مسألة العدوى بين التوكل والتحفظ
محمود داود دسوقي خطابي
http://www.alukah.net/Sharia/0/24468/
الحمد لله العليم الغفار، الحكيم القهَّار، مكوِّر الليل والنهار، بيده وَحْدَه فَناء الخلْق وانقضاء الأعمار، ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ﴾ [الأنعام: 103]، ولا تغيِّره الأعصارُ، ولا تتوهَّمه الأفكار، ﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾ [الرعد: 8]، سبحانه، لا يخفى عليه شيءٌ مِنْ ﴿ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ﴾ [الرعد: 10] والصلاة والسلام على سيِّدنا محمدٍ النبي المختار، خيرِ مَنْ أظلَّتْه سماءٌ وتعاقب عليه ليلٌ ونهارٌ، وعلى آله الأكرمين الأطهار، وصَحْبه الصالحين الأخيار.
وبعد:
فإن المؤمن الحقَّ الذي يَحْمد الله - تعالى - دومًا؛ لأنَّه يتقلَّب في نعمائه، ويرْنُو بمطامحه إلى رضوانه، فيجب عليه أن يكون مخلصًا في عبادته وَحْدَهُ لا شريك له قولاً وعملاً واعتقادًا، ويتحلَّى بعد ذلك بالاستغفار والصبر؛ حتَّى ينال عُنوان السعادة في الدارين ويكون "ممن إذا أُنعم عليه شكَر، وإذا ابتُلي صبر، وإذا أَذنب استغفر؛ فإن هذه الأمور الثلاثة عُنوان سعادة العبد، وعلامةُ فلاحه في دنياه وأُخْراه، ولا ينفَكُّ عبْدٌ عنها أبدًا؛ فإنَّ العبد دائم التقلب بين هذه الأطباق الثلاث"[1].
فما كان ظاهره بلاءً فإنَّه على المسلم في الدنيا من حُلْوَة الآخرة، كما بيَّن ذلك رسولُنا الكريم - صلى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((حُلْوة الدُّنيا مُرَّة الآخرة، ومرَّة الآخرة حلوة الدنيا))[2].
وإنَّ ثمرة ذلك إيمانُ المسلم بأنَّ ما يشاؤه الله - جلَّتْ قدرته - كان، وما لم يشأ لا يكون، وأنَّ للعباد مشيئةً، ولكنها لا تَنفُذُ إلاَّ بعد مشيئة الله - سبحانه - كما قال أحكم الحاكمين في مُحكم التنزيل: ﴿ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [الإنسان: 30]، فختم الله - تعالى - الآية الكريمة بكمال عِلمه وكمال حكمته؛ أيْ: إنَّه - سبحانه - عليم وحكيم بما يَصْلح به عبادُه.
وقال في موضع آخر: ﴿ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 29]، وختم الآية الكريمة هنا بأنَّه ربٌّ للعالمين؛ أيْ: إنَّ مشيئتهم لا تنفُذ إلا بعد مشيئة ربِّهم، وهو الذي خلقهم ورزقهم و... فلا تكون أفعاله إلا بما فيها الخير والحكمة؛ لأن الربَّ يَخلق ويرزق، ويحفظ وينصر و...
وهذا توحيد الربوبية الذي أقر به وثَنيُّو العرب، ولم يُدْخِلهم في الإسلام، وقد طبَّق الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذا المعتقَد في كلِّ أحيانه، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلَّم - في أذكار الصباح: ((ما شئت كان، وما لم تشأ لا يكون، ولا حول ولا قوة إلاَّ بك، إنك على كل شيء قدير))[3].
فهو خلَقَهم وحفظهم ورعاهم، ولم يتركهم سُدًى، بل قال - تبارك وتعالى -: ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾ [القيامة: 36].
ولم يَخلقهم عبثًا - تبارك وتعالى - كما قال الجليل - سبحانه - في محكم التنْزيل: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾[المؤمنون: 115]، وقد حكى الله - تعالى - قول المؤمنين الصادقين: ﴿ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 191].
وقال - سبحانه -: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴾ [ص: 27]، كما أنَّه - تعالى - لم يخلق السماء والأرض لعبًا، كما قال - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴾[الأنبياء: 16]، وقال: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴾ [الدخان: 38].
