لاقتصاد الخفي:

الظاهرة المسكوت عنها

ما انفكت ظاهرة الاقتصاد الخفي والمعرّفة أيضا بالاقتصاد الهامشي وغير المهيكل والموازي أو تحت الأرضي تتطور بصفة ملحوظة في السنوات الأخيرة وخاصة في البلدان النامية.

وهو اقتصاد يعيش في الظل وغير رسمي بالمفهوم القانوني وغير مصرّح به ولا يخضع لرقابة الدولة ومصالح الجبابة ويشمل الأنشطة غير المشروعة والمحرمة كالمتاجرة في المخدرات وتجارة السلاح والدعارة والسرقة والانشطة المولّدة للدخل ولا تحسب في الناتج الداخلي الخام المضاربات وتجارة العملة والتهرب الجبائي والعمالة غير المصرح بها.
وهو قطاع غير معروف بما فيه الكفاية، متعدد الأنشطة، متحرّك، ديناميكي ويمتاز بالمرونة، لا يعترف بالتشريعات والقوانين وضوابط المعاملات الرسمية ويستعصي على الهياكل الرقابية.
ويمثل هذا النوع من الاقتصاد المستتر والخفي نسبة عالية من الاقتصاد العام للدولة بحيث أثبتت الدراسات المنبثقة عن صندوق النقـد الدولـي ان الاقتصـاد الخفـي له حجم يقـدر بنسبة تتراوح بين 35 و 44 من إجمالي الناتج الداخلي الخام بالنسبة للبلدان النامية وبين 14 و 46 بالنسبة للبلدان المتقدمة.
وهكذا نرى ان الاقتصاد الخفي له وزن كبير ودور معتبر في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للدول وخاصة منها الدول النامية وبات متأكدا حصر الظاهرة بدقة والتعامل معها وكأنها واقعا ملموسا وادماجها في المنظومة الرسمية إن كانت مشروعة وغير محرّمة.
وأسباب تفشّي هذه الظاهرة عديدة بتعدد مسمياتها وعناصرها وظروف نشأتها ومن أهمها نذكر بالخصوص:
ـ النزوح من الريف الى المدينة:
بعد انتشار التعليم واهتمام الدولة بالتصنيع وقطاع الخدمات، أصبح القطاع الفلاحي غير قادر على استيعاب اليد العاملة غير المدربة والمتخرجة من المدارس الثانوية ذات تعليم عام وغير متخصص وهكذا توافدت اعداد كبيرة على المدن بحثا عن العمل.
وقد تفاقمت الظاهرة مع التوجهات الاقتصادية المعتنقة لسياسة السوق والتحرر الاقتصادي.
ـ سياسة الانفتاح الاقتصادي وإعادة الهيكلة:
التطورات العالمية حثت الدول النامية على التوجه نحو رسم سياسة انفتاحية قوامها السوق والمنافسة الحرة مما انجر عنه التخلي عن القطاع الفلاحي وافلاس كثير من الشركات التي كانت محمية من الدولة فتم تسريح العمال واغلاق الشركات التي اصبحت ربحيتها منعدمة.
وهذا الامر يجعل من النشاط الموازي والخفي ضرورة ملحة لكسب الرزق دون البحث عن المشروعية او الرسمية وكأن الضرورات تبيح المحظورات في حالتنا هذه.
وهكذا أفرزت سياسة الانفتاح نتائج سلبية بتطور الاقتصاد الخفي وانتشاره الواسع في جميع الانشطة واصبحت الظاهرة عبئا على الدولة ومنفلتة ويصعب على الدوائر الرسمية مراقبتها والتعامل معها.
ـ الأنظمة السياسية غير العادلة:
في كثير من البلدان النامية تغيب العدالة الاجتماعية بين الافراد وتكثر المحاباة والمحسوبية وتهمّش فئات دون غيرها وتكثر المحاصصة والاقصاء فيجد الكثيرون انفسهم خارج القانون والعرف فيتلقفهم القطاع الخفي ويستوعبهم وهم في الغالب مضطرّون الى ذلك.
ـ ظهور الفساد الاداري والمالي:
الفساد الذي ينخر بعض البلدان وينجرّ عنه عدم كفاءة المؤسسات والمشاريع وانعدام المنافسة النزيهة يولّد الافلاس والاحباط والتخفي وتعدد النشاطات المحرّمة والتهرب الضريبي وتبييض الاموال والمتاجرة في الممنوعات مع عدم كفاءة أجهزة المراقبة لإنتشار الرشوة والمحسوبية.
ـ ارتفاع نسبة مساهمة الأفراد في الضمان الاجتماعي والتأمينات الاجتماعية:
