<!--<!--<!--<!--
قراءة تحليلية في ديوان "التي في خاطري" للشاعر المصري حسن حجازي.
هنا كما الهناك المتوسطي, حيث الأرض تزهر برتقالا, و زيتونا وكستناء و حيث البحر يرزق الناس خيرا كثيرا و السماء تغطي بحنو جبالا تتزيّنُ زرابيها بأكاليل الآزير الخضراء, وأغصان الزعتر البرّي, وحيث السهول تتسربل بأغطية من الخزامى, و من إبر الراعي, و زهور الأيهقان والأقحوان. هنا بإيطاليا, حيث الناس يتحدّثون لغة أخرى تبنّيتُها بقلبي أختا للعربية , لغتي الأم , مازال الحرف يُمارس بين ثنايا الفؤاد سحره و مازالت الكلمات تُمطر بصدري أصواتا تجذبني من أرض إلى أخرى, رغما عن البحار و الجبال التي تفصلني بين الهنا الإيطالي و الهناك العربي المصري و مازالت أبجدية الفرقان تئنّ بداخلي و تقذف بي إلى أماكن رأيتُ على تراب بعضها النور, وقرأتُ عن بعضها الآخر في خواطر و همسات الأدب العالمي و حدّثني التاريخ عن بعضها الثالث و عن أنبيائه و قديسيه, عن ملوكه و أهراماته عبر رَحِم كنتُ ولا أزال أسمعُ بداخله أصواتا تحبلُ نبراتها بآهات أناس طهّرتها مياه النيل وصيّرتْ آلامها آمالا,و أحلامها قصائدا سَمَتْ بها الأرواح و استحضرتِ الظّاهرَ و الباطنَ من قلوب أبناء أقاموا ل"مصر" بأفئدتهم و خواطرهم محرابا أزهرَ حبّا و عشقا امتدت أغصانه حتى عانقت الأمة العربية وجعلت منها أرضا و وطنا آخر أكبر هو بمثابة أُمّ لجميع العرب على اختلاف انتماءاتهم الجغرافية و الدينية و الفكرية من المحيط إلى الخليج, و هي ذاتها فكرة الحب التي يتمحور حولها "التي في خاطري", أو ديوان الشاعر المصري المعاصر "حسن حجازي" موضوع هذه الدراسة و المستوحى عنوانه من قصيدة الشاعر الكبير "أحمد رامي", "مصر التي في خاطري" و التي كانت قد غنّتها سيدة الغناء العربي "أم كلثوم" سنة 1952. عنوانُ حُبلتْ كلماته بشتى المعاني و الإيحاءات القوية, كلماتٌ فيها عبق وعطر من التاريخ المصري القريب و دمع و آهة على التاريخ المعاصر, "فمصر التي في خاطري" كمنظومة لغوية, ليست أبدا ك "التي في خاطري", فالفرق بينهما بيّن و كبير, و البون بين الفترة التاريخية التي أفرزت الأولى و الظروف التي أفرزت الثانية شاسع ولاحدّ لها, فبالأمس القريب و بالذات في الخمسينيات, كانت "مصر" مهدا للحلم العربي الكبير و تبنّت أكثر قضايا الأمة تعقيدا و استعصاء رابطة آنذاك مصيرها بمصير شعوب الأمة العربية, أما اليوم ورغم الاحتواء الذي تشير إليه لوحة الغلاف, إلا أنّها أمُّ ُ تحبطها الظروف الحالية و الأزمات بشكل يجعل قلبها يحترق حد الموت, قلبها الذي يحاول بكل ما يملك من قوة الانطلاق عساه يصل إلى برّ يضمن فيه لكلّ فلذات الكبد, الأمن و السلام من مغبات الزمن و غدرالأعداء المحيط به من كل جانب.
دلالة الأم, "مصر" و "الأمة العربية" , ليست حاضرة فقط بلوحة الفنان الكردي " فهمي بالايي" التي اختارها "حسن حجازي" لغلاف ديوانه و لكنها حاضرة أيضا في الإهداء, فالديوان و ما يحمل من أنين و ألم و غضب هو لأمّه الوالدة في دار البقاء و ل"مصر" و "الأمة العربية" كلتاهما في دار الفناء.
