هل يزدهر القمح المصرى فى أوغندا؟
يمثل القمح محصول رئيسي فى مصر منذ الأزل، و لكن بسبب قلة المنتج منه عما نحتاجه يشكل أكبر مشكلة غذائية، لذا تولية دوما القيادة السياسية فى الدولة جل اهتمامها. و لقد جاءت زيارة السيد رئيس الجمهورية لدولة أوغندا (منبع النيل) فى يوليو 2008 الماضى كبارقة أمل لتزف البشرى لأبناء حوض النيل لبدأ رحلة الآلف ميل نحو التكامل الإقتصادى، فها هو وفد وزرارة الزراعة المصرية يتأهب للسفر إلى أوغندا "لؤلؤة النيل" و منبعه و حيث ترقد كبرى بحيرات أفريقيا العذبة و أم النيل (فيكتوريا)، للبدء فى تنفيذ ما أتفق عليه زعيما الدولتين و ليبدأ بزرع سنابل الخير "الأقماح المصرية" فى أرض أوغندا الخصبة و مياهها الغزير، لتغطى النقص الحاد فى إنتاج القمح فى مصر و الذى يدفعنا لإستيراد قرابة الـ 45% مما نحتاجه لعمل رغيف الخبز و الذى يمثل أخطر مشكلة تقابل أهل المحروسة و استنزاف العملة الصعبة و الدعم.
و هذه الفكرة التى راودت الكثيرين من قبل، لعل القليل منا يعرف ان مصر قد سبق لها القيام بذلك منذ ما يزيد عن مائة و ثلاثون عاما مضت إبان عصر الخديوى إسماعيل (1863-1879) و الذى كان مولعا بكشف الغموض عن منابع النيل، حتى وصل إلى أقصى نقطة يبدأ منها النيل مسيرتة من بحيرة فيكتوريا، حيث أقرت مملكة أوغندا أئنذاك (1876) بخضوعها للحكم المصرى. و قد رأت مصر أن وجودها فى منطقة أعالى النيل تلك سوف يؤكد الوحدة الجغرافية لحوض النيل و يربط الشعوب القاطنة حوله برباط يتناسق مع ما بينها من روابط طبيعية، فلم يكن ذلك منهم حبا فى فتح أو رغبة فى إستعمار لا مبرر له و إنما كان حب الحياة و الحرص عليها و تأمين موارد المياه، و الحفاظ عليها و الحيلولة دون وقوعها فى أيدى القوى الإستعمارية. و قد إستطاعت مصر إبان تلك الفترة (الربع الثالث من القرن التاسع عشر) و قبل أن تهبط جحافل المستعمر الأوربى و تبسط قبضها لتخنق أفريقيا السوداء، أن تستكشف مجرى النيل و تختبر صلاحيتة للملاحة، و أن ترسم عدة خرائط لمجراه و للبحيرات الإستوائية كما تمكنت من إستكشاف عدة بلدان و قرى بالمناطق الإستوائية و خلعت على بعضها أسماء مصرية، فضلا عن تمكنها من تجربة بعض المحاصيل هناك كما توصلت إلى حقائق مهمة عن الجبال و الثروات المعدنية و النباتات و الحيوانات الموجودة بكثير من هذه المناطق، و غير ذلك من الإكتشافات الحضارية. كما أقامت المشروعات العمرانية التى أسهمت فى نشر الوعى الدينى و الإجتماعى و السياسى و الصحى و التعليمى و الثقافى فى دول حوض النيل.
و قد حفظت لنا سجلات التاريخ العديد من أسماء المستكشفين المصريين و من عمل معهم من الأجانب الذين تحملوا الكثير من المصاعب للكشف عن منابع النيل و إخضاعة للحكم المصرى، بدأ من منتصف عصر محمد على و إنتهاء بعصر إسماعيل (1820-1879)، فقد تحملوا هجمات القبائل و التى منها من كان يأكل لحوم البشر (قبائل الأزندى "نيام-نيام Niam- Niam")، و قنصات الحيونات المفترسة، و لدغات الحشرات الضارة و الزواحف السامة و بعوض الملاريا القاتلة و الأمراض الفتاكة كالجدرى و الدوسنتاريا، و ناهينا عن مشقة السير فى المرتفعات و المنخفضات و قذارة البرك و المستنقعات و أحراش البرارى. و على رأس هولاء يتربع الإنجليزى "تشارلز غوردن Gordon " (و هو رجل عسكرى متمرس شارك فى عديد من النزاعات العالمية إبان عصره و أستعان به الخديوى إسماعيل فى حملاته لإستكشاف أعالى النيل، ثم عينه حاكما للمديرة الأستوائية (1874-1876)، ثم حكمدارا عاما للسودان (1877-1897)، و الذى بعث بالمستكشف الفرنسى "أرنست لينان دى بلفون De Bellefonds " (إبن المهندس دى بلفون الذى قدم لمصر سنة 1818، ليعمل فى خدمة محمد على) فى رحلة كشفية جابت أدغال أوغندا، و قد أكد "أرنست" فى تقاريرة نجاح التجارب الزراعية التى قامت بإجرائها الإدارة المصرية فى محطات كثير من مدن أوغندا (فاتيكو و دوفيلييه و لابورن و الإبراهيمية و فاشيلى) لإختبار مدى صلاحية الأراضى هناك لزراعة القمح و الخضروات المصرية كالبامية و الملوخية و البصل و الفجل و الطماطم و الفلفل، و الجدير بالذكر أن أهالى تلك البلاد أقبلوا على زراعة هذه الحاصلات بعد أن كانت مزروعاتهم تقتصر على الذرة و السمسم و البن و الموز. و قد أشاد "أرنست" فى تقاريره بما أحدثتة الإدارة المصرية فى هذه المناطق من تغييرات هامة تمثلت فى تعود الأهالى على إرتداء الملابس بعد أن كانوا لآ يرتدونها طبقا لعاداتهم الموروثة. كما تمثلت فى إنهاء حالات الحروب و النزاعات القبلية التى غالبا ما كانت تنشب بين القبائل من أجل السيطرة على مناطق الكلأ و الماشية أو الحصول عى أسرى يمكن بيعهم كرقيق.
