بسم الله الرحمن الرحيم

مسألة تتبع رخص وزلل العلماء وأقوال العلماء في ذلك

إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله .                                                      أما بعد

فقد قال سيِّدُنا عمر[1] رضي الله عنه: "هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ يهدم الإسلام زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين".

...وأيضاً[2]

قال سليمان التيمي : " إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله " قال أبو عمر ابن عبد البر : هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً "
جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/ 92 ، والإحكام لابن حزم 6 / 317 ، وسير أعلام النبلاء للذهبي 6/ 198، وحلية الأولياء لأبي نعيم 3/ 32 ، وتذكرة الحفاظ 1للذهبي 1 /151، وتهذيب الكمال 12 / 11
، وإعلام الموقعين ج3/ص285 .
وقال الأوزاعي : " من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام "
سنن البيهقي الكبرى رقم ( 20707 ) 10 / 211 ، وتذكرة الحفاظ للذهبي 1/ 180، تاريخ الإسلام للذهبي 9/ص491، 7 / 125 ، وإرشاد الفحول للشوكاني ص454.
وقال الأوزاعي: " من أخذ بنوادر العلماء فبفيه الحجر "
شعب الإيمان رقم ( 1923 ) 2 / 315 ،
وعن ابن مبارك أخبرني المعتمر بن سليمان قال رآني أبي وأنا أنشد الشعر فقال لي يا بني لا تنشد الشعر فقلت له يا أبت كان الحسن ينشد وكان ابن سيرين ينشد فقال لي أي بني إن أخذت بشر ما في الحسن وبشر ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشر كله . الموافقات للشاطبي 4/ص169.
وقال بعض العلماء : "من تتبع الرخص فقد تزندق"
وقال الإمام أحمد: لو أن رجلا عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع (يعني الغناء) وأهل مكة في المتعة كان فاسقًا.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأبي بكر بن الخلال رقم ( 171 ) ص 206) ، وإرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول للشوكاني ص 161) ، وعون المعبود 13 / 187 ، وشرح قصيدة ابن القيم 2 / 524 .
وقال الشاطبي : " فإذا صار المكلف في كل مسألة عنت له يتبع رخص المذاهب وكل قول وافق فيها هواه فقد خلع ربقة التقوى وتمادى في متابعة الهوى ونقض ما أبرمه الشارع وأخر ما قدمه " . الموافقات للشاطبي 2 / 386 – 387 .

