بسم الله الرحمن الرحيم
أ. ط. عائشة/ أستاذة مساعدة كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير (الجزائر)
بعد أن فشلت الاشتراكية في توفير الحياة الاقتصادية الآمنة للناس، وبعد أن غرقت الرأسمالية في مستنقع الأزمات المتتالية التي كشفت زيفها وأظهرت عوارها، فإنّ الإسلام هو وحده القادر بأحكامه التي جاءت من عند خالق البشر أن يوجد نظاماً آمناً مستقراً، لذا فإنّنا نحاول في هذه المقالة التطرق للعناصر التالية:
- الأسباب المباشرة وغير المباشرة للأزمة المالية والاقتصادية العالمية: الأسباب المباشرة (مشكلة الائتمان ومشكلة المضاربات في الأسواق المالية)، الأسباب غير المباشرة للأزمة: الأسس التي يقوم عليها النظام الاقتصادي الرأسمالي (عقيدة المبدأ، التركيز على تنمية الثروات دون توزيعها، إطلاق الملكيات، النظام المصرفي والبنوك، الشركات الرأسمالية).
إن الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة إذا ما تم دراسة حقيقتها، نجدها أنها ليست أزمة عادية ولا عابرة ولا هي من نوع الأزمات الروتينية الناتجة عن طبيعة النظام الرأسمالي الذي من شأنه أن تتولد عنه أزمات دورية منتظمة، فقد أحصى صندوق النقد الدولي عدد الأزمات المالية التي وقعت في العالم الرأسمالي فقط خلال الثلاثين سنة الماضية فوجدها تفوق المائة أزمة. فبعد أزمة 1929م -الكساد الكبير- عند انهيار سوق الأسهم الأميركية مسبباً الكساد والركود الذي عمّ العالم، كانت أزمة انهيار وول ستريت عام 1987م عندما خسر مؤشر دون جونز 22.6% من قيمته، ومن ثَمَّ إلى الأسواق المالية العالمية، وأزمة عام 1997م عندما حصل هبوط حاد في أسعار الأسهم في الأسواق المالية الكبرى بدأ في هونغ كونغ، فاليابان فأوروبا ثم أميركا، وقيل حينها إن بورصة هونغ كونغ خسرت في يوم واحد ما يقارب تريليون دولار، وقبلها كانت أزمة ما يعرف بالنمور الأسيوية، وأزمة 2002م حيث تراجعت أسواق المال العالمية بعد التزوير في حسابات شركة أنرون (Enron). وبعد الفضائح الأخيرة لـParmalat التي أيقظت ضرورة الحذر من الحسابات المفصح عنها لتفادي الأزمات، وكل ذلك كان قبل الأزمة الحالية. غير أن هذه الأزمة وكما عبروا عنها أنها "تسونامي القرن" وهي وليدة الرأسمالية التي طغت عليها العولمة والخصخصة ومضاربات أسواق المال. فأسباب الأزمة الحالية ليست تقنية فحسب، بل أزمة نظام اقتصادي رأسمالي بدأ يلفظ أنفاسه، وأزمة نظام مالي انكشف عواره، وأزمة فكر رأسمالي يسقط سقوطاً مدوياً.
قبل الحديث عن الأزمة المالية والاقتصادية الحالية وعن مسبباتها لابد من تسليط الضوء على واقعها لتحديدها بدقة ولتمييزها عن أشباهها ومن ثم لإدراك كيفية نشوئها وانتشارها بتلك السرعة
إلقاء الضوء على هذه الأزمة يكشف أنها تتميز بثلاث خصائص رئيسية: الشمولية والامتداد والمفاجأة.
فأما شموليتها فآتية من كونها عمت جميع القطاعات الاقتصادية، فلم ينجُ أي حقل اقتصادي إنتاجياً كان أم تنموياً، فقد بدأت الأزمة مالية بحتة تتعلق بالمصارف وأسواق المال، وها هي اليوم تضرب جميع فروع الاقتصاد فلا تميز بين قطاع مصرفي أو إنتاجي.
ففي أميركا على سبيل المثال تتداعى شركة جنرال موتورز وهي أضخم شركات السيارات في العالم، حيث انخفضت أسهمها بنسبة 55% في غضون أيام قليلة، وفي ما بعد تم إعلان إفلاسها. أما شركَتَا السيارات فورد وكرايسلر فطلب رؤساؤها التنفيذيون مساعدات عاجلة من الكونغرس.