عودة من الماضى إلى الحاضر، فبعد زيارة السيد رئيس الجمهورية لأوغندا، أكد السيد أمين أباظة وزير الزراعة واستصلاح الأراضي في حديث لصحيفة الأهرام (نشرته السبت 30/8/2008) ونقلته وكالة انباء الشرق الاوسط أن أوغندا خصصت لمصر مساحات تصل إلى مليوني فدان مناسبة تماما لزراعة الحبوب (القمح والذرة) و سيجري الجانب المصري الممثل في الشركات الزراعية المصرية الخاصة تجارب متعددة لتحديد أنسب الأصناف لها بخلاف تحديد طرق التمويل والنقل والضمانات والشروط". فهذه الأراضي ستكون بحق الانتفاع و ما يهم هو المساحة وكيفية حمايتها ومدى توافر وشبكات الصرف والطرق وتكلفة النقل خاصة أن أوغندا ليست مطلة على البحر ولكن لها ميناءان بدولتي كينيا وتنزانيا". كما لا يفوتنا أن هناك ثلاث دول افريقية يهمنا كثيرا أن يكون بيننا وبينها تعاون وثيق في المجال الزراعي وهي السودان وأثيوبيا بجانب أوغندا ثم 6 دول أخرى تمثل باقي دول حوض النيل. و أشار وزير الزراعة إلى أن وفدا مشتركا من الحكومة ورجال الأعمال سيتوجه إلى أوغندا خلال أكتوبر المقبل 2008 للتفاوض النهائي على التفاصيل وأسس وآليات التنفيذ في زراعة 200 ألف فدان أولا. كما أن هناك فكرة يجري دراستها بإعلان إنشاء شركة عربية كبرى ما بين القطاعات الخاصة العربية ككيان ذي تمويل ضخم لتنفيذ مشاريع زراعية عملاقة في أوغندا. و لعل أبرز ما قدمته الحكومة الأوغندية للمستثمرين المصريين من المميزات أنها عرضت مناطق متكاملة البنية الأساسية. و على الرغم من بعض الاعتراضات على توجيه الاستثمارات المصرية الى إفريقيا وترك أراضي توشكى والساحل الشمالي و سيناء وغيرهما بلا استصلاح، فيجب ألا ننسى أننا لا نملك المياه الكافية للتوسع اللانهائي الزراعي ومياهنا الجوفية لا يمكن الإسراف في استخدامها وخاصة أن فكرة الزراعة تقوم على الاستدامة ونحن اليوم لدينا 8.4 مليون فدان ونطمح للوصول إلى 12 أو13 مليون فدان وخاصة مع تنفيذ مخطط تطوير الري، أما فى البلاد الإفريقية تلك فتتوافر وحدتا المياه والأرض بكثافة عكس ما عندنا في ظل محدودية المياه الواردة إلى مصر وثباتها عند 55 مليار متر مكعب.
و على الرغم من تلك الميزة، و أهمية تأمين منبع النيل كأهمية إستراتيجية قصوى و أمن قومى لا بد منه، فلابد من الدراسة الجيدة و المتأنية من كل النواحى و خاصة من الناحية الاقتصادية، و كذا مراعاة خطورة انتقال الأمراض، حيث ظهرت فى السنوات الماضية سلالة شرسة من مرض صدأ القمح فى أوغندا تهدد هذه المحصول تماما. فهل تتحقق نبوءة وزير التموين السابق "ناصف طاحون" فى زراعة أرض كندا لتورد القمح لمصر، و لكن أوغندا أقرب و لربما السودان أقرب جدا.
ساحة النقاش