قال الشيخ وهبة الزحيلي ويمكن القول بوجود آراء ثلاثة في الموضوع هي الأشهر وهي التي نعتمدها بحثاً.
1 - قال الحنابلة ، والمالكية في الأصح عندهم ، والغزالي : يمتنع تتبع الرخص في المذاهب، لأنه ميل مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى، قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء:59/4]، فلا يصح رد المتنازع فيه إلى أهواء النفوس، وإنما يرد إلى الشريعة.
ونقل عن ابن عبد البر: أنه لايجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً. وعبارة الحنابلة في ذلك : إن استوى المجتهدان عند المستفتي في الفضيلة واختلفا عليه في الجواب اختار الأشد منهما، لما روى الترمذي من حديث عائشة قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ماخير عمار بين أمرين إلا اختار أشدهما » وفي لفظ «أرشدهما» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. ورواه أيضاً النسائي وابن ماجه. فثبت بهذين اللفظين للحديث أن الرشد في الأخذ بالأشد، والأولى أن يعتبر ـ أي المستفتي ـ القولين ساقطين، لتعارضهما، ويرجع إلى استفتاء آخر.
وعبارة المالكية : الأصح أنه يمتنع تتبع الرخص في المذاهب، بأن يأخذ منها ماهو الأهون فيما يقع من المسائل. وقيل: لايمتنع. وصرح بعضهم بتفسيق متتبع الرخص. والأولى الاحتياط بالخروج من الخلاف بالتزام الأشد الأقوى، فإن من عز عليه دينه تورع، ومن هان عليه دينه تبدع.
وعبارة الغزالي: ليس للعامي أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده، فيتوسع، بل هذا الترجيح عنده كترجيح الدليلين المتعارضين عند المفتي، فإنه يتبع ظنه في الترجيح، فكذلك ههنا.
2 - قال القرافي المالكي، وأكثر أصحاب الشافعي، والراجح عند الحنفية منهم ابن الهمام وصاحب مسلم الثبوت : يجوز تتبع رخص المذاهب، لأنه لم يوجد في الشرع مايمنع من ذلك، إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل، بأن لم يكن عمل بآخر، بدليل أن سنة الرسول صلّى الله عليه وسلم الفعلية والقولية تقتضي جوازه، فإنه عليه الصلاة والسلام «ماخير بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما مالم يكن مأثماً» وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يحب ماخفف عن أمته» .
وقال صلّى الله عليه وسلم: «بعثت بالحنيفية السمحة» وقال أيضاً: «إن هذا الدين يسر، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه». وقال عليه السلام أيضاً: «إن الله قد فرض فرائض وسن سننًا وحد حدوداً وأحل حراماً وحرم حلالاً، وشرع الدين فجعله سهلاً سمحاً واسعاً ولم يجعله ضيقاً » .
وقال الشعبي: «ماخير رجل بين أمرين، فاختار أيسرهما إلا كان ذلك أحبهما إلى الله تعالى» .
وقال القرافي في هذه المسألة: يجوز تتبع الرخص بشرط ألا يترتب عليه العمل بما هو باطل عند جميع من قلدهم، أي أن شرط جواز تقليد مذهب الغير ألا يؤدي إلى التلفيق أي ألا يكون موقعاً في أمر يجتمع على إبطاله الإمام الذي كان على مذهبه، والإمام الذي انتقل إليه، كما إذا قلد الإمام مالك في عدم نقض الوضوء بلمس المرأة بغير شهوة، وقلد الإمام الشافعي في عدم وجوب ذلك
ويلاحظ أن هذا القيد الذي ذكره القرافي وهو: ( ألا يترتب على تتبع الرخص العمل بما هو باطل لدى جميع من قلدهم ) لادليل عليه من نص أو إجماع، وإنما هو قيد متأخر، كما قرر الكمال بن الهمام في ( التحرير ). فإذا جاز للشخص مخالفة بعض المجتهدين في كل ماذهب إليه، كما بينا، جازت مخالفته في بعض ماذهب إليه من باب أولى، كما قال صاحب تيسير التحرير. ثم قال: وليس هناك دليل من نص أو إجماع يدل على أن الفعل إذا كانت له شروط، فإنه يجب على المقلد أن يتبع مجتهداً واحداً في هذه الشروط التي يتوقف عليها هذا الفعل، ومن ادعى دليلاً على ذلك فعليه الإتيان به.