وهكذا نجد أن كل جوانب الاقتصاد الأميركي قد أصبيت بالشلل، حيث أن أكبر بنك أميركي (سيتي جروب) والذي تبلغ ميزانيته 1.35 تريليون دولار يوشك على الانهيار، وذلك بعدما انهارت أسعار الأسهم فيه بنسبة 60% في غضون أسبوع واحد، مما جعل الحكومة تسارع بإنقاذه بعشرين مليار دولار خوفاً من سقوطه كما سقط بنك (ليمان برذرز) من قبل.
وأما في القارة الأوروبية فقد تراجعت على سبيل المثال صناعة الصلب في جميع دولها بنسبة 43%، وأعلنت شركة (BASF) الألمانية العملاقة للكيماويات عن عزمها إغلاق ثمانين مصنعاً، وواجهت المصير نفسه غالبية الشركات الصناعية الأوروبية الأخرى.
وفي اليابان أعلن لأول مرة عن عجز في الميزان التجاري الياباني بمقدار 665 مليون دولار بعد أن كان في العام الماضي يزيد الفائض عن 100 مليار دولار.
وهذه الانهيارات في الاقتصاديات الكبيرة تؤكد على شمول الأزمة وانسحابها على كافة الحقول الاقتصادية.
وأما الخاصية الثانية وهي الامتداد فقد توسعت الأزمة أفقياً وانسحبت على جميع دول العالم وكان للعولمة التي سادت خلال عشرين سنة الماضية أثر كبير في ذلك الامتداد، فقد أدت عمليات دمج الاقتصاديات المحلية بالاقتصاد الدولي الذي تهيمن عليه أميركا إلى توسع الأزمة وإلى انتشارها، وأصبحت أية أزمة بالتالي تطال الاقتصاد الأميركي تنتشر بسرعة وتمتد إلى جميع اقتصاديات الدول الأخرى، وهو ما اضّطَرَها إلى دفع جزء من فاتورة النفقات الأميركية الباهظة، فمشاكل أميركا المالية والاقتصادية الكثيرة تمت عولمتها وتحولت بالتالي إلى مشاكل لكل دول العالم. فإذا أساءت أميركا إدارة اقتصادها، إذا زادت نفقاتها عن مداخليها بسبب حروبها الاستعمارية، وبسبب استهلاك مواطنيها لأكثر مما ينفقون، فإذا وقع مثل هذا أو ذاك فقد أصبح واجباً على جميع دول العالم المساهمة في دفع إتاوات أو ضرائب تفرض عليها لسداد ديون أميركا ولمعالجة اقتصادها، قبل معالجة هذه الدول لمشاكلها الخاصة.
فواضح أن الأزمة الحالية وإن كانت أميركية المنشأ إلا أنّها سرعان ما تحولت إلى أزمة عالمية، فالانكماش الاقتصادي بات يعمّ جميع دول العالم، فأميركا وأوروبا واليابان ودول الخليج ضخت مئات المليارات من الدولارات لكي لا يتحول الركود الحالي فيها إلى كساد كبير كما حصل في أزمة عام 1929م.
وأما بالنسبة للخاصية الثالثة وهي خاصية المفاجأة في هذه الأزمة فإنها آتية من كونها غير متوقعة خاصة من قبل معظم السياسيين والخبراء الاقتصاديين غير الأميركيين، فلم يكن أحد يتحدث عنها قبل وقوعها، ولما وقعت أصبح الجميع يتحدث عن ضخامة حجمها، ومدى عمقها، واستمراريتها، وآثارها العميقة.
إن هذه الأزمة بخصائصها الثلاث وهي الشمولية والامتداد والمفاجأة لم تكن بالطبع أزمة عادية، ولا محلية، بل كانت أزمة جديدة غير مسبوقة، إلى جانب كونها عالمية.
الأسباب الخاصة والعامة للأزمة المالية العالمية
في الحقيقة فإنّه أية أزمة اقتصادية تنشأ لابد من أن يكون لها أسباب خاصة أو مباشرة وأخرى عامة أو غير مباشرة. فأما أسباب الأزمة الراهنة المباشرة فيمكن حصرها في مشكلة الائتمان والرهن العقاري، والمضاربات في أسواق المال. أما الأسباب العامة أو غير المباشرة لهذه الأزمة فتعود إلى أسس ومبادئ النظام الرأسمالي الذي من طبيعته توليد الأزمات.