وعلَّم نبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلَّم - ابنَ عبَّاس - رضي الله عنهما - وسائرَ الأمة - المعتَقد السليم بقوله: ((واعْلم أنَّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرُّوك بشيء، لم يضروك إلاَّ بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلام وجفَّت الصحف))[4].
وهذا الأمر صلبُ مُعتقَد المُسلم؛ إذْ هو ركن من أركان الإيمان، ولا يصحُّ إيمان العبد بدونه مع سائر الأركان.
كما في جوابه - صلى الله عليه وسلَّم - لمَّا سأله جبريل - عليه السَّلام - عن الإيمان، فقال: ((أن تُؤْمن بالله وملائكته، وكتُبِه ورسله، واليوم الآخر، وتؤْمن بالقدَر خيرِه وشرِّه))[5]، وفي رواية: ((حُلْوه ومرِّه))[6].
كيف لا؟! وقد قال الله - تعالى -: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 17].
وقال: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [يونس: 107].
فكلٌّ مِن السموات والأرض مخلوقة بِحِكْمَهٍ وَلِحِكْمَةٍ، والله وَحْدَهُ الذي يمسكهما، كما قال - جل في علاه -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [فاطر: 41].
فما خلَق الله - عزَّ وجلَّ - شيئًا إلاَّ لحكمة، طَهُرَ أم خَبُث، وهذا معتقَد كلِّ مسلم، كما حكى ذلك شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّة بقوله: "والرَّبُّ - تعالى - لا تُقاس أفعاله بأفعال عباده، فهو يَخلق جميع ما يخلقه لِحِكمة ومصلحة، وإنْ كان بعضُ ما خلقه فيه قبْحٌ، كما يَخلق الأعيان الخبيثة كالنجاسات وكالشياطين لحكمة راجحة"[7].
وقال: "فلم يَكُن في الموجودات التي خلَقَها الله ما هو شرٌّ مطلقًا عامًّا، فعُلِم أنَّ الشر المخلوق الموجود شرٌّ مقيَّد خاص، وفيه وجه آخر هو به خير وحسن، وهو أغلب وجْهَيه، كما قال - تعالى -: ﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ﴾ [السجدة: 7]، وقال - تعالى -: ﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [النمل: 88] [8]، وقال - تعالى -: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ [الحجر: 85] وقال:﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا ﴾ [آل عمران: 191].
وقد عَلِم المسلمون أنَّ الله لم يخلق شيئًًا ما إلا لحكمة؛ فتلك الحكمة وجْه حُسْنه وخيره، ولا يكون في المخلوقات شرٌّ محْضٌ، لا خير فيه ولا فائدة فيه بوجْه من الوجوه.
وبهذا يظهر معنى قوله: ((والشر ليس إليك))[9] وكون الشرِّ لَم يُضَف إلى الله وحْده؛ بل إمَّا بطريق العموم، أو يضاف إلى السبب، أو يُحذف فاعله[10]، وهذا من الأدب مع الله - تعالى - وله نظائِرُ كثيرة في القرآن الكريم[11].
وقال: "فإنَّ الموجود خلَقَه الله - تعالى - والله لم يخلق شيئًا إلا لحكمة، وتلك الحكمة وجْهُ خيرٍ، بخلاف المعدوم فإنَّه لا شيء"[12].
- خلَقَهم لعبادته وحْدَه لا شريك، يَعمرون الأرض موحِّدين، كما قال - سبحانه -: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ﴾ [الذاريات: 56 - 57]؛ لأنه الوحيد حقًّا ربُّ العالمين، كما في قوله - تعالى -: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2].
وهو الذي يَحفظهم، كما في قوله: ﴿ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ﴾[الأنبياء: 42].
ولا يوجد في السموات والأرض إلهٌ حقٌّ غير الله - تعالى - كما في قوله - سبحانه -: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 22].
وهو الخالق العظيم أدْرى بمن خلق، كما في قوله - تعالى -: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14].
وهو أدرى بما يصلح عباده، كما في قوله - تعالى -: ﴿ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 140].
ولقد حذرنا ربُّنا - تبارك وتعالى - بذِكرِه أحوالَ المفْترين في قرآنه المجيد؛ إذْ حكى عن قوم مسرفين بقوله: {﴿ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 12 - 13].
