ثروات مصر المنهوبة و بنوك الجينات
بقلم أ.د. قاسم زكى (أستاذ الوراثة و مدير مركز المنيا للهندسة الوراثية و التكنولوجيا الحيوية- كلية الزراعة – جامعة المنيا)
مصر هى أم الدنيا فهى أقدم حضارات الكون وهى أطول أمبراطوريه عرفها التاريخ.. كما هى أيضا أطول مستعمرة ذاقت نير الأسر تحت الأجنبي. فقد أقام وحدتها الملك "مينا" منذ 3200 ق.م لتظل إمبراطورية موحدة الى أن بدأت تباشير نهايه حقبة تاريخ قبل الميلاد (بالطبع مع إستثناءات بسيطه خلال فترات إحتلال الهكسوس لمصر) حين وطأت أقدام الإسكندر الأكبر مصر لتظل مستعمره لما يزيد عن آلفى عام، حتى تولى محمد نجيب رئاسه الجمهورية كأول مصرى مع منتصف القرن العشرين الميلادى. و خلال عقود الإستعمار تلك تعرضت ثروات مصر للنهب و السرقه و الخطف و خرجت أغلى مقتنياتها بعيدا عن تراب الكنانه، و أكثرها شهرة هو سرقه أثار هذا الشعب الذى شيد أعرق حضارة أنارت للبشريه دياجير الظلام و كانت نبراسا في كل مجالات الحياة. فها هى أثار مصر منتشرة في كل بقاع الأرض...و لشدة ما يسترعى الدهشة و الإستغراب هو خروج قطع ضخمه كالمسلات بل و أيضا معابد كامله. فها هىتمثال رأس جميلة الجميلات "نفرتيتى " مليكتنا الفاتنة تزين متحف برلين فى دولة الرايخ، تاركتنا فى شوق و حنين لها، و برغم إتخاذنا لها شعارا لمحافظتنا و أيضا جامعتنا بالمنيا، فمازالت أسيرة الألمان، فهل سيأتى يوم لتعود الطيور المهاجرة. و قد تنبهت حكومات ما بعد الثورة لذلك و بدأت في سن القوانين لمنع تلك المهازل و بدأت فى حمايه الأثار من النهب بل هناك محاولات ناجحه تحققت أخيرا بعوده بعض القطع المسروقه.
هذة كانت ثروة مصر الحضاريه متمثله في الآثار، أما ثروة مصر من الكائنات الحيه (من نباتات و حيوانات و كائنات حيه دقيقه) فما هو الحال بالنسبه لها؟. هى أيضا تعرضت و (مازالت ) تتعرض للفقد و السرقه و النهب، بل أكثر من ذلك تعرضت للموت و الإنقراض بسبب تغير الظروف البيئيه من حراره و جفاف و تصحر و أنشطه بشريه مدمره تسوسها أيدينا. و أهميه هذة الثروة (و التي يطلق عليها الموارد الوراثيهGenetic Resources ) هى أنها مصدر الغذاء و الكساء و المسكن و الدواء و الأثاث و الهواء النقى، و لذا فهى تمس حياه البشر و من أجل ذلك وجب الحفاظ عليها من الفناء أو السرقه و لابد من حفظها في صوره حيه حتى يمكن الإستفاده منها، و لذا كانت فكره إنشاء بنوك الجينات (Gene Banks). و لماذا أطلق عليها هذا الأسم، لعلنا نعلم أن البنك (او المصرف) هو مكان لحفظ النقود و النفائس، أما الجينات فهى ما تحتويه خلايا الكائنات الحيه من مواد وراثيه (عوامل) هى المسئوله عن ظهور صفات كل كائن و تميزة عن الأخر، فهذة شجرة عملاقه و هذا نبات قصير و تلك ثمرة حلوه المذاق و هذه مره كالحنظل. و بمحافظتنا علي هذة الجينات يعنى الحفاظ على ثروتنا التى و هبها لنا الله لتدوم الحياه. و من المعروف أن هناك آلاف الأنواع الحيه قد فنيت من الوجود كالديناصورات مثلا، بل هناك أنواع من الطيور و الثدييات و النباتات قد عايشتها الأجيال الحاليه ثم أختفت و أنقرضت أو مهدده بالأنقراض.
فى مصر أنقرضت العديد من الحيوانات و النباتات و نهب البعض منها مثل الماعز النوبى الذى سرق و تم تهجينه بماعز إنجليزى ليحصلوا على هجين يدر لبنا فريدا و تم تسجيل هذا الماعز الهجين بإسم (إنجلونوبيان) ذا جنسية إنجليزية. كذا صنف الطماطم "إدكاوى" و المتحمل لشدة ملوحة الأرض و المياه، غادر أرض المحروسة تاركا "إدكو" و أهلها ليذهب للعم سام فى غرب الأطلنطى بصحبة شركة تقاوى عملاقة و يحصل على الجنسية الأمريكية، و ندفع الكثير لنحصل على بذرة لنزعها.
