جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
إن البلاد الإسلامية ومنذ أوائل الستينات اجتاحتها موجه عن التنظيم الاقتصادي والتخطيط الاقتصادي، وإلى جانبها دعاية واسعة لما يسمى بالاشتراكية وما يسمى بالعدالة الاجتماعية. وصار المسؤولون وأهل الرأي يحاولون رسم سياسة اقتصادية للبلاد، ووضع تخطيط اقتصادي لزيادة الدخل الأهلي، وللأخذ بالاشتراكية والعدالة الاجتماعية. ولا شك أن المتتبعين للحوادث السياسية وسير العلاقات الدولية يدركون أن تلك الموجة وما رافقها من دعاية لم تكن نتيجة إحساسٍ طبيعي في البلد بالحاجة إلى التخطيط الاقتصاد والتنمية الاقتصادية، أو شعور مثير بالظلم الاقتصادي في المجتمع بقدر ما كانت توجيهاً متعمداً من الدول الرأسمالية الكبرى وخاصة أميركا، وذلك لتغيير أسلوب الاستعمار بعد أن انكشف عواره، وللإبقاء على النظام الرأسمالي مطبقاً على البلاد بعد أن برز فساده. ففكرت أميركا بأنه لا سبيل إلى الاحتفاظ بالاستعمار إلا بتغيير أسلوبه، ولا سبيل لأخذ المستعمرات لها من باقي الدول المستعمرة إلا بهذا الأسلوب الجديد. كانت الدول المستعمرة وبحكم سيطرتها العسكرية، تستغل البلاد الإسلامية استغلالاً مباشراً، ناهبةً خيراتها، جاعلةً منها سوقاً لتصريف فائض إنتاجها... أما الأسلوب الأميركي الجديد فبرز بملاحقة الدول المستعمرة ـ إنجلترا، فرنسا، بلجيكا، هولندا، البرتغال ـ لانتزاع مستعمراتها منها عن طريق إعطاء هذه المستعمرات استقلالها. فَمَدَّتها بالمعونات والمساعدات العسكرية والمالية وقدمت تغطية دولية لتمردها على الدول المستعمرة، فكانت تحركات هيئة الأمم ضد إنجلترا في إفريقية، وحوادث إريانا الغربية التي أدت إلى ضمها لإندونيسيا، وسلسلة الثورات والانقلابات في البلاد الإسلامية. بعد نيل البلاد المستعمرة لاستقلالها، بدأت أميركا تفرض سيطرتها عليها بواسطة القروض والمساعدات، والبلد الذي يمتنع عن أخذ القروض تثير أميركا فيه القلاقل، وتوجد له المتاعب حتى تخضعه لها فتضطره لأخذ القروض منها. كما حصل مع إندونيسيا، فإنها حين استقلت سنة 1947 امتنعت عن أخذ القروض من أميركا في أول الأمر مما جعل أميركا تثير ضدها الثورات والقلاقل إلى أن خضعت سنة 1958 فارتبطت بأميركا بالقروض والمساعدات. كذلك رفضت المكسيك أخذ القروض على شروط البنك الدولي، فما كان إلا أن حدث انقلاب أُغْرِقَتِ المكسيك على أثره بالديون. غير أن أخذ الدولة المستقلة للقروض على شكل يربطها بأميركا لا بد أن توجد مبررات لأخذها ومن أجل ذلك أوجدوا الرأي العام عن التخطيط الاقتصادي التنمية الاقتصادية في البلاد التي كانت مستعمرة أو تحت النفوذ الغربي لإيجاد حافز عند أهل البلاد لرسم المخططات الاقتصادية والتنمية الاقتصادية، وكان التخطيط الاقتصادي بمعظمه مطبقاً تبعاً لتوجيهات هيئة الأمم والبنك الدولي، والمناهج المستعملة لاختيار الاستثمار مستوحاة هي نفسها من الكتيبات الموضوعة من قبل الأمم المتحدة أو البنك الدولي. إن القروض الأميركية بدأت ثنائياً بين أميركا والدول النامية غبر الأكسيمبنك 1934 (The Eximbank) الذي حدد سياسته كما جاء أمام لجنة الأعمال المصرفية والنقد 1940: "إِن كل دولار مُقْرَضٍ يجب أن ينفق في الولايات المتحدة". وفي سنة 1940 أنشأ بنك عموم أميركا وذلك بطلب قدمه رئيس الولايات المتحدة إلى مجلس الشيوخ وأعلن إذ ذاك "إن هدف بنك عموم أميركا هو استخدام الدولارات لكسب حلفاء لصالح الولايات المتحدة". ثم شهدت سنة 1944 ولادة البنك الدولي في أميركا وبرعاية روزفلت نفسه. واختير