1- الأسباب الخاصة أو المباشرة للأزمة المالية:
مشكلة الائتمان: برزت في أميركا وتجسدت فيما عُرِفَ بأزمة الرهن العقاري، وكانت بداية المشكلة من سوق العقارات في الـ(و.م.أ)، حيث نشط هذا السوق ما بين عامي 2001م-2006م بفعل التسهيلات والقروض التي قدمتها الدولة للبنوك وشركات الرهن العقاري، حيث بالغت بذلك البنوك بإقراض مشتري المساكن بل وأغرت من لا يقدر على تسديد الأقساط على الشراء وقدمت لهم عروضاً سخية لتغطية ثمن المسكن 100%، وهو ما لم يحصل من قبل. ولم تكتف البنوك بهذه التسهيلات وإنّما خفضت سعر الفائدة في السنوات الأولى بطرح سعر فائدة متغير يعتمد على سعر الفائدة الحكومي والذي انخفض في عام 2002م إلى 1%.
ومما زاد من حماسة البنوك التجارية الصغيرة لجلب الناس إلى شراء المساكن، أنّ البنك ما إن يُتِم المعاملة (معاملة الرهن العقاري) حتى يبيعها بدوره إلى بنك استثماري كبير مثل بنك ليمان برذرز أو ميريل لينش، أو بنك أوف أميركا، أو يبيعها إلى إحدى الشركتين الكبيرتين للرهن العقاري وهما فريدي ماك وفاني ماي، وهما شركتان أنشأتهما الحكومة لغرض تشجيع الرهن العقاري وشراء المساكن، وتملكان ما يقدر بربع المرهونات العقارية في أميركا. وقامت البنوك الاستثمارية وشركتا الرهن العقاري بدورها بإصدار سندات دين اعتماداً على الرهون العقارية التي تمتلكها وباعت سندات الدين إلى مستثمرين من أفراد وبنوك وصناديق استثمار وغيرها.
وبسبب العولمة والانفتاح المالي فقد أقبلت مختلف الشركات العالمية والبنوك والأفراد وصناديق التقاعد وغيرها على شراء الأسهم والسندات الخاصة بالشركات العقارية، ونتيجة لهذا الإقبال أقبلت الحكومة الأميركية على رفع سعر الفائدة تدريجياً من 1% عام 2002م إلى 5.25% عام 2006م. مما أدى إلى رفع سعر الفائدة على القروض العقارية من 2.5% إلى 7%، وهكذا بدأ الناس يعجزون على سداد الأقساط تدريجياً، وبدأت الديون تزداد بشكل مثير للانتباه على البنوك للبنك المركزي وعلى الزبائن للبنوك العادية. ولما كثرت نفقات الحكومة الأميركية خاصة بفعل الحرب على العراق وأفغانستان وتراجع الاقتصاد الأميركي وازدياد العجز في الميزان التجاري بدؤوا بمطالبة البنوك وشركات الرهن العقاري بالسداد في الآجال، وبدورها بدأت هذه الأخيرة بمطالبة الناس بالسداد. فعجز المستدينون عن دفع أقساطهم ووصلت أعدادهم بالملايين (3 ملايين)، وبالتالي استولت الشركات على البيوت وعرضتها للبيع ولم تجد من يشتريها وهبطت أسعارها بشكل كبير، فسبب ذلك مشكلة لشركات الرهن العقاري، وللبنوك التي شاركت في تجارة الرهن العقاري، ولشركات التأمين التي أقحمت نفسها في هذه التجارة لِمَا رأت فيها من ازدهار، وللمستثمرين والشركات حول العالم الذين مكنتهم البورصة وسوق الأسهم والعولمة من المشاركة في سوق العقار لمّا رأوا ازدهارها. وهكذا بدأت الحاجة إلى المال والسيولة، فبدأت الأزمة في أميركا ثم انتقلت إلى بقية دول العالم. وكانت خطط الإنقاذ التي قامت بها الدول بضخ مئات المليارات في الأسواق من أجل إعادة الثقة إلى الأسواق، هذا باختصار ما حدث في أزمة الرهن العقاري.
