كفر قاسم .. إنني عدت من الموت لأحيا، لأغني .. فدعيني أستعِر صوتي من جرح توهج ... وأعينيني على الحقد الذي يزرع في قلبي عوسج... إنني مندوب جرح لا يساوم.
علمتني ضربة الجلاّد أن أمشي على جرحي وأمشي ... ثم أمشي ... وأقاوم!
تصادف هذه الأيام الذكرى الثالثة والخمسين لمجزرة كفر قاسم التي راح ضحيتها ستة وأربعون شهيدا من الأطفال والشيوخ والنساء في طريق عودتهم من يوم عمل شاق ومضنٍ، ليس لسبب ما أو جريمة اقترفوها، بل لأن العقلية الصهيونية التي سيطرت على صناع القرار هنا لم تحتمل بقاء فلسطينيين هنا في الداخل.
لقد ذهل "بن غوريون" عندما اكتشف في أوائل الخمسينات أنه لم يتم تهجير الشعب الفلسطيني بالكامل وبأن هناك قرى فلسطينية كاملة لم تدمر.. بل صمدت وما زالت صامدة وعندما زار منطقة الجليل سأل مرافقيه : هل نحن في سوريا أم في إسرائيل ؟! من هناك انطلقت الفكرة .. تهجير ما تبقى من أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل وكان لا بد له من إيجاد الفرصة المواتية لتنفيذ هذا المخطط ولو كلفه الأمر ارتكاب المجازر أو افتعال حالة حرب مع دولة عربية مجاورة واستغلال حالة الحرب للإقدام على تهجير ما تبقى من أبناء الشعب الفلسطيني هنا في الداخل.
وهذا ما حصل فخلال العدوان الثلاثي على مصر أصدر القادة الإسرائيليون قرارهم بمحاصرة قرى المثلث الجنوبي وقسم المثلث إلى منطقتين الأولى تحت سيطرة الضابط (دهان ) والثانية تحت سيطرة ( ماليكني ) على أن يقود العمليات العقيد ( شدمي) والذي حكم عليه بغرامة مالية تساوي ( قرش) وأصبح قرش شدمي مهزلة في التاريخ المعاصر!!
لا أريد الخوض في تفاصيل المجزرة ومجراها العسكري ، بل ما يهمنا هنا أن نستخلص العبر من كفر قاسم والتي كانت هدفا لشدمي وقواته لترويع سكان المنطقة وإجبارهم على النزوح إلى الأردن حتى لو كلف الأمر افتعال حالة حرب مع الأردن في خضم العدوان الثلاثي على مصر حيث كانت الأنظار تتجه إلى هناك .. وصمدت كفر قاسم مضمدة جراحها النازفة وصمد أهلها وكبرت وصارت تطاول الرياح العاتيات
وبقيت وستبقى ما بقي التراب الذي يحتضن الشهداء.. ستبقى ما بقي زيتون الجليل ونخيل النقب.
بعد الجريمة خرج بن غوريون ليتحدث عن قرية حدودية وكأنه لا يدري ما هو حاصل وبأن من استشهدوا هم مواطنون في الدولة وأصحاب الوطن والأرض ... أصحاب الحق الراسخ في قلوبنا وأذهاننا.
لم يكن من الصعب على أهلنا هنا أن يتجاوزوا جراحاتهم وآلامهم ليصمدوا بوجه كل المخططات التي أحيكت وما زالت تحاك ضد الوجود الفلسطيني في الداخل وتحت يافطات متعددة الألوان والشعارات .. فتارة تحت يافطة التبادل السكاني في إطار حل دائم وشامل للقضية الفلسطينية .. لكن الهدف يبقى واحدا وهو تفريغ الأرض من المواطنين الفلسطينيين ودرء الخطر الديموغرافي القادم على حد تعبير قادة الدولة.
