تمثل مصر حالة فريدة فى تاريخ البشرية، فهى تقع فى إفريقيا، و لكنها تمت أيضا إلى أسيا بالتاريخ، و هى متوسطية دون مدارية بعروضها، و لكنها موسمية بمياهها و أصولها، فموقعها و مكانها على الكرة الأرضية جاء في ميدان عام كي تطل من شرفته على بحار و قارات العالم، وهى فى الصحراء و ليست منها ، إنها واحة. فهي فرعونية بالجد و لكنها عربية بالأب ، ثم بجسمها النهرى قوة بر، و لكنها بسواحلها قوة بحر، وتضع بذلك قدما فى الارض و قدما فى الماء. و هى بجسمها النحيل تبدو مخلوقا أقل من قوى، و لكنها برسالتها التاريخية الطموحة تحمل رأسا أكثر من ضخم. و هى بموقعها على خط التقسيم التاريخى بين الشرق و الغرب، تقع فى الاول و لكنها تواجة الثانى، و تكاد تراه عبر المتوسط، كما تمد يدا نحو الشمال و أخرى نحو الجنوب. و هى توشك بعد هذا كله ان تكون مركزا مشتركا لثلاث دوائر مختلفة بحيث صارت مجمعا لعوالم شتى، فهى قلب العالم العربى، و واسطة العالم الاسلامى، و حجر الزاوية فى العالم الأفريقى.
فهى أمة وسطا فى الموقع و الدور الحضارى و التاريخى، و فى الموارد و الطاقة، و فى السياسة و الحرب و فى النظرة و التفكير. و التجانس الطبيعى صفة جوهرية فى البيئة المصرية، فالوادى كله وحدة فيضية و الفرق بين الصعيد و الدلتا هو إختلاف فى الشكل و المساحة لا فى النوع. كما هناك تجانس كبير فى المناخ و إنعكس هذا على نشاط الإنسان. و منذ فجر التاريخ يبرز الشعب المصرى كوحدة جنسية واحدة الاصل متجانسة بقوة فى الصفات و الملامح الجسمية. و قد ظل محافظا على هذا التجانس حتى اليوم. لذا فإن مصر تستمد وحدتها الطبيعية من الموقع و الموضع وهى تبدو كالزهرة ساقها الصعيد و زهرتها الدلتا و برعمها الفيوم. و لا يوشك فجر التاريخ أن يبدأ حتى يكون توحيد مصر بوجهيها القبلى و البحرى قد تم منذ نحو 4000 سنة قبل الميلاد، فكانت مصر بذلك أول "أمة" و أول "دولة" فى التاريخ البشرى. و الواقع أن مصر لم تسبق العالم كدولة سياسية فقط، إنما هى أطول دولة حافظت على وحدتها القومية عبر التاريخ، فلم يحدث خلال 6000 سنة أن أنفرط عقد وحدتها و تدهورت الى انفصاليات اقليمية الا فى حالات نادرة شاذة للغاية أغلبها مفروض من قوى أجنبية دخيلة (كالهكسوس و العهد المملوكى). هذه الوحدة التاريخية التى لم تنقطع و التى كانت جزئيا ثمرة للتجانس البشرى قد ضاعفت بدورها من هذا التجانس حتى قل أن نجد شعبا متماثلا فى ملامحة الجسمية و النفسية، فى مزاجه و تقاليده (طابعة القومى) كالشعب المصرى.
و لقد شكلت مصر واحدة من أقدم و أكبر إمبراطوريات العالم القديم، و التى أمتدت فى عهد تحتمس الثالث إلى أوج إتساعها (فى القرن الـ15 ق.م.) حتى عبرت نهر الفرات و وصلت إلى تخوم الأناضول و سيطرت على كل سواحل و جزر شرق البحر الأبيض المتوسط، و جنوبا حتى منتصف السودان. و لذا فإن كان تاريخ البشرية يتجاوز الخمسة آلاف عام بقليل، فإن مصر قد سادت العالم لأكثر من ثلاثة آلاف سنه و هى تحمل مشعل الحضارة و التقدم، بما يعنى أن لمصر قرابة الـ70% من صدارة تاريخ هذا الكون. و لقد كان لموقع مصر الهام فى وسط العالم القديم أهمية قصوى، بل هو أخطر موقع على الأطلاق و عبر حلقات التاريخ. و حتى اليوم يمثل هذا الموضع نقطة صراع و صدام، و قد أعتبرها نابيلون أهم موقع استراتيجى فى العالم فقد قال "قل لى من يسيطر على مصر .... أقل لك من يسيطر على العالم". لذا فقد تعرضت مصر المحروسة لعديد من غزوات الطامعين عبر العصور بدأت مع الهكسوس في التاريخ القديم مرورا بالحيثيين و الأشوريين و الفرس و الإغريق و الرومان. ثم تأتى بشائر الفتح العربي الإسلامي لتعيش مصر في ظل الخلفاء الراشدين ثم الأمويين فالعباسيين و مرورا بالدولة الطولونية فالإخشيدية فالفاطمية فالأيوبية فالمملوكية، لتتعرض لهجوم الصليبيين و المغول خلال فترة حكم الأيوبيين و المماليك، ثم تقع فى براثن الأتراك و حديثا لغزو الفرنسيين و احتلال