قبر هدى شعراوي
بقلم دكتور قاسم زكى
أستاذ الوراثة بكلية الزراعة، جامعة المنيا،[email protected]
كم يسعدني كثيرا قراءة التاريخ وتتبع شخصياته، وكم ينالني الكثير من التعب والمتعة من تلك الهواية الاحترافية. بمناسبة عيد المرأة المصرية، ودور ابنة المنيا (هدى شعراوي) في تلك المناسبة، ودور والدها (محمد سلطان باشا) في تاريخ مصر، كانت تلح على نفسي كثيرا زيارة مقبرتهم الشهيرة بالمنيا. اتتنا الفرصة حين وصلتنا دعوة كريمة من الأستاذ أيمن بكر (مرشد سياحي، وابن قرية زاوية سلطان بالمنيا) لزيارة قبر هدى هانم شعراوي واسرتها ببلدتهم، ورافقني في تلك الزيارة صديق العمر دكتور محمد عبد الحكيم، والذي كثيرا ما أثقل عليه بهوايتي التاريخية تلك، ولعله أصبح هو أيضا مدمنها، وهذا يسعدنا كثيرا.
زاوية سلطان (وأحيانا يطلق عليها زاوية الأموات) تضم آلاف المقابر فهي جبانة مدينة المنيا والقرى التي تحيط بها، بل اتضح انها ضمت قبلهم رفاة المصريين القدماء في حضن الجبل الشرقي. ويميز تلك الجبانة القباب التي تظلل قبور من رحلوا وهم يصلون لقرابة 25 ألف مقبرة. لا يروق لي تسمية المقبرة "حوش" كما يطلقون عليها اهل البلد هنا في المنيا وكثير من بلاد مصر المحروسة، حيث نحن اهل الجنوب (أسوان) نطلق كلمة حوش على حظيرة المواشي فقط.
اعود لزيارتنا التي تمت في يوم الخميس 4 مارس 2021م، بالطبع بعد استرجاع معلوماتنا عن هدى شعراوي ووالدها محمد سلطان باشا، والذي كان ثان اغنى رجل في المملكة المصرية بعد اسرة الخديوي توفيق، كان رئيس لأول مجلس نواب في مصر عام 1881م، وكان له دور كبير في مسار الثورة العرابية. وهدى شعراوي (1879-1947م)، والكثير يعرفونها بأنها محررة المرأة المصرية والعربية، بل والإسلامية، وقد يختلف البعض في تقييم الدور الذي قامت به في هذه المعضلة الاجتماعية، وان كان هذا الموضوع ليس مجال مقالنا هذا، فقد ناقشناه في مقالات أخرى، انما مقالنا هذه عن قبر هدى هانم شعراوي.
***
لا تبعد زاوية سلطان سوى 5 كم عن مدينة المنيا، وكان في انتظارنا عم كمال عبد الغني، حارس المقبرة (أبا عن جد) وهو سعيد بتلك المهمة، ويملك معلومات يفتقدها كثير منا عن تلك الاسرة، فهو تعامل معهم أحياء واموات. اصطحبنا لغرف المقبرة العديدة فهي تضم رفات حوالي خمسين فردا من رجال ونساء العائلة الكريمة (آل سلطان وآل حجازي) التي لعبت دورا هاما في تاريخ مصر، واختارت ان تكون قبورها بين مقابر الفقراء وعامة الشعب من أبناء بلدتهم بالمنيا. وتعد المقبرة صرحاً شاهقاً تم بناؤها عام 1860م، واستمر بناؤها لأكثر من عامين، شيدها مهندسون فرنسيون على مساحة1750 مترا مربعا منحوتة في الصخور والجبال يتوسطها فناء واسع محاط بساتر خشبي يضم بين جنباته الكثير من الشخصيات المهمة. تلك المقابر تحولت إلى مزار شعبي لأبناء محافظة المنيا ومصر والأجانب، فمن تأخذه قدماه لزيارة المقابر بزاوية سلطان، لابد أن يلقى نظرة على التحفة المعمارية التي تضم كبار رجال السياسة ومنهم محمد باشا سلطان أول رئيس مجلس نيابي أسس في مصر ومعه جثمان ابنه عمر باشا سلطان؛ وتجاورهما زوجة محمد سلطان وام عمر وهدى (السيدة اقبال التركية)، و تضم المقبرة أيضا قبر ابنتهما هدى شعراوي، كريمة محمد باشا سلطان وزوجة الثائر المعروف على باشا شعراوي، أحد أعضاء الوفد المصري مع سعد باشا زغلول، أيضا هناك قبر نائلة هانم عمر محمد سلطان (والدة الفنان المشهور جميل راتب). هذا بجانب جثامين كثير من العمد والمشايخ من آل حجازى، وهي قبيلة العائلة القادمة من بلاد الحجاز منذ ثلاث قرون تقريبا.
***
مقابر عائلة سلطان باشا تمثل تحفة معمارية تجاوز عمرها 160عاما، في واجهة المقبرة ميدان فسيح يتصدره مدخل المقبرة المشيد من الطوب الاحمر الخالص يتوسطه باب ضخم وعلى الجانب الايمن للمدخل مبنى "السلامليك" مخصص للرجال من العائلة حين كانوا يأتون في الاعياد والمناسبات. بينما على اليسار يقع "الحرامليك" وهي استراحة لنساء العائلة من ابناء واحفاد محمد سلطان باشا، حيث كانت هدى شعراوي تأتى في المناسبات القليلة لزيارة المقبرة، بعد ان تنزل في قصرها الكائن غرب النيل على الكورنيش بمدينه المنيا، والذي إصابة الكثير من التلف حاليا.
تقع مقبرة هدى شعراوي في الجانب الجنوبي الشرقي من مدافن الاسرة، شكل المقبرة من الخارج عبارة عن بناء يرتفع فوق الارض بمقدار 5 أمتار؛ مكون من طابقين الاول الأرضي (بدروم) يجمع مقتنيات هدى شعراوي من الجوائز، والأوسمة، والنياشين، ومؤلفاتها. أما الطابق الثاني فيُصعد له من خارج المبنى على سلم منحوت في الصخر، والقبر مبني من الطوب الاحمر المكوي والرملة والحمرة والفحم الاسود والجير والحجر الصخري تعلوه قبة سماوية (تشبه قبة الصخرة) مزركشة بالألوان مدون عليها من الداخل بالتركية والعربية. والقبر مطلي بماء الذهب والالوان والرسوم ذات الطابع الإسلامي ومحاط بالرخام والجرانيت الإيطالي. تزين المقبرة صورة هدى شعراوي ومدون بالمقبرة تاريخ وفاتها نقشا بماء الذهب الخالص. أبواب المقبرة وشبابيكها من الخشب الارابيسك ومزركشة ومطلاه باللون البنى ومحلاة بالرسوم والاشكال الاسلامية مصحوبة بالطابع التركي والمصري في تلك الفترة من القرن ال 19. رحم الله الجميع.
ساحة النقاش