منذ الأزل قدس الفراعنة النيل، و أطلقوا عليه الإله "حابى" و كانت له قدسية خاصة، و لعل كلمات الشاعر الفرعونى منذ القرن التاسع عشر قبل الميلاد مازال يرن صداها فى الأذان و هو يقول " حمدا لله أيها النيل الذى ينفجر من باطن الأرض، ثم يجرى ليغذى مصر فهو الذى يسقى المروج، و قد خلقه "رع" كى يطعم كل دابة و ماشية، و يرسل الماء إلى الجهات البعيدة فيروى مجدبها و يطفئ ظمأها، إن إله الزراعة " قاب" يحبه، و إله الصناعة "منفتاح" معجب به. فهو ينبوع الحياة، و صدق الحق حين يقول فى قرأنه " و جعلنا من الماء كل شئ حى". و كانت تقام للنيل الاحتفالات (و الذى ما زال يحتفل بها لعصرنا هذا و هو يوم فيضان النيل أو "يوم وفاء النيل" اي وصول الفيضان الي ذروته كل عام), فتقام الأفراح, ويطل السرور من جبين الناس و الذى يأتى كل عام فى النصف الثانى من أغسطس "آب"، و وصل الأمر "و لعلها من الأساطير" بأن الفراعنة كانوا يلقون له بعروس فاتنة الجمال حتى يزداد ماءه و يفيض خيرة. فالنيل هو أعظم أنهار الدنيا فهو أطول أنهار العالم و أجملها و أكثرها ملائمة للملاحة حيث يبلغ طوله 6695 كيلومترا و هو ملهم الشعراء و الفنانين، فأثناء رحلته الطويلة يخترق النيل بلدان كثيرة شعوبها متنوعة و طبيعتها جذابة مليئة بالغابات الخضراء التى تملؤها الحيوانات و الزواحف و الطيور و النباتات النادرة، فدول حوض النيل عشرة فمن تنزانيا أقصى الجنوب الشرقى لدول الحوض ، فبروندى – فرواندا – فالكنغو أقصى الجنوب الغربى للحوض– فأوغندا قلب منطقة البحيرات العظمى و منبع النيل الأساسي– فكينيا –ثم أثيوبيا – فإريتريا – فالسودان – فمصر المحروسة).
و يأتى النيل الأزرق من بحيرة "تانا" التى ترقد فى الهضبة الأثيوبية ليمد مصر و السودان بحوالى 85% من كمية المياه التى تصلهما ليلتقي مع المنبع الثانى الذى يجلب مياه الأمطار التى تتساقط على البحيرات الاستوائية فى كل من بروندى و رواندا و الكنغو و كينيا و أوغندا حيث تتكون بحيرة فيكتوريا و أخواتها، بعدها يلتقى النيل ببحر الغزال فى السودان مكونا النيل الأبيض، و عند جوهرة السودان "الخرطوم" يلتقى النيلين الأزرق و الأبيض و يكونا نهرا واحدا عظيما هو "نهر النيل" الذى يسير بكل جلالته و مهابته نحو الشمال إلى كنانة الله فى أرضة "مصر" التى أقامت على ضفتيه و بفضلة أقدم و أرقى حضارات الكون، لذا صدق "هيرودوت" المؤرخ الإغريقى حين زار مصر فى القرن الرابع قبل الميلاد و قال "مصر هبة النيل" كما هى أيضا "مصر هبة المصريين" كما قال جمال حمدان جغرافى مصر الفذ.