ولقد بيَّن - سبحانه - أن ظهور البلاء إنما هو بما كسبتْه أيدي الناس، عقوبة لهم، كما في قوله:﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].
وهذا نتيجة لظهور الفساد، كما قال - سبحانه -: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41].
وهذا ما أخبر به الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى - صلَّى الله عليه وسلَّم - حيث قال: ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يُعْلنوا بها - إلاَّ فشا فيهم الطاعون[13] والأوجاع التي لم تكن مضَتْ في أسلافهم الذين مضوا))[14].
وبيَّن - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه عذاب وعقوبة لمن قبلنا، فقال: ((إنَّ هذا الوجع - أو السقم - رجْز عُذِّب به بعض الأمم قبْلَكم، ثم بَقِي بعْدُ بالأرض، فيذهب المرة ويأتي الأخرى، فمن سمع به بأرض فلا يقْدَمنَّ عليه، ومن وقع بأرض وهو بها فلا يُخرِجنَّه الفرار منه))[15].
هذا، ومما نحن بصدد الكلام عنه مما له تعلُّق بهذا المعنى بعد ظهور وباء[16] معيَّن، عافانا الله - تعالى - القادر، وجميعَ عبادِه الموحِّدين.
وقد سمَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - الفواحش - سواءٌ كانت أقوالاً أو أفعالاً، وكلَّ ما نهى الله - تعالى - عنه - بالقاذورات، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلَّم - بعد فاحشة الزِّنا، وهي المقصودة في الحديث، حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم -: ((اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله - تعالى - عنها، فمَن ألمَّ بشيءٍ منها، فليستتر بستر الله وليتب إلى الله، فإنه من يُبْدِ لنا صفْحتَه نُقِمْ عليه كتاب الله))[17].
وسيدور الكلام حول العَدْوَى من حيثُ وجودُها، وموقف المسْلِم حيال المكان الذي كَثرت فيه الأوبئة، ويتَّضح ذلك من خلال ما يأتي:
أولاً: ذكْر أحاديثَ نبويَّة، وآثارٍ عن الصحابة - رضي الله عنهم - التي في ظاهرها إثْبات للعدوى.
ثانيًا: ذكر أحاديث نبوية وآثار عن الصحابة - رضي الله عنهم - التي في ظاهرها نفْيٌ للعدوى.
ثالثًا: نقْل أقوال أهل العلم في جَمْعهم بين تلك الأحاديث التي في ظاهرها تعارض وإشكال.
رابعًا: سَرْد بعض الأحاديث والآثار التي رُوِيَتْ في العدْوى، وهي ليست صحيحة، وعلى فرْض صحَّتها - تنَزُّلاً - فإنما تُوجَّه كما وُجِّهَت الأحاديثُ الثابتة الصحيحة عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو عن أصحابه - رضي الله عنهم أجمعين.
خامسًا: خلاصة البحث في مسألة العدوى.
سادسًا: ذكر بعض النتائج والتوصيات.
أولاً: أحاديث في ظاهرها إثبات للعدوى، وهي:
1 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم -: ((فِرَّ من المجذوم كما تفرُّ من الأسد[18]))[19]، وفي لفظ: ((إذا رأيت المجذوم ففِرَّ منه كما تفر من الأسد))[20].
2 - عن عمرو بن الشَّريد عن أبيه قال: كان في وفْد ثقيف رجل مَجذوم، فأرسل إليه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنا قد بايعناك فارجع))[21].
3 - قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إن هذا الطاعون رجْزٌ سُلِّط على من كان قبلكم - أو على بني إسرائيل - فإذا كان بأرض فلا تَخْرجوا منها فرارًا منه، وإذا كان بأرض فلا تدخلوها))[22].
4 - قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يُورد[23] مُمْرِض على مُصِحٍّ))، وفي لفظ البخاري: " لا توردوا الممْرِض على المصح))[24].
5 - قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تُدِيموا النَّظر إلى المجْذومين))[25].
6 - قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تحدُّوا النظر إليه))[26]، "يعني: المجذوم".
7 - قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اتَّقوا المجذوم كما يُتَّقى الأسد))[27].