رئيس البنك ومساعد الرئيس والمدير التنفيذي من رجال المصارف الأميركية. كما أن الحصة الأكبر (الكوتا) في هذا البنك للولايات المتحدة، تليها إنجلترا. وعليه للولايات المتحدة حق النقض (فيتو) كامتياز عن بقية الدول المشاركة. وبعد، ماذا حدث عند قبول دولة ما بمساعدة أو دين: أولاً: المساعدات العسكرية يتبعها لزاماً تبعية للدولة المصدرة إذ أنَّ نقصاً في قطع الغيار يشلُّ قدرات الدولة العسكرية أي يهدد أمنها. كما أنَّه عادةً ما يرسل المستشارون والخبراء كجزء من المساعدات العسكرية يتبع ذلك تغلغل في صفوف الجيش وكسب العملاء، كما حدث في إيران حيث وصل عدد المستشارين إلى المئات وتجري مساعدات الدولة لعقد صفقات خاصة لتحديث ما قُدِّم لها كمساعدة وللشعور بالحاجة لتدعيم أمنها بوجود المتغيرات الخارجية والداخلية. ففي سنة 1949 بلغت قيمة المساعدات العسكرية لإيران مليار دولار، تبع ذلك في سنة 1950 شراء إيران ما قيمته 66 مليون دولار من الأسلحة وأخذت واردات الأسلحة بالنمو سنوياً فوصلت 105,7 مليون دولار سنة 1956 و465,7 مليون دولار سنة 1968 و2,01 مليار دولار سنة 1973 أي في عام واحد اشترت إيران ما يقدر بثلث مشترياتها في عشرين عاماً. ثانياً الديون: بالنسبة لظاهرة الاستدانة في العالم الثالث عموماً وفي البلاد الإسلامية خصوصاً ليست نتيجة شعور طبيعي بحاجة البلد لتمويل المشاريع، إنما هي وكما أسلفنا نتيجة توجيه خارجي من المؤسسات الاقتصادية الغربية (البنك الدولي، صندوق النقد،...الخ). 1- حين تستدين دولة ما قرضاً من أية جهة خارجية البنك الدولي مثلاً، لا يعطي هذا القرض إلا لأنواع معينة من المشاريع كالزراعة والطاقة والمواصلات وتعمير المدن والنقليات وهي بمعظمها ذات طابع استهلاكي ونسبة ضئيلة من القروض تتوجه إلى الصناعة ذات الطابع الإنتاجي. وهذه الصناعة في الغالب من الصناعات الخفيفة. 2- يشترط البنك الدولي إشراف الشركات الأجنبية على المشاريع مثلاً، فإن نشاطات الشركات الأجنبية في تخطيط وبناء شبكة طرق في الباكستان كانت متسعة إلى حد أنّ الأشغال العامة الباكستانية قد أبقيت بمعزل عن المشروع. 3- كما أنَّه يَشْتَرِط الانتساب إلى صندوق النقد الدولي محدداً بذلك قيمة عملة البلد المدين ويفرض تعرفة مرتفعةً لخدمات المشاريع لتغطية التكاليف وتأمين الأرباح وسداد فوائد الدين، وبالتالي يرهق البلد بمصاريف التشغيل. 4- يتدخل البنك في ما على البلد من ديون فارضاً عليه دفع فوائد الديون المترتبة عليه للمؤسسات والدول الدائنة ليحصل على أهلية أخذ القروض، فمثلاً اشترط البنك الدولي على الجزائر التعويض عن الشركات المُؤَمَّنة الفرنسية. 5- يشترط شراء المواد المطلوبة للمشاريع من شركات أو دول محددة وبأسعار أعلى بكثير من قيمتها. 6- يتدخل ببقية المشاريع القائمة فيوقف ما يرى أنّه يجب إيقافه ويجمِّد ما يرى تجميده. أما البلد المدين فيرهق من مجرد دفع فوائد الديون ويزداد النزيف لتغطية كلفة الصيانة وقطع الغيار. علاوة على ذلك يصيب المشروعات الشلل بسرعة أو هي تعمل بمستوى إنتاجي منخفض بسبب نقصان قطع الغيار في مخزون الموَرِّد أو بسبب عدم توفر وسائل الدفع الخارجية لشراء هذه القطع، أو كذلك بسبب عدم توفر التقنيين الأجانب القادرين على اكتشاف طبيعة الأعطال التي تتعرض لها التجهيزات بصورة دورية، نظراً لانعدام الصيانة وفق المواصفات المطلوبة. كثير من البلدان تضطر إلى طلب تدخلات مؤسسات التمويل الخارجية سعياً وراء تأمين حدٍ أدنى من الجدية والاستمرارية في تنفيذ المشاريع. وهكذا نرى