تقول الجغرافيا أنه يتساقط سنويا على دول حوض النيل أكثر من 7000 مليار متر مكعب مياه أمطار، يصل حوض النيل منها فقط حوالى 1600 مليار متر مكعب سنويا (آى قرابة 23% من مجملها) و تبلغ حصة مصر من إيراد النهر 55.5 مليار متر مكعب سنويا (آى أقل من 4% من إجمالي مياه حوض نهر النيل)، و ذلك حسب اتفاقات دول الحوض التى ُسطرت بنودها منذ ما يربو عن نصف قرن من الزمان، حين كان عدد سكان مصر لا يتجاوز العشرون مليونا، فما بالنا اليوم و الغد مع الزيادة الرهيبة فى عدد السكان (والتى قاربت الثمانين مليونا حاليا) و طموحات التنمية و الزراعة و الحاجة الملحة لمزيد من المياه، و نذر حروب المياه تطل برأسها لتكون هى سبب حروب القرن الحادي و العشرين. و قد وجهت مصر جل اهتمامها بأمر استكشاف القارة الأفريقية و خاصة نهر النيل شريان الحياة فى مصر، و ذلك منذ العصور القديمة و التى تمثلت فى الرحلات التى قام بها فراعنة مصر العظام "زوسر، سنفرو، أون، حرخوف ، بيبى نخت، سيتى، أمنمنحات الأول، سنوسرت الثالث، حتشبسوت و تحتمس الثالث، و قد أجتاز هؤلاء فى رحلاتهم بلاد النوبة و وصلوا إلى منطقة إلتقاء النيل الأبيض بالنيل الأزرق، كما وصل بعضهم إلى بلاد بونت (الصومال حاليا) على الساحل الشرقى من أفريقيا، كما سجلت ذلك ملكة مصر الأولى "حتشيسوت على جدران معبدها الرائع الذى يزين صفحة صحراء الأقصر بغرب الوادى. و قد أقام هؤلاء العظام علاقات تجارية وطيدة مع أهالى تلك البلاد و توصلوا لمعلومات و حقائق عن حياتهم و سبل العيش هناك. و قد تواصلت محاولات مصر فى العصرين البطلمى و الرومانى و إن لم تتعدى تلك المحاولات نقطة إلتقاء الأبيض بالأزرق فى السودان.
و لقد برز و بوضوح اهتمام مصر بأفريقيا بشكل واضح فى العصور الحديثة، مع بداية تأسيس مصر الحديثة على يد محمد على باشا الكبير (1805م-1848م) حتى وصل إلى مدينة "غندكرو" التى تبعد بحولى 200 كم من حدود السودان الجنوبية مع أوغندا. و تبعة لنفس المسيرة فى كشف الغموض عن منابع النيل حفيدة الخديوى إسماعيل (1863م-1879م)، حتى وصل إلى أقصى نقطة يبدأ منها النيل مسيرته من بحيرة فيكتوريا، حيث أقرت مملكة أوغندا أئنذاك (1876م) بخضوعها للحكم المصرى. و قد رأت مصر أن وجودها فى منطقة أعالى النيل تلك سوف يؤكد الوحدة الجغرافية لحوض النيل و يربط الشعوب القاطنة حوله برباط يتناسق مع ما بينها من روابط طبيعية، فلم يكن ذلك منهم حبا فى فتح أو رغبة فى استعمار لا مبرر له و إنما كان حب الحياة و الحرص عليها و تأمين موارد المياه، و الحفاظ عليها و الحيلولة دون وقوعها فى أيدى القوى الاستعمارية. و قد استطاعت مصر إبان تلك الفترة (الربع الثانى و الثالث من القرن التاسع عشر، و قبل أن تهبط جحافل المستعمر الأوربى و تبسط قبضها لتخنق أفريقيا السوداء) أن تستكشف مجرى النيل و تختبر صلاحيته للملاحة، و أن ترسم عدة خرائط لمجراه و للبحيرات الاستوائية كما تمكنت من استكشاف عدة بلدان و قرى بالمناطق الاستوائية و خلعت على بعضها أسماء مصرية، فضلا عن تمكنها من تجربة بعض المحاصيل هناك كما توصلت إلى حقائق مهمة عن الجبال و الثروات المعدنية و النباتات و الحيوانات الموجودة بكثير من هذه المناطق، و غير ذلك من الاكتشافات الحضارية. كما أقامت المشروعات العمرانية التى أسهمت فى نشر الوعى الدينى و الإجتماعى و السياسى و الصحى و التعليمى و الثقافى فى دول حوض النيل. و حديثا و مع انطلاق ثورة يوليو 1952 كان اهتمام مصرا بأفريقيا عاليا و كانت تأثيرات تلك الثورة كشرارة النار لثورات التحرر فى كافة بقاع القارة بل ذهب أبنائنا للقتال فى تلك الدول كالكنغو مثلا.