8 - عن ابن أبي مُلَيكة: "أنَّ عمر - رضي الله عنه - مر بامرأة مجذومة - وهي تطوف بالبيت - فقال لها: يا أمَة الله، لا تُؤْذِي الناس، لو جلَسْتِ في بيتك لكان خيرًا لك، فجلسَتْ في بيتها، فمرَّ بها رجل بعدَما مات عُمَر، فقال لها: إنَّ الذي نهاك قد مات فاخْرجي، فقالت: والله، ما كنتُ لأطيعه حيًّا، وأعصيه ميتًا"[28].
ثانيًا: أحاديث وآثار ظاهرها نفي للعدوى، وهي:
1 - قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا عدوى ولا طيرة))[29].
2 - قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا عدوى ولا صَفَر ولا هامَة))، فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال الإبِل تكون في الرَّمل كأنَّها الظِّباء، فيجيء البعير الأجرب فيدخل فيها فيجربها كلَّها؟ قال: ((فمَن أعْدى الأوَّلَ؟))[30].
3 - عن جابر - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أخذ بيد مَجْذوم فوضَعها معه في القصعة، وقال: ((كُلْ ثقةً بالله وتوكُّلاً عليه))[31].
4 - رَوى ابن أبي شيبة في "مصنَّفه"[32] أنَّ "سلْمان - رضي الله عنه - كان يعمل بيديه، ثم يَشتري طعامًا، ثم يبعث إلى المجذومين، فيأكلون معه"[33].
5 - عن أمِّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: قالت: ((كان لي مولًى به هذا الدَّاء[34]، فكان يأكل في صِحَافي، ويشرب في أقْداحي، وينام على فراشي))[35].
6 - عن عبدالله بن جعفر قال: "لقد رأيتُ عمر بن الخطاب يُؤتَى بالإناء فيه الماء، فيعطيه مُعَيْقِيبًا، وكان رجلاً قد أسرع فيه ذاك الداء فيشرب منه، ويناوله عُمَر، فيضع فمَه موضِعَ فمه، حتَّى يشرب منه، فعرفت أنَّما يصنع عمر ذلك؛ فرارًا من أن يدْخلَه شيء من العدوى"[36].
7 - روى ابن أبي شيبة في "مصنفه"[37] أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - قَدِم عليه وفْدٌ من ثقيف، فأُتِي بطعام، فدنا القوم وتنحَّى رجل به هذا الدَّاء - يعني الجُذام[38] - فقال له أبو بكر: ادْنُهْ، فدنا، فقال: كُلْ، فأكل وجعل أبو بكر - رضي الله عنه - يضع يده موضع يده.
8 - رَوى ابن أبي شيبة في "مصنَّفه"[39] عن أبي معْشر عن رجل أنَّه رأى ابن عمر - رضي الله عنهما - يأكل مع مجذوم، فجعل يضع يده موضع يد المجذوم.
وروى عبدالرزاق في "مصنفه"[40] قال معمر: وبلغني أنَّ رجلاً أجذم جاء إلى ابن عمر - رضي الله عنهما - فسأله، فقام ابن عمر، فأعطاه درهمًا، فوضعه في يده، وكان رجلٌ قد قال لابن عمر: أنا أعطيه، فأبَى ابنُ عمر أن يناوله الرجل الدرهم.
ثالثًا: جَمْع العلماء المحقِّقين بين الأحاديث التي في ظاهرها تعارُض:
ولا بد من هذا الجمع؛ لأن كلاًّ من الأحاديث ثابت وصحيح، لكن في ظاهرها ما يُخالِف الآخَر، فهل يُعمل بظواهر إثبات العدوى؟ أو بظواهر نفْي العدْوى؟ أو بالنسخ؟ أو بالجمع بينهما؟
والجواب: أنَّه لا يوجد في الشَّرع المطهَّر دليلان ثابتان ومتناقضان من كلِّ الوجوه، كما بيَّنَ ذلك الإمام ابن القيِّم بقوله: "أما حديثان صحيحان صريحان متناقضان من كلِّ وجه ليس أحدُهما ناسخًا للآخَر - فهذا لا يوجد أصلاً، ومَعاذ الله أنْ يوجد في كلام الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلَّم - الذي لا يَخرج من بين شفتيه إلاَّ الحقُّ، والآفة من التقصيرِ في معرفة المنقول والتمييزِ بين صحيحه ومعلوله، أو من القصور في فهم مراده - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحَمْل كلامه على غير ما عنَاه به، أو منهما معًا، ومن ها هنا وقع من الاختلاف والفساد ما وقع "[41].