ان الارتفاع المشط في نسبة المساهمات في قطاع الضمان الاجتماعي وتشدد شروط الانتفاع بالخدمات يؤدي الى التهرب من التصريح بكامل المبلغ المدفوع وتسجيل جميع العملة المتواجدين بالمؤسسة.
ـ الأجور الضعيفة التي لا تناسب مستوى المعيشة:
التقشف في الاجور الممنوحة للعمال وتطور اسعار السلع الاستهلاكية والخدمات تدفع الاجراء الى البحث عن موارد اخرى تساعدهم في مواجهة الغلاء وانخفاض المقدرة الشرائية وما انتشار الدروس الخصوصية مثلا لخير دليل على ما نقول.
وكثير من الافراد يعملون أعمالا موازية ومتعددة في آن واحد والمراقبة تغمض عينيها لصعوبة التقصي والبحث أو لوجود عراقيل ادارية ومحاباة.
ـ الفجوة بين متطلبات سوق الشغل وما تنتجه مؤسسات التعليم:
تنتج مؤسسات التعليم كوادر واطارات بعيدة كل البعد عن متطلبات سوق الشغل وخاصة التي تنتمي للجيل الجديد من المؤسسات ذات أبعاد تكنولوجية متطورة والتصرف فيها حسب نمط جديد من المهارات والتفاعلية.
فالمدرسة مازالت بحكم العراقيل الهيكلية لم تتخلص منها بعد تجعلها تقدّم النظري على التطبيقي والطالب في القسم مفعول به وليس فاعلا بحيث ليس هناك مبادرة ولا تفاعل ولا خلق.
والدليل على ما نقول، كم هي البحوث الجامعية التي تجد التطبيق الفعلي على أرض الواقع وكم هي البحوث التي غيّرت الواقع الى مستوى أعلى؟
فالمؤسسة مازالت لا تعترف أصلا بالبحث العلمي ولا تقدّره وهي رهينة هيكلية جامدة ومحنّطة والمرجع شخص واحد يأمر وينهي وكأننا في عهد السلاطين والباشوات.
ـ تفشي البطالة المقنعة:
لقد تفشت ظاهرة البيع والشراء وابرام الصفقات بمراكز العمل والسمسرة وذلك لوجود بطالة مقنعة بحيث لا يعمل الفرد الا نسبة قليلة من الوقت، وهذا الامر يساهم بالطبع في تفشي ظاهرة الاقتصاد الخفي.
ـ تعقد الاجراءات الادارية والتنظيمية:
كلما كثرت العراقيل وتعددت الإجراءات وارتفعت الرسوم الا وكثرت الاعمال الخفية والرشاوى.
ومن ميزات الاقتصاد الخفي البساطة في التعامل والإجراءات بحيث كلمة واحدة تكفي فلا عقود ولا تسجيلات ولا رسوم تذكر.
الاقتصاد الخفي رغم ما له من مزايا متمثلة بالخصوص في الحد من البطالة المنتشرة الآن في جميع البلدان النامية كالنار في الهشيم ومعالجة بعض الضغط عن الدول من الناحية الاجتماعية والاقتصادية بحيث يعتبر هذا النمط الاقتصادي متنفسا ومن فعل «للضرورة احكام»  فإن سلبياته عديدة نذكر منها بالخصوص:
ـ  تدني حصيلة الضرائب:
فبحكم أن الانشطة الموازية لا يقع التصريح بها فهي لا تدخل ضمن ما يصرّح به لإدارة الضرائب.
وهذا الامر يعد خسارة كبيرة للدولة بحيث نقل الموارد التي هي عماد الاقتصاد العمومي.
كما انه يصعب على الهياكل الرقابية متابعة الامر وحصره بكل شمولية نظرا  للكلفة العالية لهذه العملية لهذا تتبع الادارة العشوائية والانتقاء.
ـ غياب المعلومات الدقيقة:
بما ان الاقتصاد الخفي يمثل ما يقارب 40 من الناتج الداخلي الخام وهذه نسبة لا يستهان بها فإن المعلومات حول النشاط الاقتصادي تكون مشوّشة وغير صادقة ولا يمكن بالتالي وضع خطط سليمة وناجحة للمستقبل.
فالنشاط الاقتصادي الخفي لا يدخل في الحساب لأنه غير معترف به ولا يدخل ضمن القنوات الرسمية ولا يمكن الاعتماد عليه عند ضبط السياسات والتخطيطات والموازنات وهو بالتالي خارج عن الموضوع.
ـ الأثر السلبي على الاقتصاد:
بما ان الاقتصاد الخفي غير مستقر وغير ثابت ولا يمكن تحديده والتحكم فيه فهو يعدّ عائقا امام الاقتصاد الرسمي والمعترف به ويعتبر مزاحمة غير شريفة له.
فكثير هي القطاعات التي تضررت من انتشار هذه  الظاهرة  التي عمّها الكساد والإفلاس والاضمحلال.
إذ أن التكلفة المنخفضة للعمل الخفي تجعله في مزاحمة تفاضلية مع النشاط المعلن الذي يدفع الضرائب وكراء المحل وغيره من المصاريف الضرورية.