وأما مانقل عن ابن عبد البر، من أنه «لايجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً، فلا نسلم صحة هذا النقل عنه، ولو سلم فلا يسلم صحة الإجماع، إذ في تفسيق متتبع الرخص عن أحمد روايتان. وحمل القاضي أبو يعلى الرواية المفسقة على غير متأول ولامقلد. وقال ابن أمير الحاج في التقرير على التحرير: وذكر بعض الحنابلة: أنه إنْ قوي الدليل، أو كان عامياً، لايفسق. وفي روضة النووي حكاية عن ابن أبي هريرة: لايفسق .
والخلاصة: أن مبدأ الأخذ بالرخص أمر محبوب، ودين الله يسر، وماجعل عليكم في الدين من حرج، والمفروض أن المقلد لم يقصد تتبع الرخص في كل الوقائع وإنما في بعض المسائل، وكثيراً ماقال العلماء: «من قلد عالماً فقد برئ مع الله» «اختلاف العلماء رحمة» وربما قال بعضهم: «حجَّرت واسعاً » إذا التزم العمل بالقول المشهور في جميع تصرفاته.
3 - رأي الشاطبي:
يرى الشاطبي رأي ابن السمعاني : وهو أنه يجب على المقلد الترجيح بين أقوال المذاهب بالأعلمية وغيرها، واتباع الدليل الأقوى، لأن أقوال المجتهدين بالنسبة للمقلدين كالأدلة المتعارضة بالنسبة إلى المجتهد، فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف عند تعادل الأدلة، كذلك المقلد. ولأن الشريعة ترجع في الواقع إلى قول واحد، فليس للمقلد أن يتخير بين الأقوال. وإلا كان متبعاً غرضه وشهوته، والله تعالى يمنع اتباع الهوى جملة وهو قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء:59/4].
ثم أبان الشاطبي في كلام مسهب مايترتب على مبدأ الأخذ بالأيسر من مفاسد:
أولها ـ الضلال في الفتوى بمحاباة القريب أو الصديق في تتبع رخص المذاهب اتباعاً للغرض والشهوة.
ثانيها ـ الادعاء بأن الاختلاف حجة على الجواز أو الإباحة، حتى شاع بين الناس الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفاً فيه بين أهل العلم.
ثالثها ـ اتباع رخص المذاهب اعتماداً على مبدأ جواز الانتقال الكلي من مذهب إلى مذهب، وأخذاً بمبدأ اليسر الذي قامت عليه الشريعة مع ( أن الحنيفية السمحة أتى فيها السماح مقيداً بما هو جار على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها ). ثم ذكر بعض مفاسد اتباع رخص المذاهب كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف، وكالاستهانة بالدين إذ يصير سيَّالاً لاينضبط، وكترك ماهو معلوم إلى ماليس بمعلوم، للجهل بأحكام المذاهب الأخرى، وكانخرام قانون السياسة الشرعية بترك انضباط معيار العدالة بين الناس وشيوع الفوضى والمظالم وضياع الحقوق وتعطيل الحدود واجتراء أهل الفساد، وكإفضاء ذلك إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم، وغير ذلك من المفاسد التي يكثر تعدادها.
رابعها ـ التخلص من الأحكام الشرعية وإسقاطها جملة، عملاً بمبدأ الأخذ بأخف القولين، لابأثقلهما، مع أن التكاليف كلها شاقة ثقيلة.
ثم رد الشاطبي على القائل بجواز تتبع الرخص في حالات للضرورة أو الحاجة عملاً بالقاعدة الشرعية ( الضرورات تبيح المحظورات ) بأن حاصل فعله هو الأخذ بما يوافق الهوى، أو تجاوز حدود الضرورة أو الحاجة المقررة في الشرع. كما أنه رد على المتمسك بمبدأ ( مراعاة الخلاف بين الأقوال ) لتسويغ الأخذ بالأيسر بأن مراعاة الخلاف لايترتب عليه الجمع بين قولين متنافيين أو القول بهما معاً، وإنما هما لمسألتين مختلفتين. وفي تقديري أن السبب الذي حمل الشاطبي على منع تتبع الرخص والتلفيق هو غيرته على نظام الأحكام الشرعية حتى لايتخطاها أحد عملاً بمبدأ التيسير على الناس، ،ولكنه ـ كما يلاحظ من كلامه ـ متأثر بالعصبية المذهبية،ويخشى ـ رغم تحرره الفكري ـ مخالفة مذهب الإمام مالك، ويحرص على التقليد ومنع الاجتهاد.
ونحن معه في هذه الغيرة على أحكام الشريعة، لكن التقليد أو التلفيق الجائز مجاله محصور فيما لم يتضمن الإعراض عما أنزل الله، أو الذي لم يتضح فيه رجحان الحق والدليل على صحة قول المجتهد المقلَّد ، وحينئذ ينهدم رأي الشاطبي من أساسه، لأنه يطالب بضرورة العمل بالدليل الراجح، والتزام أصول الشريعة، وهذا أمر مفترض في كل تقليد محمود أو أخذ بأيسر المذاهب