فلا يجوز العمل بظواهر أحد الأمرين، وإهمالُ الآخَر، فهذا لا يصحُّ؛ لأنَّ الإعْمال خير من الإهْمال مع إمكانية الجمْع، وأمَّا القول بالنسخ فإنَّه لا يُصَار إليه إلاَّ عند تَعَذُّر الجمع ومعرفة التاريخ، وهذان مفقودان في هذه الآثار؛ لأنَّ التاريخ غير معروف، ويمكن الجمع.
ولهذا قال الإمام النووي رادًّا القول بالنسخ: "وهذا غلط؛ لوجهين: أحدهما أنَّ النسخ يُشترَط فيه تعذُّرُ الجمْع بين الحديثين، ولم يتعذَّر، بل قد جمَعنا بينهما، والثاني أنَّه يُشترط فيه معرفة التاريخ، وتأخُّرُ الناسخ، وليس ذلك موجودًا هنا.
وقال آخَرون: حديث ((لا عدوى)) على ظاهره، وأمَّا النهي عن إيراد الممْرِض على المصحِّ فليس للعدْوى، بل للتأذِّي بالرائحة الكريهة، وقُبْح صورته، وصورة المجذوم.
والصواب ما سبق، والله أعلم"[42].
وقال الإمام ابن القيِّم رادًّا على دعْوى النسخ بقوله: "وهذا غير صحيح...؛ المنهي عنه نوع غير المأذون فيه"[43].
وقال الحافظ ابن حجر: "وأما دعوى النسخ فمردودة؛ لأنَّ النسخ لا يُصار إليه بالاحتمال، ولا سيما مع إمكان الجمع"[44].
وقد قرَّر هذا الأئمةُ كما قال الإمام العراقي في ألفيته[45]:
الْمَتْنُ إِنْ نَافَاهُ مَتْنٌ آخَرُ وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ فَلاَ تَنَافُرُ كَمَتْنِ "لاَ يُوْرِدُ" مَعْ "لاَ عَدْوَى" فَالنَّفْيُ لِلطَّبْعِ "وَفِرَّ" عَدْوَا أَوْ لاَ فَإِنْ نَسْخٌ بَدَا فَاعْمَلْ بِهِ أَوْ لاَ فَرَجِّحْ وَاعْمَلَنْ بِالأَشْبَهِ |
وعلى هذا فلا بد من إطلالة على المسالك التي سلَكها العلماء في الجمع بين كل الأحاديث التي في ظاهرها تعارض، ثم ذِكْر الراجح من تلك المسائل، ثم ذكْر الخلاصة؛ لِمَا تقدَّم ذكْره، وذلك يتَّضح من خلال ما يلي:
1 - قال الإمام النووي جامعًا بين هذه الأحاديث التي في ظاهرها تعارض بقوله: "قال جمهور العلماء: يجب الجمع بين هذين الحديثين، وهما صحيحان، قالوا: وطريق الجمع أنَّ حديث ((لا عدوى)) المراد به نفْي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أنَّ المرض والعاهة تعْدِي بطبْعها، لا بفعل الله - تعالى.
وأما حديث ((لا يورد ممرِض على مصحٍّ))، فأرشد فيه إلى مجانبة ما يحصل الضَّرر عنده في العادة بفعل الله - تعالى - وقدَرِه، فنفَى في الحديث الأوَّل العدْوى بطبْعها، ولم يَنْف حصول الضرر عند ذلك بقدر الله - تعالى - وفعله، وأرشد في الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقدَرِه، فهذا الذي ذكرناه من تصحيح الحديثين والجمع بينهما هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء، ويتعيَّن المصير إليه"[46].
وقال أيضًا: "والصحيح الذي قاله الأكثرون، ويتعيَّن المصير إليه - أنَّه لا نَسْخ، بل يجب الجمع بين الحديثين، وحَمْل الأمر باجتنابه والفرار منه - على الاستحباب والاحتياط، لا للوجوب، وأما الأكل معه ففعله لبيان الجواز"[47].
2 - قال الإمام ابن مفلح: "فيكون قوله: ((لا يورد ممرض على مصح))؛ إرشادًا منه - عليه السلام - إلى الاحتراز"[48].
