سبيلُ الواقعِ إلى التخييلِ
في نصوص حسن حجازي
لئن كانت اللغةُ شريعةَ الشعراء ومنفذَهم إلى الهواءِ الصَفيِّ الذي يُخفِّفون به من لَفْحِ حُمّى جَدِّهم المتنبّي، فإنّ علاقتَهم بها بقيتْ محكومةً ببعضِ التوتُّرِ حينًا حيث يكثُرُ فيها الجَذْبُ نحوَ استسهالِ تَعاطِيها وما ينجرُّ عنه من إسهالٍ في معانيها، وحينًا آخر يحكمُها بعضُ تواصُلٍ حميمٍ حَميمٍ حتى لَكأنّه عِنَاقُ وَداعٍ دامعٍ بين الذّاتِ الشاعرةِ والمعنى المُنْجَزِ يُخيَّلُ لنا معه أنّ الشاعرَ كتبَ قصيدتَه كما لو كان سيمضي إلى حتفِه في المجهولِ. ولأنّ أمرَ اللغةِ مع الشعراء على ما وصَّفْنا، فإنَّ بعضَ المبدعين اختاروا لهم منزلةً بين المنزلتَيْن: فلا هم ينزلون بالمعنى إلى حضيضِ التأويلِ ولا هم يتصوَّفون فيه حتى يستغلِقَ على فهمِ المتلقّي. ولعلّ الشاعرَ المصريَّ حسن حجازي واحدٌ من هؤلاء، حيث تَشي نصوصُه في جميع مجموعاته الشعريّة بكونِه اعتنَقَ اللغةَ مذهبًا فذهبَ في عبادَتِها مذاهبَ فنيّةً فاضتْ فيها أريحيّاتُه عن اللَّفْظِ وكادت تصيِّرُهُ تَنّورًا يهيجُ بأعشابِ روحِه النُّورانيّةِ في شعابِ الأرضِ ومفازاتِها.
وبعد أنْ وزّعَ حسن حجازي جهودَه الفكريّةَ صنفيْن: صِنفًا إبداعيًّا شعريًّا وصنفًا إبداعيًّا خصّصه لترجمة أشعارٍ عالميّةٍ، تمكّن من التموقع في فضاءات مشهدنا الثقافيّ المصريِّ والعربيّ والعالميِّ تموقُعًا متبصِّرًا بأشراطِ الوجودِ التخييليِّ وقوانينِ الوجودِ الفيزيائيِّ، وهو أمرٌ سهّل عليه تجسيرَ علائقِ ذاتِه الفنيّةِ مع مجموعةٍ من القِيَمِ التي انعقدَ عليها مشروعُه الشعريُّ مثل الحُبِّ والعدلِ والحريّةِ والتسامُحِ:
والشعرُ إلهامى وفني
عذبني أضاعَ العمرَ
مني (قصيدة: هي ...والشعر)
إنّ رِغْبةَ وُلوجِ عالَمِ حسن حجازي الشِّعريِّ تبقى مِلْحاحةً نظرًا إلى ما يمكنُ أن تصيرَ إليه من مُغامرةٍ في المعنى مليئةٍ بالتجاوُزِ. وهي مغامرةٌ يَغْشَى فيها المتلقّي، منذُ عتباتِ النصوصِ، شيءٌ من الدَّيْخُوخةِ التي تُفرِغُه من تصوُّراتِه المألوفةِ عن العالَمِ بأشيائه وكائناتِه وترمي به في أَتُّونِ الإدهاشِ حيث تنفتحَ أمامَه أبوابُ المُمْكنِ ويتورَّطَ في تَجْرُبةِ الكشفِ الدَّلاليِّ حتى تنكشِفَ فيه مكنوناتُه ويتعرّى من صمتِه وتَشْتو فيه معانيه فَيْضًا هادِرًا، يتحوّلُ فيه إلى مُنْتجٍ لنصوصِ هذا الشاعرِ بالقوّةِ تحليلاً وتأويلاً.
إنّ نِظرةً في متنِ هذه المجموعة يُحيلُنا إلى شغفِ حسن حجازي بتوصيف تفاصيلِ المعيش اليوميِّ سعيًا منه إلى الارتقاء بطينِ الواقع من مرارته إلى ألقِ التخييلِ ولذاذتِه. فهو يتخذ إلى الواقع سبيلَ التفكيكِ والتعريةِ يتغيَّا من وراء ذلك طرحَ مجموعة من الأسئلةِ التي تعانِقُ الإنسانَ في بساطتِه وفي تشابك علائقِه مع عناصر محيطِه. وإذْ يفعل ذلك، يحشُرُ القارئَ في مشهديّةٍ أليمةٍ يكون بطلها ورائيها، لكأنّ كلَّ قصيدةٍ من هذه المجموعة هي مرآةٌ تتمرأى عليها مسكوتاتُ القارئِ بجميعِ أبعادِها ومن جميع زوايا النّظر الممكنةِ. فعين الشاعر حسن حجازي، تُجيدُ مسحَ المرئيّاتِ مسحًا لا يُغفِلُ أدقَّ التفاصيلِ فيها:
قطعت سكونَ الليل ِ
قهقهةُ امرأة ٍ مخمورة
يقبلها رجلٌ مخمور
يعريها يحضنها
يقتلها فى دمه
نسيا إغلاق َ الشرفة
فأغلقَ هو شرفتهُ
وبكى فى يأس ٍ
وحدتهُ
(قصيدة : في المدينة)
وفي ختام هذه التوطئة، نزعم أنّ قارئًا لنصوص الشاعر حسن حجازي يُلفي فيها أغلبَ آفاقِ انتظاراتِه من كلِّ فعلٍ إبداعيٍّ، لا بل إنّ هذه النصوصَ الشعريّةَ، وهي تمتَحُ عجينتَها الأولى من لَحْمةِ الواقعِ، لن تُخيِّبَ ظنَّ مُتلقّيها في دفءٍ لغويٍّ مليءٍ بالصِّدْقِ القوليِّ.
بقلم:
د/عبد الدائم السلامي
* باحث جامعي من تونس
ساحة النقاش