و يمثل نهر النيل المصدر الأساسي للرى فى مصر و خاصة مع صعوبة الوصول للمياه الجوفية و تكلفتها الباهظة، لذا فقد اهتمت مصر بهذا المصدر و كونت مجموعة دول حوض النيل و قدمت المساعدات لهذه الدول و اقترحت مشروعات عدة للاستفادة القصوى من الكميات الهائلة من المياه التى تتساقط على دول المنبع و تذهب سدى، و منها على سبيل المثال مشروع قناة "جونجلى" بجنوب السودان و غيرها فى الدول الأخرى. و هناك على مر العصور شعور مصرى عميق بالرغبة فى تأمين هذه النهر فهو الأورطى الذى يغذى المحروسة بإكسير الحياة، و خاصة مع ما يجرى حاليا على الساحة العالمية من قلق مع تنامى النعرات التى بدأت تطفو على السطح، فما من لقاء يجمعنا بالأخوة الأفارقة من دول حوض النيل، و خاصة دول المنبع و إلا ينساب حديثهم عن حصص مياه النيل و رغبتهم فى إعادة صياغة تلك الاتفاقيات و إعادة توزيع الحصص، بحجه أن تلك الإنفاقات وقعت أيام الاستعمار، و لعل هذا أيضا ما يدور بين الساسة فى لقاءاتهم و تناولته وسائل الإعلام أكثر من مرة. و من اللائق ألا ننسى ما يدور فى دارفور و فى جنوب السودان و فى القرن الأفريقى و حوض النيل بصفة عامة. و لعلنا نلحظ أن اهتمامنا بأفريقيا قد خفت فى الفترات السابقة، فى الوقت الذى تهب فية تغيرات إقليميه تواكبت مع تيارات العولمة و ظهور قوى عديدة حتى فى إفريقيا تبحث لها عن دور مع تغيرات الخارطة العالمية يواكبها دعوات عالية لإعادة تنظيم الأمم المتحدة و مجلس الأمن، و كذا تحول منظمة الوحدة الأفريقية الى الإتحاد الإفريقى و الى إعادة الصياغة، فهل هذا ينسحب على الاتفاقيات المبرمة بين دول القارة، ناهينا عن وجود أيدي خفيه تعبث فى تلك المناطق لمصالحها و التى حتما سوف تؤثر على الجميع، و إن صنعوا كما تفعل النعامة حين يقترب منها الخطر.
و هناك صحوة مصرية بدأت تلوح فى الأفق، منها تولي مصر رئاسة مجلس السلم والأمن الإفريقي منذ مارس الماضي 2008 و هو الجهاز المنوط به تعزيز السلم والأمن والاستقرار في القارة, من أجل ضمان وحماية وحفظ حياة وممتلكات ورفاهية الشعوب الإفريقية وبيئتها, وكذلك إيجاد الظروف المواتية لتحقيق التنمية المستدامة والعمل علي إحلال وبناء السلام لتسوية النزاعات وتنسيق الجهود الرامية إلي منع ومكافحة الإرهاب الدولي. وأكثر من هذا فإن لدي مصر طفرة من الهيئات والمجالس والاتحادات المعنية بالشئون الإفريقية, و لكن السمة العامة هي افتقارها للعمل المخطط والمشترك علي الساحة الإفريقية ومن ثم فما أحوجنا إلي مجلس أعلي للشئون الإفريقية يقود سياسة مصر في هذه المرحلة بالتنسيق والتعاون والتكامل، و هذا مطلب للكثيرين و خاصة المهتمون بشئون أفريقيا. ولقد كان عقد القمة الإفريقية الحادية عشرة في شرم الشيخ ( 30 يونيو ـ أول يوليو 2008م) بحجم المشاركة وموضوعات الحوار, علامة فارقة في مسيرة الهم الإفريقي المشترك. فهذه القمة هي الأكبر من نوعها في قمم الاتحاد, وكان اختيار موضوع المياه والصرف الصحي محورا للنقاش, والبحث عن إستراتيجية عمل مشتركة اختيارا تجاوز مرحلة التحرر والتخلص من التبعية, بكل شعاراتها التي لم تسفر إلا عن قليل من النتائج, واقتربت القمة من مشكلات حقيقية تنوء بها الأرض الإفريقية وتعانيها شعوبها. وهنا نقول إن مشكلات التنمية في إفريقيا لن تستطيع دول القارة مواجهتها منفردة حيث تندر مصادر التمويل, وتختفي التكنولوجيا اللازمة, فإفريقيا بحاجة إلي دعم خارجي لمواجهة مشكلاتها, ولكنها تأخرت كثيرا في بلورة موقف إفريقي موحد يعزز قدراتها علي التفاوض مع العالم الخارجي. و هنا يكمن دور مصر المحروسة بعمق خبراتها و عبقرية موقعها و قدم تاريخها و وسطيتها المحببة و خبرات أبنائها. و لعل زيارة رئيس الجمهورية لكل من جنوب أفريقيا و أوغندا مع نهاية يوليو 2008 لهو خطوة على الطريق الصحيح.
ساحة النقاش