الانجليز و حتى الصهاينة. لذا كان دور مصر عظيما طوال حقب التاريخ لمقاومة الغراة و تحرير الأوطان، بل أمتد دورها لتحرير عالمها العربى و الإسلامى كما حدث ضد موجات الصليبيين و التتار و الصهاينة الأحدث، و حمت و حملت مشعل النور الإسلامى لتصل به لغالبية بقاع الأرض. أنها لحالة فريدة فى الكون، فهى و إن كانت أول و أطول إمبراطورية عرفتها البشرية فى تاريخها، فهى أيضا أطول مستعمرة فى تاريخ الإنسانية (قرابة آلفي سنه). إن الموقع قد جنى عليها كأمر واقع و أغرى بها الإستعمار و الأطماع الإمبريالية حقيقة تاريخية إذن و لا مناص من الإعتراف بها. و لقد طالت رحلة المحروسة عبر التاريخ السياسى و الإستراتيجى لنرى كيف أن عصرها التوسعى الإمبراطورى لم يكن صدفة عشوائية، و أن وقوعها بعد ذلك ضحية للقوى الأجنبية الإستعمارية لم يكن مجرد قدر غاشم مقدور و إنما كيان مصر و مصيرها وظيفة مباشرة للعلاقة المتغيرة بين قيمتها كموقع و قوتها كموضع: موقع خطير يتطلب لتحقيقه و ضمانة موضعا غنيا كفئا، فإذا ما إجتمعا طفرت مصر كقوة إقليمية كبرى، أما إذا قصر الثانى عن الأول و قصر دون متطلباته وقعت مصر فريسة إقليمية و ضحية، و بمعنى أخر، إن مكانتها هى محصلة المكان و الإمكانيات على حد سواء.
كانت مصر هى السباقة فى حضارات الكون، أول ما نراه فيها حضارتها الزراعية الراقية، و التى أزهرت مع بداية عصر الأسرات (3200 ق. م.) حين تبرز لنا فى صورتها المتطورة الكاملة التى ترتبط فى أذهاننا بمصر الفرعونية عموما، و بديهى أن وراء هذه اللوحة التامة تاريخا تتطورا سحيقا. فنرى ضبط النهر بعد صرفه و تقنينة، و على زراعة الحبوب و الألياف، و الإستقرار فى القرى و المدن، و التجارة و النقل و صناعات النسيج و الفخار و السلال و ما صاحب ذلك من فنون الرى و العمارة و الهندسة و التقويم و التخزين و الملاحة، و من علوم الفلك و الحساب و الطب و الكيمياء. و فى العصر الحديث و مع قدوم الإسلام كان واضحا أن مصر تتقدم بثقة لتكون من طليعة سدنة الإسلام و حفظة تراثة، و القوامين عليه بل لنا أن نلاحظ أن كل الخطوط المتطرفة فى العقيدة لم تجد بيئة تعيش أو تعشش فيها بمصر، حتى و إن فرضت عليها من الخارج، سرعان ما تذول. و لم تتحول مصر نافورة الحضارة القديمة إلى مجرد بالوعة للحضارة الجديدة، و لكن بوتقة صهرتها لتشكلها بما يتفق و تراثها.
و فى العصر المعاصر كانت مصر أسبق الدول العربية إلى العالمية و أقدرها على ذلك ، و تحتمت عليها مسئولية الحماية و الدفاع عن العروبة ابتداء من الصليبيات و التتار حتى الاستعمار الأوربى الحديث و الإستعمار الصهيونى الأحدث، و من حسن الطالع و تمام التوفيق أن نهضت مصر بتلك المسئوليات و كانت عند حسن ظن العرب ، فحفظت عليها عروبتها و اسلامها و كيانها ضد الغزاة. ليس هذا فحسب، فمع قدوم ثورتها الفتية فى 1952م، مدت يد العون لكل دول العالم الباحثة عن نيل حريتها، و لتضع بذرة عدم الإنحياذ فى قاموس العالم السياسى، كما قدمت للعالم خيرة أبنائها الذين تبوؤا مناصب مرموقة و حصدوا أعلى الجوائز و النياشين.
و فى المرحلة الحالية، و التى نعيشها اليوم، و هى مرحلة الإعتدال، فنحن اليوم نستعير الحضارة و نهضمها و نمثلها دونما إغراق أو ذوبان، لكى نجمع بين الأصيل و الدخيل، القديم و الجديد، بين التقاليد و التقليد، و علينا أن نحافظ على تلك النسب و السير فى إتزان محسوب. فعلينا أن نعتز بما قدمناه للحضارة و التاريخ، إلا أننا لاينبغى أن نعتمد على ذلك أكثر مما ينبغى، و لكننا من الناحية الأخرى اذا كنا نستعير ففى تواضع لا فى ضعة. فليس فى ماضينا ما نتبرأ منه و لا فى حاضرنا ما نخجل منه... و من المرجح فى النهاية أن مصر أعطت العالم على مدى تاريخها عموما أكثر مما أخذت. هذه بضعة شذوات من درر موسوعة "شخصية مصر" لجغرافى مصر العبقري د. جمال حمدان، رحمة الله، ابن مصر درة الكون عبر الزمان و تاج العلا فى مفرق الشرق.
ساحة النقاش