ب "التي في خاطري" ودّع الشاعر العام الماضي و استقبل ال 2010, و مرّ عام و حلّ آخر و"مصر" لاتزال حلقة من حلقات الصراع الدولي و لايزال العديد من أبنائها يؤمنون بمبادئ ثورة يوليو و يعتبرون أن الدول التي ترغب في النهوض عليها أن تتحمل مسئولية دعم الدول الأقل حظاً، ولكن هل هذا ياترى ممكن في ظل الظروف الاقتصادية القاهرة التي تمرّ بها العديد من شعوب دول العالم , هل هذا ياترى مقدور عليه في ظل الهم السياسي الذي يجثم على صدر العديد من أبناء الأمة العربية و الشاعر بقصائد ديوانه هذا صوت من أصواتها؟
"هنا الدويقة", أولى قصائد هذا الديوان الذي يضم بين دفتيه في ترتيب متعمّد و مقصود إثني وثلاثين نصا شعريا, تحمل الجواب عن هذا التساؤل, "هنا الدويقة" و هي القصيدة التي ترجمتُها إلى اللغة الإيطالية و نَشَرتْها "كليبسيدرا" ضمن ديوان رقمي وُسم ب "همسات من وراء البحر", ستبقى للأجيال التي ستأتي بعدنا ليس كصرخة شاعر فقط و لكن كوثيقة تاريخية في غاية الأهمية, لأنها سجلت بعدسة وثائقية تفاصيل الكارثة التي ذهب ضحيتها العديد من الأبرياء بسبب الإهمال و تجاهل تقارير الخبراء الذين كانوا قد حذروا سابقا من عواقب بناء المنازل في هذه المنطقة ذات الصخور الرخوة القابلة للانهيار .
القصيدة الوثيقة, تندّد بكل هذا وتبعث رسالة استغاثة إلى كل مناطق العالم وبكل لغات الأرض فهي نداء كما يقول الشاعر:
"لمنظمة الأمم
للجامعة العربية
للجان الثورية
للمجالس المحلية
المركزية"
فهل من مجيب لصوته الذي يتوحّد مع أصوات المقهورين في كل مناطق المحن, في "المقابر", و "المخيمات", في منازل "الصفيح" و" العراء" , في "دير ياسين" و في "كربلاء"؟ ليس ثمة من مجيب, وما أشبه صمت اليوم بالأمس !
يقفز الشاعر بين نصوصه, وينتقل بأصبعه من دُمّل إلى آخر, ينكأ الجراح و يصل إلى أكثرها إيلاما, فينزف قلمه وهو يحكي عن مصاب "غزة" و "القدس" الجلل وسط عجز و صمت الجميع في قصائد تتصدع لها الأحجار ولاتهتز لها بعض من قلوب بشر عُجنت بماء شيطان جائر.
"حسن حجازي", في نصوصه المكتوبة بلغة بسيطة في زمن تتلكأ فيه الأقلام و تكتب أشياء تستعصي عن فهم البسطاء من الناس, يحكي لهم عن "فلسطين" و عن الخذلان العربي, وعن الفساد السياسي إلا أنه لا ينسى أن يحكي لهم عن حزن القمر عبر نص غاية في الروعة أسماه, "وانشق القمر" , أجل فالقمر يحزن و يألم لما يصيب الناس من قساوة في القلب و من جحود أودى بهم إلى إغلاق كل مسار وطريق تجاه الحوار و الصلح و المشاورة. فلا أمل, و القضايا المصيرية ستبقى معلّقة إلى أجل غير مسمّى.
حركات النصوص بالديوان لولوبية, "مصر" وقضاياها مركز انطلاقها و "فلسطين" و آلامها نقطة وصولها, و بين النص والآخر سفر دائري, و بينه و بين الخارج علاقة وشيجة, فهذه قضية "المعابر" وتلك قضية "حماس" , وهذا "الصقر/مصر", وتلك "طابا" و رسائلها المغرقة في الأمل و الرغبة في التغيير:
"من طابا
لدير سانتِ كاترين ,
من قلعةِ صلاح الدين
للأزهر
للحسين ,
من جزيرةِ الفرعون
لمسجدِ السلطان حسن
وأهل بور سعيد
الطيبين ,
لمصنع أبي زعبل
لمدرسة بحر البقر
لحي الغريب
للأربعين :
نحنُ من مصر
وبمصر
ولمصر
بكلِ الود
بكلِ الحب
وبكل الحنين
أوفياءٌ
على مر
السنين !"