وقال - عند كلامه على حديث: ((إنا قد بايعناك، فارجع)) -: "ويحتمل أنَّ مراد الإمام أحْمَد أنَّه لا يجب اجتنابه، وإن استُحِبَّ احتياطًا، وهو قول الأكثر، وهو أولى إن شاء الله - تعالى -"[49].
3 - قال الإمام ابن القيِّم: "ولا تعارُض؛ فإنَّ هذا يَدلُّ على جواز الأمْرين، وهذا في حق طائفة، وهذا في حق طائفة، فمَن قَوِي توكُّلُه واعتماده ويقينه من الأمَّة، أخَذ بهذا الحديث، ومَن ضَعُفَ عن ذلك أخذ بالحديث الآخَر، وهذه سُنَّة، وهذه سنة "[50].
وقال: "المنْهِي عنه نوع غير المأذون فيه؛ فإن الذي نفاه النبي - صلى الله عليه وسلَّم - في قوله: ((لا عدوى ولا صفَر)) هو ما كان عليه أهْل الإشْراك من اعتقادهم ثبوتَ ذلك على قياس شِرْكهم وقاعدة كفْرهم، والذي نهَى عنه النبي - صلى الله عليه وسلَّم - من إيراد الممرض على المصح فيه تأويلان:
أحَدُهما: خشية توريط النفوس في نسبة ما عسَى أن يقدِّره الله - تعالى - من ذلك إلى العدْوى، وفيه التشويش على مَن يورد عليه وتعريضه لاعتقاد العدوى، فلا تنافي بينهما بحال.
والتأويل الثَّاني: أنَّ هذا إنما يدلُّ على أنَّ إيراد الممرض على المصح قد يكون سببًا يَخلق الله - تعالى - به فيه المرض، فيكون إيرادُه سببًا، وقد يَصْرِف الله - سبحانه - تأثيره بأسبابٍ تضادُّه أو تَمْنعه قوَّة السَّببية[51]، وهذا محْضُ التوحيد، بخلاف ما كان عليه أهل الشرك"[52].
ولقد استَقصَى الحافظ ابنُ حجر أقوال العلماء المحقِّقين، وذكَر مسالكهم؛ ولنفاسة هذا الجمع سأنقله - مختَصرًا - لتتضح لنا مسالكُ أئمتنا الأعلام، فقال:
"... قال عياض: اختلَفَت الآثار في المَجذوم، فجاء ما تقدَّم عن جابر: "أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أكل مع مجذوم وقال: ((ثقة بالله وتوكُّلاً عليه))، قال: فذهب عمر وجماعة من السَّلَف إلى الأكْل معه، ورأَوْا أنَّ الأمر باجتنابه منسوخ.
وممَّن قال بذلك عيسى بن دينار من المالكيَّة، قال: "والصحيح الذي عليه الأكثر، ويتعيَّن المصير إليه - أنْ لا نسْخ، بل يجب الجمْع بين الحديثين، وحَمْل الأمر باجتنابه والفرارِ منه على الاستحباب والاحتياط، والأكلِ معه على بيان الجواز"؛ اهـ.
هكذا اقتصر القاضي ومَن تَبِعه على حكاية هذين القولين، وحكَى غيرُه قولاً ثالثًا وهو الترجيح، وقد سلَكه فريقان:
أحَدُهما: سلَك ترجيح الأخبار الدالَّة على نفْي العدْوى، وتزييف الأخبار الدالَّة على عكس ذلك، مثل حديث الباب فأعَلُّوه بالشُّذوذ، وبأنَّ عائشة أنكرَتْ ذلك؛ فأخرج الطَّبري عنها "أنَّ امرأة سألَتْها عنه، فقالت: ما قال ذلك، ولكنَّه قال: ((لا عدوى))، وقال: ((فمَن أعْدى الأول؟)) قالت: وكان لي مولًى به هذا الداء، فكان يأكل في صحافي، ويشرب في أقداحي، وينام على فراشي".
وبأنَّ أبا هريرة تردَّد في هذا الحكم كما سيأتي بيانُه، فيؤخَذ الحكمُ من رواية غيره، وبأنَّ الأخبار الواردة من رواية غيره في نفْي العدوى كثيرة شهيرة، بخلاف الأخبار المرخِّصة في ذلك.