مشكلة المضاربات في الأسواق المالية: بالنسبة لمشكلة المضاربات التي انتشرت في الأسواق المالية فإنها تسببت في وجود مبالغ مالية خيالية يتم تداولها دفترياً من دون وجود أي رصيد لها من الأصول على أرض الواقع، ثم تبخرت كل تلك الأموال من الأسواق بشكل مفاجئ.
فإذا كان الناتج الحقيقي العالمي للسلع والخدمات يعادل ما يقارب 40 تريليون دولار سنوياً، فإن الناتج العالمي المتداول لنفس السلع والخدمات في الأسواق المالية يعادل ما يقارب 500 تريليون دولار سنوياً، أي أنه يزيد بحوالي 12.5 ضعفاً عن الناتج الحقيقي، وهذا يعني ببساطة أن الأسواق المالية اليوم ما هي سوى أسواق مالية طفيلية يستخدمها كبار المضاربين للاستيلاء على أموال صغار المساهمين، أي أن المضاربين يكسبون الموال الطائلة بأساليب النصب والاحتيال المحمية بالقانون الذي ضمنته حرية التملك في المبدأ الرأسمالي، وبمعنى آخر فهم يجنون الأرباح دون تقديم أي مجهود حقيقي، فهذه الأسواق أشبه ما تكون بأسواق القمار التي يضارب فيها المقامرون، فيشترون ويبيعون الأوراق المالية ليكسبوا الأرباح بفعل فروق أسعارها في المستقبل وليس بفعل إنتاج ونقل السلع والخدمات ليبيعوها في أمكنة أخرى، فالزمان وليس المكان أصبح سبباً في تغير أسعارها.
وهذا بالضبط ما حصل في الأشهر التي سبقت الأزمة، حيث ضارب المضاربون في الأسواق المالية على كل شيء، فضاربوا على أسهم النفط والقمح والحديد وغيرها من مواد أساسية، وأدت مضارباتهم تلك إلى رفع أسعار تلك المواد بشكل كبير، وبعد أن حصدوا أرباحاً من بيعهم تلك الأسهم بأسعار مرتفعة هبطت أسعارها ثانية. فعلى سبيل المثال ارتفعت أسعار النفط بفعل المضاربة في تلك الفترة إلى أن وصلت إلى 147 دولار للبرميل الواحد ثم عادت وهبطت بعد انتهاء المضاربة إلى ما دون الـ 50 دولار للبرميل.
إن تلاعب المضاربين بالأسواق أدى إلى خسارة معظم صغار المساهمين لأموالهم، كما أدى إلى تقلب الأسعار وظهور موجات من الغلاء، تبعه انخفاض عام في مستويات المعيشة في معظم المجتمعات، وانتشرت المجاعة في كثير من البلدان الفقيرة خاصة بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية تحديداً لإدخالها في لعبة المضاربات القذرة.
ولقد وصف الرئيس البرازيلي لولا دي سيلفا أسواق المال هذه وما يجري فيها من مضاربات بـ(كازينو عالمي يديره الأميركيون)، وطالب الرئيس الفرنسي ساركوزي بوضع ضوابط صارمة لعمل الأسواق المالية وخاصة فيما يتعلق بالمضاربات فقال: "إننا نريد رأسمالية أخلاقية تقوم على أساس الإنتاج وليس رأسمالية لخدمة المضاربات".
فبعد التعرف على الأسباب المباشرة للأزمة العالمية، فأنه لمن الأهم إلقاء الضوء على الجذور الحقيقية للأزمة أو الأسباب الجوهرية لها.
الأسباب العامة أو غير المباشرة للأزمة
لا تعتبر الأزمة الحالية طفرة في الاقتصاد الرأسمالي أو حدثاً عابراً، بل الأزمات سمة من سمات الرأسمالية، فالنظام الاقتصادي الرأسمالي يحمل فشله في أحشائه نسبة للأسس التي يقوم عليها والتي أفرزت أذرعاً تهيمن بها على العالم.
أولاً- الأسس التي يقوم عليها النظام الاقتصادي الرأسمالي
يمكن تعريف النظام الاقتصادي الرأسمالي على أنه "نظام يتميز بالملكية الخاصة لعوامل الإنتاج، وصناعة القرارات غير مركزية وتقع بين أيدي مالك عناصر الإنتاج".