من فتاوى  العلماء حول تتبع رخص وزلل العلماء

 

1-      سمعت من أحد الشيوخ الكرام أن من تتبع رخص العلماء فقد تزندق، بدون أن يفسرها، رجاء توضيح المعنى، وهل لا بد أن أتبع مذهبا بعينه؟ أم يجوز أن أتبع مذهبا في مسألة ومذهبا آخر في مسألة أخرى، كاتباع مذهب الحنفية في مسألة معينة، واتباع المالكية في آمر آخر، وهكذا. وهل هذا تتبع لرخص العلماء؟ الرجاء التوضيح.

الإجابة[3]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فبداية لا بد من العلم أن الرخص نوعان:

الأول: رخص شرعية ثابتة بالكتاب أو السنة، كالقصر والجمع في السفر، وأكل الميتة عند الاضطرار، فهذه يستحب الأخذ بها إذا وجد سببها، وقد يجب.

والثاني: رخص المذاهب الفقهية، وهي فتوى عالم بالجواز في مسألة خلافية قال غيره فيها بالمنع والحظر.

 وتتبع مثل هذه الرخص أخذا بالأيسر مطلقا، دون مرجح شرعي، ودون تقليد العامي لمن يظنه الأعلم، بل على سبيل التشهي واتباع الهوى ـ منكر لا يجوز، وحكى ابن عبد البر وابن حزم الإجماع على ذلك.

 والفاعل لذلك يجتمع فيه الشر كله، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 4145. ولذلك كان التلفيق بين مذاهب أهل العلم ـ إذا قصد منه التشهي بتتبع الرخص ـ ممنوعا في كل حال.

وأما الأخذ بالرخص والتلفيق بين المذاهب اجتهادا وترجيحا أو تقليدا من العامي لمن يعتقده الأعلم والأوثق من العلماء، فلا حرج فيه. وقد سبق لنا بيان ذلك في الفتويين رقم: 37716 ، 107754 وما أحيل عليه فيهما. ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتوى رقم: 133956.

والله أعلم.

2-      السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

هل يستطيع المسلم تتبع الرخص في المذاهب؟ ولماذا الاختلاف بين الأئمة أصلا؟ وهل يختلفون في مصادر التشريع الأساسية؟

الإجابة[4]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

فالرخص الشرعية الثابتة بالكتاب أو السنة لا باس بتتبعها والأخذ بها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن توتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه" كما في صحيح ابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنه. وفي المسند عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته"، وهذه الرخص مثل القصر والفطر للمسافر، والمسح على الخفين والجبائر. ومن الرخص الشرعية ما يجب الأخذ به كالأكل من لحم الميتة عند الضرورة وخوف الهلاك.أما تتبع رخص المذاهب الاجتهادية والجري وراءها دون سبب من الأسباب المعتبرة فإنه يعد هروباً من التكاليف وهدماً لبنيان الدين، ونقضا لمقاصد الشرع المرعية في الأوامر والنواهي الشرعية. وقد اعتبر العلماء هذا العمل فسقاً لا يحل ارتكابه.

وحكى ابن حزم الإجماع على ذلك، وقال في الإحكام نقلاً عن سليمان التيمي: لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله.
ونقل ابن تيمية عن ابن عبد البر أنه قال: (هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً) وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى ما ينبغي تأمله، فروى كثير بن عبد الله بن عمر وابن عوف المزنى عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: أخاف عليهم من زلة العالم، ومن حكم جائر، ومن هوى متبع".

وقال عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ يهدم الإسلام زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المعتلين.
وقال الإمام أحمد: لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع وأهل مكة في المتعة كان فاسقاً.
وقال الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام.

