فى يوم وفاء النيل.... شكر و وفاء لمستكشفية
فى النصف الثانى من شهر أغسطس كل عام تحتفل مصر بيوم الفيضان أو ما يعرف حاليا "بيوم وفاء النيل"، و من الثابت أن النهر يبدأ فى الإرتفاع عند أسوان فى الأسبوع الأخير من يونيو، ثم يتعالى بسرعة و بشدة من منتصف يوليو إلى أن يصل إلى ذروته فى منتصف سبتمبر. و مع نهاية سبتمبر تبدأ المياه فى الهبوط حتى إذا كان منتصف نوفمبر عاد النهر إلى مجراه العادى و يستمر الهبوط ليصل إلى حضيض التحاريق فى أوائل يونيو، و يستغرق الفيضان من أسبوع إلى إثنين، بحسب حجمة و سرعتة. فالفيضان ظاهرة موسمية. و يقدر متوسط إيراد النيل الطبيعى السنوى عند أسوان بنحو 83 مليار متر مكعب، و لكن هذا الإيراد متفاوت من عام لآخر، و نصيب الفيضان منها هو 68 مليار متر مكعب (آى بنسبة 82%)، فإذا كانت "مصر هبة النيل" و النيل بدورة ليس إلا الفيضان أو يكاد فلنا أن نقول أن "مصر هبه الفيضان" كما ذكر ذلك جغرافى مصر الفذ العالم "جمال حمدان".
و منذ الأزل قدس الفراعنة النيل، و أطلقوا عليه الإله "حابى" و كانت له قدسية خاصة، و لعل كلمات الشاعر الفرعونى منذ القرن التاسع عشر قبل الميلاد مازال يرن صداها فى الأذان و هو يقول " حمدا لله أيها النيل الذى ينفجر من باطن الأرض، ثم يجرى ليغذى مصر فهو الذى يسقى المروج، و قد خلقه "رع" كى يطعم كل دابة و ماشية، و يرسل الماء إلى الجهات البعيدة فيروى مجدبها و يطفئ ظمأها، إن إله الزراعة " قاب" يحبه، و إله الصناعة "منفتاح" معجب به. فهو ينبوع الحياه. و كانت تقام للنيل الإحتفالات و وصل الأمر "و لعلها من الأساطير" بأن الفراعنة كانوا يلقون له بعروس فاتنة الجمال حتى يزداد ماءه و يفيض خيرة. فالنيل هو أعظم أنهار الدنيا فهو أطول أنهار العالم و أجملها و أكثرها ملائمة للملاحة حيث يبلغ طوله 6695 كيلومترا و هو ملهم الشعراء و الفنانين، فأثناء رحلتة الطويلة يخترق النيل بلدان كثيرة شعوبها متنوعة و طبيعتها جذابة مليئة بالغابات الخضراء التى تملؤها الحيوانات و الزواحف و الطيور و النباتات النادرة فهو بتجول فى عشر دول فمن تنزانيا و كينيا و اثيوبيا و إرتيريا شرقا إلى بروندى و رواندا و الكنغو و أوغندا جنوبا ليصل لدول المصب شمالا فى السودان ثم مصر الكنانه.
و قد وجهت مصر إهتمامها بأمر إستكشاف القارة الأفريقية و خاصة نهر النيل شريان الحياة فى مصر، و ذلك منذ العصور القديمة و التى تمثلت فى الرحلات التى قام بها فراعنة مصر العظام "زوسر، سنفرو، أون، حرخوف ، بيبى نخت، سيتى، أمنمنحات الأول، سنوسرت الثالث، حتشبسوت و تحتمس الثالث، و قد أجتاز هؤلاء فى رحلاتهم بلاد النوبة و وصلوا إلى منطقة إلتقاء النيل الأبيض بالنيل الأزرق، كما وصل بعضهم إلى بلاد بونت (إريتريا و الصومال حاليا) على الساحل الشرقى من أفريقيا، كما سجلت ذلك ملكة مصر الأولى "حتشيسوت على جدران معبدها الرائع الذى يزين صفحة صحراء الأقصر بغرب الوادى. و قد أقام هولاء العظام علاقات تجارية و طيدة مع أهالى تلك البلاد و توصلوا لمعلومات و حقائق عن حياتهم و سبل العيش هناك. و قد تواصلت محاولات مصر فى العصرين البطلمى و الرومانى و إن لم تتعدى تلك المحاولات نقطة إلتقاء الأبيض بالأزرق فى السودان.