فهل ياترى أثّرث هذه العلاقة بين الداخل و الخارج على جمالية الديوان و فنيته الأدبية؟ هل نجح "حسن حجازي" في تذويب الشعري في السياسي؟ وهل الانشغال بالهم السياسي أصاب الكتابة الشعرية داخل الديوان بتحجّر و تعقّد الفعل الإبداعي؟ ثمة من يقول أنه كلّما اشتغل الشاعر بالسياسي, كلّما كفّت نصوصه عن أن تكون شعرا... هذا ربما يكون صحيحا إلى حدّ ما, إذا كان الهم السياسي هو المتحكم في لحظة الإبداع و الإلهام, إلا أن الأصح هو أن يكون الشعر من يجتذب الواقع السياسي و هي استضافة لايمكنها أن تتحقق إلا إذا فتحت الذات الشاعرة معابرها نحو اللغة. والشعر بغض النظر عن النظرية الآنفة الذكر, يبقى دائما أكبر و أسمى من أي حدث, تاريخيا كان أم سياسيا, والصلة بينهما تبقى قائمة دائما على التعارض و الصراع و هي معادلة توفَّقَ في حلّها الشاعر داخل ديوانه عندما تبنّى لترتيب قصائده استراتيجية فنية, اتبعت المنهج الهرمي الانفراجي, أي أنه بدأ من القمة و انفرج كلّما اقترب إلى القاعدة, أو بتعبير آخر, بدأ بالنصوص ذات المواضيع التي هزّت المواطن المصري بشكل أشد إيلاما وحدّة, كقضية "الدويقة" و "المعابر" و "غزة" و" القدس" كي يتطرّق بعد ذلك إلى تلك التي تبشر بالأمل و الفرج كالقصائد التي خصصها إلى "طابا" و يبلغ الانفراج ذروته حينما يختم ديوانه بقصائد حب في غاية الجمال و الرومانسية. وحدها هذه الاستراتيجية تُظهر للقارئ بأن الشعر دائما هو المنتصر و هو الذي عليه أن يحلّ مشكلة الصراع بين الإبداع الأدبي و الحدث السياسي بشكل يجعل الحدث هو الخاضع للشعر و ليس العكس و هذا ما تشهد به بعض من قصائد الديوان الأخيرة حينما يقول الشاعر في أروعها, "التقويم" :
كلما امتدت أيدينا
لنقطفَ وريقة
تمنينا أن يقف معها
العمر ,
عند لونٍ أبيض
بلونِ الطهر ,
يومٌ
كم تضاحكَ لنا
فيهِ الزهر ,
كانَ ميلادُ حبك
يوماً
بكلِ أيامِ العمر ,
ليتَ الزمنَ توقف
ونَمَت وريقاتُ التقويم
كلُ وريقة نُقِشَ عليها
ميلادُ حبك ,
تذكرني أيامَ الشبابِ
أيامَ وصلك ,
كلُ وردةٍ حمراء
تنمو مع إطلالةِ
الربيع
مكتوبٌ عليها :
"سأبقى طولَ العمر
أحبك !"
ونترك التقويمَ
واقفا
متجمداً
هائماً
ذاكراً هذا اليوم
ناسكاً
في محرابِ
وجدِك ,
يحسبُ مرور الفصول
ويعُدُ الشعيرات البيض
واقفاً
متذكراً
ودمعة ساخنة
تحنُ
لهذا اليوم
لذكرى ودادك
ووصلِك !
تُرى لو تناسينا التقويمَ
وحسابَ السنين ؟
أيحفظُ الدهرُ لنا
ميلادَ حبك ؟!
بقلم :
د. أسماء غريب
إيطاليا
ساحة النقاش