والنقول في هذا الباب كثيرة جداً لا تكاد تحصى، والعلماء متفقون على مضمونها وإن اختلفت عباراتهم، وعلة ذلك عندهم أنه ما من عالم إلا وله زلة في مسألة لم يبلغه فيها الدليل أو أخطأ فهمه فيها الصواب. فمن تبع ذلك وأخذ به تملص من التكاليف الشرعية وزاغ عن جادة الحق وهو لا يدري.

فالعالم معذور مأجور، ومتبعه في ذلك بعدما يتبين له الحق مذموم مأزور. قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعدما نقل كلاماً لابن المبارك في هذا المعنى: وهذا الذي ذكره ابن المبارك متفق عليه بين العلماء، فإنه ما من أحد من أعيان الأمة من السابقين الأولين ومن بعدهم إلاّ لهم أقوال خفيت عليهم فيها السنة، وهذا باب واسع لا يحصى، مع أن ذلك لا يحط من أقدارهم ولا يسوغ اتباعهم فيها. انتهى كلامه.

أما قول السائل: لماذا الاختلاف بين الأئمة أصلاً؟ وهل يختلفون في مصادر التشريع الأساسية؟ فالجواب أن الأئمة متفقون على أن مصادر التشريع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإجماع والقياس، على خلاف بينهم في بعض أقسام هذا الأخير.

وأما الاختلاف الواقع بينهم في مسائل الفروع فهو طبيعي جداً ومن اطلع على مدارك الخلاف بينهم علم أنهم ما اختلفوا عن هوى، وإنما كان سبب اختلافهم أحد أمرين أساسين:

1- اختلاف فهمهم لمدلول النص الشرعي، وهذا طبيعي جداً لاختلاف فهوم الناس وما جبلهم الله سبحانه وتعالى عليه من التفاوت في المدارك والعقول.

2- التنازع في ثبوت النص وصلاحيته للاحتجاج إن لم يكن قرآناً أوحديثا متواترا ولله سبحانه في وقوع هذا النوع من الاختلاف حكم بالغة، ولولا ذلك لما حصل.

وعلى كل حالٍ فقد قرر أهل العلم أن اتفاق الأئمة حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة. والله تعالى أعلم.

خُطبة[5] حول تتبع رخص وزلل العلماء وأقوال العلماء في ذلك

أما بعد

فتعارض أقوال المفتين من أسباب حيرة البعض لا سيما في هذا الزمان حيث التلقي أصبح من أكثر من جهة بسبب كثرة وسائل الاتصال؛ ومنها القنوات الفضائية فالناس تجاه ذلك طوائف فطائفة مقصرة رأت أنَّ وجود الخلاف مسوغ لاختيار ما شاءت من أقوال أهل العلم وهذه الطائفة أخف من التي بعدها وهي الطائفة التي في قلبها نفاق لكنها لا تتجرأ على مواجهة المجتمع في بعض مسلماته فجعلت من الخلاف وسيلة لتحقيق أغراضها وتغريب الأمة عن دينها وثوابتها لا سيما فيما يتعلق بالمرأة فإذا وجدوا قولا لأهل العلم ولو كان غاية في الشذوذ اتخذوه مطية لتسويغ ما يدعون الناس إليه وأنَّ هذا لا يخالف الدين بحجة أنه قال به من ينسب إلى العلم وهؤلاء ليسوا من أهل العلم وأفضل ما يقال فيهم أنَّهم مقلدة. ومن المعلوم عند أهل العلم أنَّ تعارض الفتويين على المقلد كتعارض الدليلين على المجتهد فكما أن المجتهد لا يجوز في حقه اتباع الدليلين معا ولا اتباع أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح فيجب على المجتهد الترجيح أو التوقف كذلك المقلد لا يجوز له اتباع المفتيين معا ولا أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح. ومع التعارض لا يسوغ له أن يختار من الأقوال ما تشتهيه نفسه وتميل إليه . فالشرائع السماوية نزلت لإخراج المكلف عن داعية هواه وتحريره من عبودية النفس إلى عبودية الله وتخييره بين القولين نقض لذلك الأصل فالشريعة تشتمل على مصلحة عامة في كل الأحكام وهي أن يكون المكلف داخلا تحت تكاليف الشرع في جميع تصرفاته اعتقادا وقولا وعملا فلا يكون متبعا لهواه ومتى خيرنا المقلدين في مذاهب الأئمة لينتقوا منها ما تهواه أنفسهم لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة. فالصحابة رضي الله عنهم في الجملة على علو قدرهم حينما يختلفون في مسألة من المسائل لم يكن قول بعضهم أولى من بعض فكيف بمن دونهم من أهل العلم.