و لقد برز و بوضوح إهتمام مصر بأفريقيا بشكل واضح فى العصور الحديثة، مع بداية تأسيس مصر الحديثة على يد محمد على باشا الكبير (1805-1848) حتى وصل إلى مدينة "غندكرو" التى تقارب حدود السودان الجنوبية مع أوغندا. و تبعة لنفس المسيرة فى كشف الغموض عن منابع النيل حفيدة الخديوى إسماعيل (1863-1879)، حتى وصل إلى أقصى نقطة يبدأ منها النيل مسيرتة من بحيرة فيكتوريا، حيث أقرت مملكة أوغندا أئنذاك (1876) بخضوعها للحكم المصرى. و قد رأت مصر أن وجودها فى منطقة أعالى النيل تلك سوف يؤكد الوحدة الجغرافية لحوض النيل و يربط الشعوب القاطنة حوله برباط يتناسق مع ما بينها من روابط طبيعية، فلم يكن ذلك منهم حبا فى فتح أو رغبة فى إستعمار لا مبرر له و إنما كان حب الحياة و الحرص عليها و تأمين موارد المياه، و الحفاظ عليها و الحيلولة دون وقوعها فى أيدى القوى الإستعمارية. و قد إستطاعت مصر إبان تلك الفترة (الربع الثانى و الثالث من القرن التاسع عشر، و قبل أن تهبط جحافل المستعمر الأوربى و تبسط قبضها لتخنق أفريقيا السوداء) أن تستكشف مجرى النيل و تختبر صلاحيتة للملاحة، و أن ترسم عدة خرائط لمجراه و للبحيرات الإستوائية كما تمكنت من إستكشاف عدة بلدان و قرى بالمناطق الإستوائية و خلعت على بعضها أسماء مصرية، فضلا عن تمكنها من تجربة بعض المحاصيل هناك كما توصلت إلى حقائق مهمة عن الجبال و الثروات المعدنية و النباتات و الحيوانات الموجودة بكثير من هذه المناطق، و غير ذلك من الإكتشافات الحضارية. كما أقامت المشروعات العمرانية التى أسهمت فى نشر الوعى الدينى و الإجتماعى و السياسى و الصحى و التعليمى و الثقافى فى دول حوض النيل.
و قد حفظت لنا سجلات التاريخ العديد من المستكشفين المصريين و الأجانب الذين تحملوا الكثير من المصاعب للكشف عن منابع النيل من هجمات القبائل و التى منها من كان يأكل لحوم البشر (قبائل الأزندى "نيام-نيام Niam- Niam")، و قنصتات الحيونات المفترسة، و لدغات الحشرات الضارة و الزواحف السامة و بعوض الملاريا القاتلة و الأمراض الفتاكة كالجدرى و الدوسنتاريا، و ناهينا عن مشقة السير فى المرتفعات و المنخفضات و قذارة البرك و المستنقعات و أحراش البرارى. و لعل الضابط البحرى المصرى "سليم قبطان" كان من أوائل من توغلوا فى هذه المجاهل أيام محمد على (نوفمبر 1839). و قد تميز عهد حفيده الخديوى إسماعيل بإتساع الكشوف فى منطقة البحيرات العظمى، و لو أنه يعيب مغامراتة إعتماده الكبير على الأجانب فى رئاسة تلك الحملات أمثال الإنجليزيان "صمويل بيكر Baker" و "تشارلز غوردن Gordon " و الأمريكى " شابى لونجLong " و الفرنسى "أرنست لينان دى بلفون De Bellefonds " و الإيطالى "رومولو جيسى Romolo Gessi " و غيرهم، و الذين أبلوا بلاء حسنا فى كشف اللثام عن منابع النيل. و لكن أثبت التاريخ فيما بعد أن ولائهم كان لأوطانهم الأصلية، و تأكد من هذا حين تكالبت دولهم على أستعمار القارة و إحتلالها و إستنزاف خيراتها. لكن علينا ألا نغفل بتوجيه الشكر و العرفان لأبناء مصر و السودان الذين كانوا هم عماد تلك الحملات من ضباط و جنود و كذا حكام الأقاليم السودانية و الذين تحملوا العبأ الأكبر فى نجاحها أمثال الضباط المصريون الأكفاء منهم محمد رؤف بك، و إبراهيم فوزى باشا و حسن واصف أفندى و محمد أحمد أفندى و مصطفى أفندى فتحى، و كذا أخوتهم السودانيون أمثال أدم أفندى عامر و محمد إبراهيم بك و محمد أغا عبد الكافى
بقلم أ. د. قاسم زكى
أستاذ الوراثة بجامعة المنيا و رئيس الجمعية الأفريقية لعلوم الحاصلات الزراعية، و عضو الرابطة العربية للإعلاميين العلميين
ساحة النقاش