ومثل حديث ((لا تُدِيموا النظر إلى المجذومين))، وقد أخرجه ابنُ ماجَهْ، وسنَدُه ضعيف، ومِثل حديث عبدالله بن أبي أَوْفى رفعه: ((كلِّم المجذوم وبينك وبينه قِيد رُمْحَين))؛ أخرجه أبو نعيم في الطبِّ بسند واهٍ، ومثل ما أخرجه الطبريُّ من طريق معمر عن الزهريِّ أنَّ عمر قال لمعيقيب: "اجلس منِّي قِيد رمْح"، ومن طريق خارجة بن زيد كان عمر يقول نحوه، وهما أثَران منقطعان.
وأما حديث الشريد الذي أخرجه مسْلِم، فليس صريحًا في أنَّ ذلك بسبب الجذام، والجواب عن ذلك أنَّ طريق الترجيح لا يُصَار إليها إلاَّ مع تعذُّر الجمع، وهو ممكن، فهو أولى.
الفريق الثاني: سلَكوا في الترجيح عكْسَ هذا المسلك، فرَدُّوا حديث ((لا عدوى)) بأنَّ أبا هريرة رجَع عنه؛ إمَّا لِشَكِّه فيه، وإمَّا لثبوت عكْسه عنده.
والجواب أنَّ طريق الجمع أوْلَى كما تقَدَّم، وأيضًا فحديث ((لا عدوى)) ثبت من غير طريق أبي هريرة، فصَحَّ عن عائشة وابنِ عمر وسعد بن أبي وقَّاص وجابر وغيرهم، فلا معْنى لدَعْوى كونه معلولاً، والله أعلم.
وفي طريق الجمع مسالك أخرى:
أحدها: نفْي العدوى جُمْلة، وحمْل الأمر بالفرار من المجذوم على رعاية خاطر المجذوم؛ لأنَّه إذا رأى الصَّحيح البدن، السليم من الآفة تَعْظم مصيبته، وتزداد حسرته، ونَحْوه حديث ((لا تديموا النظر إلى المجذومين)) فإنَّه محمول على هذا المعنى.
ثانيها: حمْل الخطاب بالنفي والإثبات على حالتين مختلفتين، فحيث جاء ((لا عدوى)) كان المخاطَب بذلك مَن قَوِي يقينه وصحَّ توكُّله، بحيث يستطيع أنْ يَدْفع عن نفسه اعتقادَ العدْوى، كما يستطيع أن يَدْفع التطيُّر الذي يقع في نفْس كلِّ أحد، لكنَّ القويَّ اليقين لا يتأثر به...
وحيث جاء ((فر من المجذوم)) كان المخاطَب بذلك مَن ضعف يقينه[53]، ولم يتمكَّن من تمام التوكُّل، فلا يكون له قوَّة على دَفْع اعتقاد العدْوى، فأُرِيدَ بذلك سَدُّ باب اعتقاد العدوى عنه بألاَّ يباشر ما يكون سببًا لإثباتها.
وقريب من هذا كراهيته - صلَّى الله عليه وسلَّم - الكيَّ مع إذْنه فيه كما تقدَّم تقريره، وقد فعل هو - صلَّى الله عليه وسلَّم - كُلاًّ من الأمرين؛ ليتأسَّى به كلٌّ من الطائفتين.
ثالث المسالك: قال القاضي أبو بكر الباقلاَّنيُّ: إثبات العدْوى في الجذام ونحوه مَخْصوص من عموم نفْي العدوى، قال: فيكون معني قوله: ((لا عدوى))؛ أيْ: إلاَّ من الجذام والبرَص والجرَب مثلاً، قال: فكأنَّه قال لا يعْدِي شيءٌ شيئًا إلاَّ ما تقدَّم تبْيِينِي له أنَّ فيه العدْوى، وقد حَكَى ذلك ابنُ بطَّال.
رابعها: أنَّ الأمر بالفرار من المجذوم ليس من باب العدوى في شيء، بل هو لأمْر طبيعيٍّ، وهو انتقال الدَّاء من جسَدٍ إلى جسد، بواسطة الملامسة والمخالطة وشمِّ الرائحة؛ ولذلك يَقع في كثير من الأمراض - في العادة - انتقالُ الدَّاء من المريض إلى الصحيح بكثرة المخالَطة، وهذه طريقة ابن قُتَيبة، فقال: المجذوم تشتدُّ رائحته حتَّى يسقم مَن أطال مجالسته ومحادثته ومضاجعته...