 و في مسائل الخلاف ضابط قرآني ينفى اتباع الهوى جملة وهو قوله تعالى ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ (10) سورة الشورى وهذا المقلد قد تنازع في مسألته مجتهدان فوجب ردها إلى الله والرسول وهو الرجوع إلى الأدلة الشرعية وهي أبعد من متابعة الهوى والشهوة فاختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله والرسول.

 والقول بالاختيار من أقوال أهل العلم تشهيا يؤدي إلى إسقاط التكاليف وتحليل الحرام في كل مسألة مختلف فيها لأن حاصل القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل ما شاء ويترك ما شاء وهو عين إسقاط التكليف الواجبة .و على القول بالتخيير ستكون أكثر المحرمات مباحة. فعلى هذا الواجبات والمحرمات ستكون أقل من القليل لأنَّ المسائل المجمع عليها في باب الحلال والحرام والواجبات قليلة جداً مقارنة بما اختلف فيه.

 فصار الخلاف في المسائل عند البعض معدودا من أدلة الإباحة فاعتمد البعض على جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم فإذا أفتى بعض أهل العلم في مسألة بالمنع أو أنكر قيل له لم تمنع ولم تنكر والمسألة مختلف فيها فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها لا لدليل يدل على صحة من ذهب إلى الجواز.و ليس تقليد من قال بالجواز أولى بتقليد من قال بالمنع وجعل الخلاف دليلا على الجواز أو عدم الوجوب عين الخطأ حيث من اعتقد ذلك جعل ما ليس بمعتمد معتمدا وما ليس بحجة حجة.

 وقد أمر الله تعالى المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه ويجعل القول الموافق لهواه حجة له ويدرأ بها عن نفسه حينما ينكر عليه فيقول فلان من الناس قال بجواز ذلك أو بعدم وجوبه فهو قد أخذ القول وسيلة إلى إتباع هواه لا وسيلة إلى تقواه وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلا لأمر الشارع وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه.

 ولم يقف الأمر على الاحتجاج بالخلاف بل وصل الأمر بالبعض بالاستدلال على الجواز بفعل بعض الناس ممن يفترض فيهم القدوة.

 و البعض يقول الاختلاف رحمة فلنوسع للناس في اختيار ما شاؤوا من الأقوال وعدم التحجير عليهم في رأي واحد وأن النبي عليه الصلاة والسلام بعث بالحنيفية السمحة. والدين يسر فلا تعسروا على الناس وتلزموهم بقول واحد والقول بأن الخلاف رحمة خلاف حكم الله فربنا تعالى يقول ﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ ﴿ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ﴾ سورة هود (118-119).

 و أيضاً الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيدا بما هو جار على أصولها وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها بل تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى فهذا مضاد لذلك الأصل المتفق عليه فلا يصح أن يرد الخلاف إلى أهواء النفوس وإنما يرد إلى الشريعة وهى تبين الراجح من القولين فيجب إتباعه لا الموافق لهوى النفس.