الإدارات المحلية مجرد أجهزة لإعداد ودفع فواتير الشركات الأجنبية العاملة محلياً. أما المساعدات فغالباً ما تكون مشروطة بتسهيل عمل الشركات الأجنبية في ذلك البلد، أو تكون على شكل استثمارات. تُتَّخذ القرارات بشأن هذه الاستثمارات والمشاريع من قبل السلطات الحكومية معتمدةً في ذلك على المستشارين الأجانب وهم إما خبراء لدى الأمم أو لدى المنظمات المالية الدولية، كالبنك الدولي للإنشاء والتعمير وصندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية...الخ أو مكاتب تنظيمية أو مكاتب استشارية هندسية أجنبية أو مصارف الأعمال الأميركية...الخ وهم جميعاً يفرضون تدريجياً أساليبهم الخاصة في العمل واختيار المشاريع مشكلين قناة رئيسية لتوجيه الاقتصاد والمال نحو الخارج بصورة مفرطة. ومظاهر نزيف موارد البلاد يظهر في: 1- هجرة أرباح الشركات الغربية الناتجة عن استثماراتها من العالم الثالث، إلى الوطن الأم. 2- المدفوعات لقاء براءات الاختراعات ورخص استعمالها. 3- المدفوعات لقاء الخدمات (إعانة تقنية، مكاتب استشارية هندسية، تأمين نقليات). 4- الخسائر الناجمة عن الممارسات التجارية المقيدة التي تفرضها الشركات الأجنبية. 5- الخسائر الناجمة عن التحويل المعاكس للتكنولوجيا وتظهر بصورة هجرة الكوادر أو التقنين نحو البلاد الغنية. إن الأمة الإسلامية تشعر ولا شك بما ترزح تحته من الأعباء التي فرضتها التبعية الاقتصادية للغرب وذلك في حاجاتها المعيشية الضرورية التي تعكس حالة القهر والانسحاق. البيانات التالية كافية لإظهار ما تعانيه الأمة من استنزاف لمواردها وطاقاتها. إنَّ أخذ الأموال الأجنبية (ديون أو مساعدات) ولا سيّما الأميركية تفتح الأبواب للسيطرة على البلاد ولاستغلالها وعليه كانت الدعوة إلى التخطيط الاقتصادي والتنمية الاقتصادية دعوة مشبوهة أريد منها فتح الطريق للأموال الأجنبية لتحل محل الجيوش والقوى العسكرية في فرض السيطرة. غير أنه ينبغي أن يُعلم أنّ هذا بالنسبة لهذه الدعوة الاستعمارية وليس بالنسبة للعمل لزيادة ثروة البلاد، فإن وضع سياسة اقتصادية لتنمية ثروة البلاد وتوفير الحاجات المادية لها أمرٌ بديهي وضروري ولا يستغني عنه. ولكن هذه السياسة لا تحتاج إلى دعوةٍ تكتسح البلاد، وهي أيضاً إنما تمليها حاجات البلاد ولا يصح أن تأتي بتوجيه من أعداء المسلمين وهي كوضع سياسة تعليم لرفع المستوى العلمي في البلاد، وكوضع سياسة تسلح لزيادة قدرة الجيش، وكوضع سياسة خارجية لتمكين الدولة من التأثير في الموقف الدولي ومن تسييره في اتجاه معين، وغير ذلك من السياسات. أما أن تُفرض الدعوة إلى التنمية الاقتصادية، وتكون بهذا الشكل الكاسح بتوجيهات من الخارج، وطبق مخطط استعماري معين مدروس، فإنَّ ذلك يدل بشكل صريح على أنّ هذه الدعوة إنّما أريد منها فرض سيطرة الدول الاستعمارية على البلاد. فعلى المسلمين أن يتخذوا كامل الحذر من أيّ طرح اقتصادي والوعي على أساليب دول الكفر لئلاّ يجعلوا للكافر سبيلاً أي سلطاناً عليهم وقد حرَّم الله ذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ وعليهم مكافحة الدول الكافرة المستعمرة التي لها سيطرة ونفوذ في بلاد المسلمين ومكافحة الاستعمار بجميع أشكاله الفكرية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، وكشف خططه وفضح مؤامراته لتخليص الأمة من سيطرته، وتحريرها من أيّ أثر لنفوذه. الديون الخارجية وأعبائها في عام 1984.
|
|
المصدر: مجلة الوعى العدد ٢٠٠ ، السنة الثامنة عشرة ، رمضان ١٤٢٤هـ ، تشرين الثاني ٢٠٠٣م
ساحة النقاش