قال: وأما قوله: ((لا عدوى)) فله معنًى آخَر، وهو أن يقع المرض بمكانٍ كالطَّاعون، فيفرَّ منه مخافةَ أن يصيبه؛ لأنَّ فيه نوعًا من الفرار من قدر الله.
المسلك الخامس: أنَّ المراد بنفي العدوى أنَّ شيئًا لا يعْدي بطبْعه؛ نفْيًا لِمَا كانت الجاهليةُ تعتقده أنَّ الأمْراض تعْدي بطبْعها من غير إضافة إلى الله، فأبطل النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - اعتقادَهم ذلك، وأكَلَ مع المجذوم؛ ليبيِّن لهم أنَّ الله هو الذي يُمْرِض ويَشْفي، ونهاهم عن الدُّنوِّ منه؛ ليبين لهم أنَّ هذا من الأسباب التي أجْرى الله العادة بأنَّها تُفْضِي إلى مسبباتها.
ففي نَهْيِه إثباتُ الأسباب، وفي فعْله إشارةٌ إلى أنَّها لا تستقلُّ، بل الله هو الذي إنْ شاء سلَبها قُوَاها[54]، فلا تؤثِّر شيئًا، وإنْ شاء أبقاها فأثَّرَت.
ويحتمل أيضًا أن يكون أكْلُه - صلى الله عليه وسلَّم - مع المجذوم أنَّه كان به أمْرٌ يسير لا يعْدي مثْلُه في العادة؛ إذْ ليس الجَذْمَى كلُّهم سواء، ولا تحصل العدوى من جميعهم، بل لا يحصل منه في العادة عدْوى أصلاً كالَّذي أصابه شيء من ذلك ووقف فلم يُعْدِ بقيَّة جسْمه فلا يعدي...
قال البيهقي: وأمَّا ما ثبت عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((لا عدوى))، فهو على الوجْه الذي كانوا يَعْتقدونه في الجاهليَّة من إضافة الفعل إلى غير الله - تعالى - وقد يَجْعل الله بمشيئته مخالطةَ الصحيح مَن به شيءٌ من هذه العيوب - سببًا لحدوث ذلك، ولهذا قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فِرَّ من المجذوم فرارَك من الأسد))، وقال: ((لا يورد ممرض على مصحٍّ))، وقال في الطاعون: ((مَن سمع به بأرض فلا يقْدَم عليه)) وكلُّ ذلك بتقدير الله - تعالى.
وتَبِعَه على ذلك ابنُ الصَّلاح في الجمع بين الحديثين، ومَن بعده وطائفةٌ ممَّن قبْلَه.
المسلك السادس: العمل بنفي العدوى أصلاً ورأسًا، وحمْل الأمر بالمجانبة على حَسْم المادة وسدِّ الذريعة؛ لئلاَّ يَحْدث للمخالط شيءٌ من ذلك، فيظنَّ أنه بسبب المخالطة، فيُثْبِت العدوى التي نفَاها الشارع، وإلى هذا القول ذهَب أبو عبيد وتَبِعه جماعة، فقال أبو عبيد: ليس في قوله: ((لا يورد ممرض على مصحٍّ)) إثباتُ العدْوى؛ بل لأنَّ الصِّحاح لو مرضَتْ بتقدير الله - تعالى - ربما وقع في نفْس صاحبها أنَّ ذلك من العدوى، فيفْتَتن ويتشَكَّك في ذلك، فأمَرَ باجتنابه.
قال: وكان بعضُ الناس يَذهب إلى أنَّ الأمر بالاجتناب إنما هو للمخافة على الصَّحيح مِن ذوات العاهة.
قال: وهذا شرُّ ما حُمِل عليه الحديث؛ لأنَّ فيه إثباتَ العدْوى التي نفَاها الشارع، ولكنَّ وجْه الحديث عنْدي ما ذكرْتُه...
وقال الطبريُّ: الصواب عندنا القول بما صحَّ به الخبر، وأنْ لا عدوى، وأنَّه لا يصيب نفْسًا إلا ما كُت
ساحة النقاش