وبشكل عام يمكن القول إن النظام الرأسمالي يتبنى اقتصاد السوق، فالنظرية الكلاسيكية لهذا النظام رفضت تدخل الدولة وقالت "باليد الخفية"، والتوازن التلقائي للاقتصاد، أما النظرية الحديثة تحث على ضرورة تدخل الدولة لتخفيض سعر الفائدة ولضبط توازن الأسواق والأسعار، ولكن بعد موجة الخصخصة في ثمانينات القرن العشرين تخلت الدولة الرأسمالية عما تبقى لها من ملكية دولة أو ما يسمى بالقطاع العام. وتعود اليوم الدول الرأسمالية لسياسة التأميم في هذه الأزمة وتتملك في القطاع الخاص من خلال شراء الديون والأسهم من الشركات والمصارف المفلسة، وذلك لكي تنقذ النظام الرأسمالي من الانهيار الكامل.
لقد أوصل النظام الرأسمالي الوضع الاقتصادي إلى وضع غريب تتكدس فيه الثروات الضخمة في يد قلة قليلة إلى درجة الثراء الفاحش، والغالب الأعظم من البشر في الفقر المدقع، بل وصورة استهلاك باهظة التكلفة فيما لا يفيد، وإنفاق متواضع على المستوجب الإنفاق. فمبادئ الرأسمالية التي تتحكم في النظام العالمي اليوم هي سبب ما يحدث من فوضى عارمة في جميع جوانب الحياة.
يقول روجر تيري في كتابه المعنون بـ "جنون الاقتصاد": (يعرف الأميركيون أن هناك خطأ ما في أميركا، ولكنهم لا يعرفون ما هو، ولا يعرفون لماذا ذلك الخطأ، والأهم من كل ذلك فهم لا يعرفون كيف يصلحون ذلك الخطأ، وكل ما بإمكانهم هو الإشارة إلى أعراض المرض فقط ... وفي الحقيقة فإن بعض ما يسمى حلولاً يزيد الطين بلة، ذلك أن تلك الحلول تحاول أن تغير نتائج النظام دون تغيير النظام الذي أفرز تلك النتائج ... إن المشكلة لا تكمن في كيفية تطبيق نظامنا الاقتصادي، فنظامنا الاقتصادي بعينه هو المشكلة. إن الخطأ هو في التركيبة الأساسية لنظامنا الاقتصادي، ولن تكون الحلول الجزئية وتضميد النتائج حلاًّ يذهب بالمشاكل، إذا أردنا الوصول إلى مُثُلِنا فيجب اقتلاع المشاكل من جذورها لا بقصقصة بعض الأوراق، وعلينا أن نحاكم الأسس والافتراضات كلَّها التي تسيِّر نظامنا وكشفها كما هي على حقيقتها).
فإذا كان شهود من هذا النظام يعترفون بهشاشة أسسه والافتراضات التي يقوم عليها فكيف لنا أن ننقاد وراءه وهو الهلاك بعينه، كما انقدنا وراء الاشتراكية فهوت، والآن وراء الرأسمالية وهي تهوي أو تكاد، وسنحاول في ما يلي إبراز أهم الأسس التي يقوم عليها النظام الرأسمالي.
1- عقيدة المبدأ "فصل الدين عن الحياة":
إن عجز الإنسان واحتياجه للخالق المدبر الله سبحانه فطري، فالإنسان في حاجة دائمة للخالق في تدبير شؤون حياته، كما يحتاج إلى التدين، لأنه ثبت أن تنظيم الإنسان لعلاقاته عرضة للتبدل والتغير والتناقض والاختلاف، وما فعله النظام الرأسمالي أنه حكم بفصل الدين عن الحياة وجعل الإيمان بالدين مسألة فردية، فلكل فرد الحق في اعتناق ما يشاء، متناسين في ذلك أن كل ما يقوم به الإنسان من أفعال وقرارات في الشعور أو اللاشعور إلا ومرتبطة بأفكار عقائدية لا يمكن الفصل بينها. وبذلك صار المشرع الرأسمالي (أصحاب القرارات والمفكرين) هم من يضع النظام فوقعوا في الخواء الروحي، وتم تصوير الحياة بأنها للأخذ بأكبر قدر من "المنفعة" فكان هذا المثل الأعلى ومفهوم السعادة عندهم فوقعوا بذلك أمام وضعين خطرين:
الأول: إذا لم يتمكن الفرد من إشباع حاجاته إشباعاً كاملاً فإن هذا يدفعه غالباً إلى الإحباط واليأس، ومن ثم إلى أمراض نفسية وعصبية، أو إلى آفات اجتماعية متعددة.
