري ، ومؤكدا أنه سيطُلع مرضاه الراغبين في الخضوع للاستنساخ على الأخطار التي قد يتعرضون لها. وسيشترك الطبيبان زافوس وانتينوري بالتعاون مع الدكتورة برجيت بويسلر وهي أخصائية في الكيمياء الحيوية في مجموعة تسعى لاقناع اللجنة بقبول الاستنساخ البشري. وتقول تلك المجموعة من المتخصصين إن الاستنساخ سيصبح مقبولا تماما كإنتاج أطفال الأنابيب وتدرس اللجنة حاليا الأوضاع الراهنة لتقنية الاستنساخ وما إذا كانت متقدمة بدرجة كافية لاستخدامها بشكل آمن في البشر وستستمع للعديد من الخبراء والمتخصصين ومن بينهم البروفيسور "ايان ويلموت" الباحث البريطاني الذي أستنسخ النعجة "دوللي" التي كانت أول حيوان ثديي يتم استنساخه بنجاح، وهو من مؤيدي فكرة عدم استخدام التقنية التي تم استخدامها لاستنساخ النعجة "دوللي" على البشر لخطورتها وقال إن محاولات استنساخ البشر ستؤدي إلى العديد من حالات الإجهاض والمواليد المشوهين.
و نعلم يقينا أن الثقافة الغربية مادية بحتة فى مجملها، فهل تقبل ثقافة الشرق (بتراثة الحضارى و قيمة الدينية) مثلا أن يأتى مولود إلى الوجود بدون علاقة زوجية شرعية، و هل يمكن تعويض أسرة لا تنجب – لأن الزوج عقيم (كما يخطط زافوس و فريقه)، بأن تحمل الزوجة من خلية هى صورة من زوجها أو منها هى، و فى هذه الحالة هل المولود سيكون إبنا لهما أم أخ و توأم للزوج أم أخ و توأم للزوجة فى الحالة الأخيرة؟. كذا ربما يكون هذا الأبن المستنسخ عقيما أيضا مثل أبيه أو أمه. فى أمريكا مباح الحصول على حيوانات منوية من رجل غير الزوج "بنوك الحيوانات المنوية" و يلقحون بة المرأة اذا كان الزوج عقيما، و بالتالى يولد طفل للأسرة من رجل غريب و هذا فيه خلط للأنساب، فإذا أباح الغرب عملية الاستنساخ فى حالات العقم، فإننا كمسلمين لن نأخذ بما وافقوا عليه وهذا على أسس علمية سبق الإشارة إليها.
و لنا أن نعلم أنه لا يوجد فى العلم إلتزام مطلق بالطبيعة فمن الممكن جدا اللعب بالطبيعة بل إن العلم يَدعى بأنه سوف يجاوز الطبيعة و من الممكن أن يُحور فيها. و يجدر بنا القول إن البحوث العلمية لابد و أن تلتزم و ترتبط بالأخلاقيات و القيم الدينية على مستوى العالم و خاصة إذا تعلق الأمر بالإنسان فإن ذلك يحتاج إلى ضوابط و قواعد ترتبط بالإلتزام السلوكى و العقائدى و الدينى يضمن عدم الإضرار بخليفة الله فى أرضة، و الأمر يحتاج إلى جهاز يتابع و يرشد التقدم العلمى، و المقصود بالمتابعة هو آلا نقف عند حد القول بالحلال و الحرام، و إنما لابد من المتابعة و المشاركة و الدراسة و الإستفادة، لأن الثقافات كلها لابد و أن تشارك فى التجارب و التقدم العلمى. و قد صرح رئيس الجمعية المصرية للخصوبة و العقم و صحة الجنين (و نحمد الله على ذلك) ان فى جميع المراكز الطبية التى تعمل فى مصر فى مجال أطفال الأنابيب و ما يقوم به الأطباء فى هذه المعامل بعيد كل البعد عما يحدث بالنسبة للاستنساخ و لا علاقة لعملهم من قريب أو من بعيد به بل إن المهمة الرئيسية لهذه المراكز هو البحث و المساعدة لعلاج مشكلة العقم بما لا يتعارض و الشريعة الإسلامية. و إننا يمكننا ان نضع الخطوط الحمراء (و ما أكثرها) لنحدد ماهو مباح و ماهو غير مباح، و إذا كان هناك ما يخدم البشرية من إستنساخ للحيوان فلا مشكلة، ونرحب بالإستنساخ فى الحيوان و النبات. و لعلنا نختم مقالنا برأى الدين و الذى عَقب بة الدكتور/ محمود حمدى زقزوق (وزير الأوقاف)، فى ندوة عقدت بمقر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية (أبريل 1997) حول الإستنساخ، شارك فيها نخبة من العلماء المتخصصين فى هذا المجال حيث قال: إن الإسلام ليس ضد العلم على الإطلاق، وهو مع البحث العلمى إلى أقصى مدى، فهو يؤيد مصلحة الإنسان، لذلك فإن لدى الفقهاء رأى يقول حيث المصلحة توجد فثم شرع الله، فإذا كان الاستنساخ للأعضاء لمصلحة الإنسان فلاحرج من الناحية الدينية أما إذا كان ضد مصلحة الإنسان و يترتب علية أثار ضارة، أو سلبية من الناحية الدينية و الإخلاقية و الإجتماعية و النفسية فهو أمر مرفوض. و صدق الحق حين يقول ﴿و ذروا ظاهر الإثم و باطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون﴾ (الأنعام : 120).
ساحة النقاش