و موضوع التسجيل هذا بدأ فى الفترات الأخيرة ليضمن حق الملكيه و لكن للأسف بدأته الشركات العملاقه و الدول المتقدمه على حساب الدول الناميه فنهبت ثروات الأخيرة و سجلت ملكيه خالصه للدول المتقدمه و التى تعيد هذة المنتجات للدول الناميه و لكن بتكاليف باهظه.
ولذا كان لزاما على دولنا النامية الحفاظ على مقدراتها و تسجلها بإنشاء بنوك الجينات و التى تتمثل العمليات الروتينيه بها عادة في جمع العينات النباتيه أو الحيوانيه و معالجتها و إدارتها و تداولها (كإجراء الأبحاث عليها) و تخزينها و تجديدها، و كذا عمليات التقييم و التوثيق و النشر و التوزيع علي المستعملين. وللمحافظه علي تلك المواد الوراثيه عادة يتم حفظها إما في نفس المكان الذى تعيش فيه (In Situ) أو تؤخذ خارج مكان معيشتها (Ex Situ). و غالبيه الأنواع البريه يحافظ عليها في مكان تواجدها الطبيعى كإنشاء المحميات الطبيعيه التى يُحرم فيها الصيد أو قطع الأشجار و توالى بالعنايه و الرعايه، و في مصر قرابه الـ24 محميه طبيعيه تنتشر فى كافه أرجاء المحروسه. و كذا يحافظ علي النباتات في نطاق المزرعه و أيضا الحدائق المنزليه و التى حوت النادر من سلالات الفاكهه و الخضر و أشجار الزينه و توارثتها الأجيال. و لجأت الأمم الى المحافظه على مواردها الوراثيه فى أماكن خاصه للأصول البريه و المنزرعه من النباتات و كذا الحيوانات، فبذور النباتات و كذا حبوب اللقاح بل و الخلايا و الأنسجة تحفظ فى أماكن مبرده (بنوك جينات البذور)، بل يمكن حفظ الماده الوراثيه (الـDNA) كذلك. كذا تجمع الأصول فى حقول متخصصه كما تخصص ماليزيا قرابه مائه فدان لجميع أصناف و سلالات نخيل الزيت (حقول بنك الجينات)، كذا تُنشأ حدائق النباتات كحديقه النباتات فى نيل أسوان و حديقه أنطونيادس بالإسكندرية و الأورمان بالجيزة و هى تحوى عدد كبير من الأشجار النادرة.
و مصر هى إحدى الأمم السباقه فى حفظ التنوع الحيوى و حمايه الطبيعه، فتحكى أوراق البردى و صفحات المعابد عن أماكن حُرم فيها الصيد بل و تكاد تكون أماكن مقدسه، و كفى مصر ما نُهب منها، و لذا حاليا فهى تعج بنشاط أبنائها الواضح سواء فى القطاع الحكومى أو المنظمات غير الحكوميه (NGO) و كذا الفلاحون فى حماية المصادر الوراثيه المصرية سواء فى مواقعها الأصليه كالمحميات الطبيعيه و أيضا فى العديد من الحدائق النباتيه و المعشبيات و بنوك الجينات. و فى العام قبل الماضى (2004م) تم الإفتتاح الرسمى لبنك الجينات القومى و الرابض فى مركز البحوث الزراعيه بالجيزه و الذى صمم ليسع مائتى ألف عينه (به حاليا إثنتا عشر ألف عينه) للحاصلات الحقليه و البستانيه و يحوى غرف عاليه التبريد و بتخهيزات حديثه و ممتازه. و سوف يساعد هذا البنك في حفظ الأصول الوراثيه المصريه و توصيف تلك المصادر كتحديد الجينات المقاومه للجفاف و الملوحه لتكون متاحه أمام جميع الباحثين، و سوف يقوم هذا البنك بدعم التعاون علي المستوى القومى و المستوى العالمى من تبادل للمعلومات و العينات، كذا سوف يتصدى هذا البنك لحمايه حقوق الملكيه لتراثنا الحيوى.
كما هناك ما يمكن تسميته ببنوك جينات شخصيه يحتفظ بها أفراد داخل معاملهم و لذا يجب أن تتشكل بنوك لكل منطقه تتولى حفظ المصادر الوراثيه بها و تكون مرتبطة بالبنك القومى للجينات بالجيزة. و من منطلق هذه الفكره أقمنا بنك المنيا للجينات (MGB) بمركز الهندسه الوراثيه و قسم الوراثه بكليه زراعه المنيا (عام 2004م) جُمع فيه العديد من سلالات و أصناف النباتات الهامة بمنطقة مصر الوسطى كالقمح و الذرة و الشعير و الطماطم و غيرها، و يحدونا الأمل إلى توسيع هذا المشروع و ربطه بالبنك الأم الراسخ تحت سفح أهرامات الجيزة.
ساحة النقاش