الثاني: في حالة تملك الفرد الرأسمالي للثمن وتمكنه من الإشباع الكلي للحاجات فانه يصبح معرضاً للعيش في فراغ قاتل يؤدي به إلى الانتحار أو الشذوذ أو على أقل تقدير إلى رتابة مملة تظهر الحياة فيها تافهة، لذلك نجد نسب الانتحار في الغرب لا تقارن.
فالأساس الذي انبنى عليه المبدأ الرأسمالي ولد مقياساً من جنس الفكرة وهو مقياس النفعية، فكل ما فيه رغبة للناس جعل نافعاً فالرأسمالي المبدئي لا يفرق بين الخمر والعصير، والدعارة والزواج، وبين المخدرات والقهوة، لذلك كان مبدأ الرأسمالي مبدأ اللامبدأ، وعندما يجد الرأسمالي طريقاً يدر عليه أرباحاً هائلة ولو بتدمير المجتمع –كما حدث في الأزمة المالية الحالية-، فإنه يغذ السير، وعندما يفشل يعمل على إيجاد خط رجعة ولو خالف النظام، وذلك مثل تدخل الدولة جزئياً أو كلياً لحماية المؤسسات المفلسة كما حدث في أميركا وبريطانيا خلال الأزمة المالية الأخيرة.
2- التركيز على تنمية الثروات دون توزيعها:
المنطلق الفكري للتركيز على التنمية دون توزيعها هو سبب من أسباب الفقر المنتشر في العالم اليوم، فتصور الرأسماليون أن المشكلة الاقتصادية هي محدودية الموارد بالنسبة للحاجات "الندرة النسبية" كان تصورهم للحل هو توفير هذه الموارد، بمعنى آخر رفع مستوى الإنتاج، لكن إذا ملك الأفراد الثمن حصلوا على حاجاتهم، وإن لم يملكوا فلن تشبع حاجاتهم، فالبحث إذا لم يكن في إشباع الحاجات الفردية، ولا في التفريق ما بين الحاجات الضرورية والحاجات الكمالية. فتكثير السلع والخدمات وتوفيرها في الأسواق بحث في واقعها وفي مادتها، وهذه الناحية يتناولها علم الاقتصاد، وتوزيع السلع والخدمات على أفراد المجتمع يعالجه النظام الاقتصادي، وهناك فرق بين علم الاقتصاد والنظام الاقتصادي، "فعلم الاقتصاد يهتم بتفسير الواقع المشاهد ومحاولة استنباط القوانين والنظريات التي تحكم سير هذا الواقع"، فهو عالمي إذ إنه يبحث في المادة وتكثيرها وتحليلها وتنميتها حسب الوسائل الحديثة. أما النظام الاقتصادي فهو يهتم بكيفية تطبيق الأصول والمبادئ التي يتضمنها المذهب الاقتصادي وإخراجها إلى حيز التنفيذ وميدان الواقع. وبالتالي النظام الاقتصادي يعبر عن أفكار وأحكام تتعلق بفهم الواقع وعلاج المشكلة، إذاً فهو منبثق من وجهة النظر في الحياة، فهو خاص ومرتبط بعقيدة الأمة.
فالرأسماليون أذابوا مفهوم التوزيع في التنمية بسبب الخلط بين الاقتصاد كعلم وكنظام، إذاً توزيع الثروة منطلق من أفكار ومبادئ متخذي القرار والساسة. فكما يقول أحد علماء الاقتصاد الغربيون "إن المبادئ والأفكار العلمية ملونة عقائدياً".