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي جعل الشريعة حاكمة على كل أمر ولم يدعها هملا بل جعل فيها ضوابط للخلاف يهتدى بها ويعرف الراجح من المرجوح عند التعارض فيتبن الحق لطالبه ويتجلى الحلال من الحرام ويظهر الحق من الباطل وبعد

 فإذا كان الأمر على ما تقدم أنه لا يجوز اختيار القول الذي يوافق هوى النفس في المسائل الخلافية من غير مرجح فما هو موقفنا حين اختلاف العلماء الربانيين في مسائل العلم وهذا سؤال يكثر السؤال عنه ويتباحثه الناس في مجالسهم وقبل الإجابة على هذا السؤال أنبه على ضرورة الالتجاء إلى الله حينما يلتبس الأمر ويكثر الخلاف وتختلط الأمور فليفزع المسلم لربه سائله التوفيق إلى الحق وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم فعن عائشة قالت كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " رواه مسلم (770) فمن تبرأ من حوله وقوته وأنزل حاجته بربه حري بأن يستجيب له ويهديه إلى الحق المختلف فيه.

 ثم بعد ذلك الناس في المسائل التي يختلف فيها أهل العلم فريقان فريق لديه أهلية النظر في الأدلة الشرعية والخروج بالحكم المأمور به فهذا النوع الذي لديه القدر على الاجتهاد ولو في مسائل خاصة يجب عليه أن يعمل باجتهاده ولا يقلد أحداً لقوله تعالى ﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ (59) سورة النساء فالتقليد عند بعض أهل العلم بمثابة أكل الميتة لا يجوز إلا في الضرورة.

 أما من كان من عوام المسلمين وغير متأهل للنظر في الأدلة الشرعية فيستفتى من استوفى شروط الاجتهاد وعرف بدينه لأن من ظهر عليه التقصير لم ينصح لنفسه فحري أن لا ينصح لغيره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية مجموع الفتاوى (20/207) إذا كان في المسألة قولان فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين . أ هـ فهذا هو الواجب حين اختلاف المفتين إما الاجتهاد وإما سؤال من يوثق بدينه وعلمه أما تتبع رخص أهل العلم واختيار ما تهوى النفس من أقوالهم فلا يجوز. وقد اتفق أهل العلم على تحريم تتبع رخص الفقهاء والتلفيق بين المذاهب فيأخذ من كل مذهب وفتوى عالم ما يوافق هواه.

 قال إسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي من جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه. وقال سليمان التيمي لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله. قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/91) معقباً على قوله . هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا. ا هـ وقال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الكبرى (4/304) في زوائد الروضة أنَّه لا يجوز للمفتي والعامل أن يفتي أو يعمل بما شاء من القولين أو الوجهين من غير نظر قال وهذا لا خلاف فيه وسبقه إلى حكاية الإجماع فيهما ابن الصلاح والباجي من المالكية في المفتي ا هـ.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيِّدنا محمد وآله وصحبه والتابعين كلما ذكره الذاكرون أو غفل عن ذكره الغافلون.

جمعها محمود داود دسوقي خطابي

 

 

 


[1] - رواه الدارمي وقال الشيخ حسين سليم أسد:إسناده صحيح.

[2] - http://majles.alukah.net/showthread.php?18979-%D8%A3%D9%82%D9%88%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%A1-%D9%81%D9%8A-%D8%AD%D9%83%D9%85-%D8%AA%D8%AA%D8%A8%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AE%D8%B5

[3] - http://www.islamweb.net/fatwa/index.php?page=showfatwa&Option=FatwaId&Id=140418

[4] - http://www.islamweb.net/fatwa/index.php?page=showfatwa&Option=FatwaId&lang=A&Id=4145

[5] - http://www.alukah.net/Sharia/1087/37871/#ixzz27OBrAYMr

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 457 مشاهدة
نشرت فى 29 أكتوبر 2012 بواسطة Islamisright

ساحة النقاش

محمود داود دسوقي خطابي

Islamisright
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

249,248