ـ الأثر السلبي على المجتمع:
كثيرة هي النشاطات الممنوعة التي تدخل ضمن الاقتصاد الخفي كتجارة المخدرات والدعارة وتبييض الاموال والرشوة والفساد ولها مضار على المجتمع بحيث تترك أثرا سلبيا في الناشئة وفي المعاملات بين الأفراد وأمراضا مستعصية كالإدمان والسرقة.
والشباب يعتبر الفئة المتأثرة بهذاالنشاط المحرّم لحبه للمغامرة والإندفاع والبحث عن الجديد حتى وان كان فيه مضرّة وخسارة.
ولمعالجة هذه الظاهرة التي بدأت تستفحل وتهيمن على الاقتصاد وتؤثر سلبا على المجتمع إعداد خطة على مراحل:
ـ دراسة هذه الظاهرة واحصائها:
ان الكشف عن هذه الظاهرة وتحديد معالمها واحصاء نشاطاتها وضبطها وحصرها تعد الخطوة الأولى الضرورية للتعامل معها بإيجابية.
ـ العمل على ادماج النشاطات المشروعة في النسيج الاقتصادي:
يجب ادماج العناصر الناشطة في هذا القطاع المهمّش بتسهيل الاجراءات امامها للدخول في نطاق الرسمية والعلنية ومنحها مزايا جبائية وأماكن للإنتصاب محددة وبأسعار رمزية.
ـ محاربة الفساد:
الفساد مرض خطير ينخر المجتمعات ولابد من محاربته والحد من خطورته باتباع النزاهة والشفافية والعقاب الرادع.
ـ محاربة الجريمة المنظمة:
كثرت الجرائم المتعلقة بالمخدرات والسرقة وهذا يعدّ مؤشرا سلبيا لجنوح فئات من الشباب الى الاعمال الخارجة عن القانون بحكم البطالة المتفشية وتغير في العقلية ونمط الحياة والبحث عن الربح السريع ولو كان محرّما.
فالوازع الاخلاقي في اضمحلال بعد ان تخلّت العائلة عن وظيفتها التقليدية واصبح الشارع والمنافذ الرقمية والهوائية المعلّم الاول للناشئة.
ـ التخفيض في نسب الضرائب والمساهمات:
ان النسب المرتفعة في الضرائب والاقتطاعات والمساهمات وتكاليف الانتصاب لا تساعد على بعث المشاريع وخاصة البسيطة منها.
ولهذا يجب تبسيط اجراءات بعث المشاريع وتقديم الدعم الكامل ماديا ومعنويا مع الاحاطة والتوجيه اللازمين ومنحهم امتيازات جبائية وخاصة في المرحلة الاولى.
ـ  الحد من البطالة:
ان البطالة تعدّ السبّب الرئيسي في تطور ظاهرة الاقتصاد الخفي لأن الذي لا يجد عملا يشغله عن ما هو سلبي ومنحرف يستوعبه الاقتصاد الخفي لما فيه من سهولة في الاجراءات وزهادة في التكلفة وقدرة على المرونة والتكيّف.
ـ محاربة التهرب الضريبي:
لا تعيش الدولة الا من الجباية التي هي واجب على جميع الانشطة والأفراد حتى تؤدي دورها كاملا إزاء المجتمع.
والمتابع لهذه المسألة يلاحظ ان هناك تهربا من آداء هذا الواجب أو آدائه ناقصا كما لا تعوز الحيلة اصحاب النوايا السيئة ويبقى الأجراء  هم من يتحملون العبء الوافر ولا يمكنهم التفصي من هذا الواجب.
وخلاصة القول ان الاقتصاد الخفي ظاهرة منتشرة في جميع البلدان وبالخصوص في البلدان النامية ويتعايش بصفة مستمرة مع الاقتصاد الرسمي ويزاحمه ويؤثر عليه والخوف كل الخوف ان يكون مسكوتا عنه لأنه رغم سلبياته العديدة يزيح بعض الضغوط عن كاهل الدولة وخاصة من ناحية البطالة، كما يدرّ أموالا طائلة على من له النفوذ والمصلحة.
وبات بالتالي من الضروري ادماج الاقتصاد الخفي في المنظومة الرسمية حتى يعمّ  الخير على الجميع وتظهر النشاطات  الى النور ولا تبقى رهينة الزوايا المظلمة حيث الجريمة والفساد.

عز الدين مبارك
© 2009 جريدة الشعــــــب - جميع الحقوق محفوظة
المصدر: الشعب التونسية ديسمبر 2009
  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 275 مشاهدة
نشرت فى 25 سبتمبر 2010 بواسطة INGFO-EZ

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

11,204