فمن المنطلقات العقائدية للرأسماليين وفلسفتهم في الحياة كان تركيزهم على تنمية الثروات كحل للمشكلات الاقتصادية وأهمها الفقر، وتناسوا الأهم وهو توزيع هذه الثروة. ويمكن تلخيص مشكلة التركيز على تنمية الثروة دون توزيعها في النظام الرأسمالي في قول الفيلسوف الأوروبي "برنارد شو" ساخراً من النظام الرأسمالي وكان هذا الأخير أصلع الرأس كثَّ اللحية فقال (النظام الرأسمالي كقرعتي هذه ولحيتي هذه، غزارة في الإنتاج وسوء عدالة في التوزيع).
3- إطلاق الملكيات:
يطلق المبدأ الرأسمالي للأفراد أن يملكوا ما يشاؤون دون تدخل الدولة، فهم يؤمنون بحرية اقتصاد السوق والخصخصة والعولمة، فكانت النتيجة استعمال الأساليب الملتوية والمضاربات والأسواق الوهمية، ومن يتقنها أكثر يجمع أموالاً أكثر. ويصبح السوق في حالة عدم توازن اقتصادي إذا تم إزالة القيود التي تنظم التملك -إطلاق حرية التملك-، ويطلق سراح الجشعين والمحتكرين لإيجاد مختلف الحيل للربح السريع. فظهر في المجتمع الغنى الفاحش والفقر المدقع، كل ذلك لأن المشكلة عولجت بحرية التملك وحرية العمل -دعه يعمل دعه يمر-، لا بالضوابط والمفاهيم التي تنظم كيفية توزيع الملكيات.
إن عدم الوعي هذا على واقع الملكيات أوجد ويوجد الهزات الاقتصادية، وذلك لأن الملكيات ليست إما عامة تتولها الدولة وفق النظرية الاشتراكية الشيوعية، وإما ملكية خاصة يتولاها القطاع الخاص ولا تتدخل الدولة بها وفق النظرية الرأسمالية الليبرالية، بل هي ثلاثة أنواع حسب النظام الإسلامي وهي: ملكية الدولة وملكية عامة وملكية خاصة.
4- النظام المصرفي والبنوك:
تقوم المصارف والبنوك في أنظمة الغرب الرأسمالي على تحقيق المنفعة المادية التي تشبع حاجةً، بغض النظر عن الدمار للفرد والمجتمع، فهي تقوم على أساس الربا المدمر، والذي هو من الكبائر في الإسلام، تقوم المصارف والبنوك بذلك بعد أن تتشكل في غالبها عن طريق مؤسسات خاصة يملكها شخص أو مجموعة من الأثرياء، أو تتشكل بنظام الشركات المساهمة، وعن طريق ما يودعه الناس من أموال في هذه المؤسسة. وتقوم طبيعة عمل المصارف والبنوك على منفعة الأموال (الربا)، فتَجْمَعُ المال من أيدي الناس بفائدة قليلة، وتقرضه لآخرين بفائدة مرتفعة، أو تقوم المؤسسات الصغيرة بالإيداع في مؤسسات أكبر تحقق فائدة أكبر، في الدولة نفسها أو في دولة أخرى. وقد تقوم بأعمال ومشاريع هي نفسها عن طريق إغلاق إيداعات قسم من الناس في مُدَدٍ زمنية طويلة بزيادة نسبة الفائدة لهم.
ويمكن تلخيص بعض الآثار المدمرة للنظام المصرفي في ما يلي:
أ- تجعل المال دُولةً بين أيدي فئة معينة من الناس وتحرم البقية من تداوله، فعن طريق الفائدة "الربا" يسحب المال من أيدي الناس وعن طريقها كذلك يتمكن الرأسماليون الكبار القادرون على الاستثمار والسداد من أخذ كميات كبيرة من المال من هذه البنوك، وهذا بالتالي يزيد الأغنياء غنّى والفقراء فقراً، فالأغنياء ينشئون المشاريع الضخمة التي تتحكم في اقتصاد البلد، والفقراء يعيشون تحت رحمة هذه الطبقة، من حيث عرض السلع والخدمات وتحديد الأثمان لها، وتصبح إيداعات الطبقة الكادحة في البنوك هي أداة لجلب الشرور عليها بعكس ظنها أنها ستجلب لها الخير. كان من أبرع ما ابتدعه النظام المصرفي والبنوك (بطاقات الائتمان) حيث بها يستطيع الناس شراء ما يريدون دون حمل نقود بواسطة الشبكة الإلكترونية، ويلاحظ في هذه البطاقات أمران: الأسعار العالية لخدماتها ومشترياتها، وكذلك فإن البنوك والمصارف استطاعت أن تقضي على السيولة المتبقية لدى المودعين في تمليكهم هذه البطاقات فتكون أموال المستهلكين النقدية كلها داخل النظام المصرفي مما يعني تسخير كل هذه الأموال للبنك وبالتالي للأغنياء.
ب- تؤثر البنوك في غلاء الأسعار في المجتمع وذلك بسبب احتكار المشاريع من قبل الرأسماليين، والذين بدورهم يفرضون الأسعار التي يرونها، فيقومون برفع السعر أو سحب البضاعة أو بطرحها في الوقت المناسب لهم وذلك بسبب الفوائد البنكية المستحقة على أصحاب الشركات والتي تدفعهم لسداد هذه الفوائد في أقرب وقت ممكن عن طريق رفع الأسعار،وكان من أبرز ما فعله النظام المصرفي حالياً (أزمة الرهن العقاري) التي ارتفعت أسعار عقاراتها بسبب الرأسماليين المستندين إلى البنوك والتي أقرضت المشترين بفوائد مركبة حتى عجز المشترون عن السداد وأفلست البنوك بإضاعة أموال المودعين.
ج- كثرة الإفلاس الاحتيالي في النظام المصرفي لغياب العقيدة الصحيحة والأخلاق (الخواء الروحي)؛ وذلك عندما تفلس البنوك فإن بعض الموظفين يتواطؤون مع كبار المودعين مقابل مال ويعطونهم أسرار المصرف بقربه من الإفلاس أو تهرب أموال ذلك المودع وتضيع أموال المودعين الصغار عند الإفلاس.
د- يساعد البنك في الأزمات التي تحصل في أسواق المال؛ إما بإقراض المتعاملين في سوق الأسهم بالأموال الضخمة مباشرة والتي تمكنهم من شراء أسهم كثيرة لمشاريع معينة، وبالتالي رفع قيمة هذه الأسهم في البورصة، وهذا بالتالي يوهم عامة الناس أن هذه الأسهم ارتفعت قيمتها، فيقدم الناس على شراء هذه الأسهم بشكل جنوني كما حصل في دول جنوب شرق آسيا، وبعد أن يتم شراء كميات كبيرة من هذه الأسهم من قبل الناس، تهبط قيمة هذه الأسهم هبوطاً مفاجئاً، وذلك بعد زوال الهدف الذي من أجله ارتفعت وهو إيقاع الناس في الوهم من قبل الرأسماليين أو تجار الأسهم والسندات، فيقع عامة الناس ضحية هذه المؤامرة. والذي حدث في بورصة (وول ستريت) في الأزمة المالية الحالية أن أسعار السهم والسندات ارتفعت فوق حد التصور بمساعدة البنوك وعندما عجز المدينون عن سداد القروض بأنواعها انهارت البنوك وانهار سعر أسهمها.
5- الشركات الرأسمالية:
لا تختلف الشركات الرأسمالية كثيراً عن البنوك بل هي من جنسها في طريقة إنشائها وتحصيلها للمال وطبيعة أعمالها، بل تشبه البنوك إلى حد كبير. والفكرة الأساسية التي أنشأ بها الرأسماليون الشركات سيما الشركات المساهمة هي فكرة أن يدخل الرأسماليُّ بنسبة 51% ويجمع من مدخرات صغار المساهمين المتبقي للمشروع 49%، والمعروف أن المال الأكبر (أي 100%) يدرُّ ربحاً أكثر من مال (51%)، والفكرة هي تحويل المخاطر إلى صغار المساهمين.
وهذه الشركات بهذه الكيفية كبرت وتوسعت حتى أصبحت الحاكم الفعلي للدولة الرأسمالية عندما تجذرت وأخذت صبغة العراقة في الاقتصاد الرأسمالي.
هذه الأسس السابقة هي التي يرتكز عليها النظام الاقتصادي الرأسمالي، وكل واحد منها يحمل فشله في أحشائه، وقد كان لهذه الأسس الخمسة أدوات سيطر بها النظام الرأسمالي على مفاصل الاقتصاد المحلي والعالمي.
[يتبع]
ساحة النقاش