إن التخوف الإسرائيلي نابع من أن تعداد الأقلية الفلسطينية هنا سيزداد ليساوي عدد المواطنين اليهود، عندها لن يكون بمقدورهم الحفاظ على نقاوة الدولة العبرية !!ويبدي بعض القادة تخوفه من خطر الأقلية الفلسطينية الذي يفوق خطر إيران وحماس وحزب الله!
وهذا التخوف له ما يبرره في ظل سياسة التمييز العنصري والقهر القومي الممارس ضدنا،وإذا كانت القيادة تريد إبعاد كابوس الخوف فما عليها إلا إنصاف هذا الجزء من خلال اعترافها به،ومنحه حقوقه القومية والمدنية وليس من خلال برمجة خطط تهدف إلى تهجيره وإخراجه من دائرة المواطنة الكاملة.
إن مجزرة كفر قاسم كانت البداية على طريق درء خطر التواجد الفلسطيني في الداخل ! وتلاها يوم الأرض عام 76 والذي اندرج في إطار تهويد ومصادرة ما تبقى من أراضي المواطنين العرب داخل الخط الأخضر.
وعودة إلى كفر قاسم وبدلا من أن تعترف حكومة (بن غوريون ) آنذاك بمسؤوليتها عما حصل وتتراجع عما سببته من آلام مستديمة لكل الأقلية الفلسطينية هنا .. شكلت محاكمة صورية كان الهدف من ورائها خداع الرأي العام العالمي الذي استفاق متأخرا.. وحكمت المحكمة على قائد العمليات الملقب ( بشدمي ) بدفع غرامة مالية تساوي قرشا .. وهذه طعنة أخرى تلقتها كفر قاسم والفلسطينيون هنا.. أما الطعنة الأخرى عندما أصدر رئيس الدولة العفو عن قادة المجزرة ( مالينكي ودهان )ليمنح الأول منصب ضابط الأمن في مفاعل "ديمونا" النووي ويمنح الثاني منصب مسئول الدائرة العربية التابعة لبلدية اللد والرملة !! وكأن دم الشهداء يساوي قرشا في نظر حكام إسرائيل.. هذه هي العقلية الصهيونية التي ذنبت الضحية وكافأت الجلاد!!.
أما الطعنة الكبرى عندما فرضت الحكومة صلحة عشائرية بين أهالي كفر قاسم والحكومة بالتخويف والترويع من مغبة رفض الأهالي لهذه الصلحة فاضطر الأهالي وحفاظا على مستقبل أطفالهم وبقائهم في الوطن إلى قبول الصلحة وبهذا تم إغلاق الملف نهائيا وأعفيت الدولة من تحمل أية مسؤولية في المستقبل!.
لقد وصل الاستهتار السلطوي بمشاعر الأهالي والشعب الفلسطيني عندما انتهت الصلحة العشائرية بوليمة تم خلالها ذبح مائة دجاجة وخمسة عشر خروفا !!وعلى الطريقة اليهودية وعلى حساب الجيش الإسرائيلي!!.
كفر قاسم ودعت شهداءها في عتمة الليل ومنعت وسائل الإعلام من الوصول إلى القرية الثاكل والمنكوبة.. ودعت شهداءها لتدخل التاريخ من أبوابه الواسعة وتكبر بأبنائها وبناتها تكبر ليصبح تعداد سكانها حوالي الثلاثين ألفا.. كبرت كفر قاسم وكبر معها الحلم.. ذكرى الشهداء تلازم كل طفل من أطفالها ولسان حالهم يقول: هنا حلم شهداؤنا وهنا سقطوا وهنا نحن سنبقى.
آه! يا خمسين لحنا دمويا
كيف صارت بركة الدم نجوما وشجر؟
الذي مات هو القاتل يا قيثارتي ومغنّيك انتصر!
افتحي الأبواب يا قريتنا
افتحيها لرياح الأربعة
ودعي خمسين جرحا.. يتوهج:
كفر قاسم
قرية تحلم بالقمح.. وأزهار البنفسج
وبأعراس الحمائم
احصدوهم دفعة واحدة..
احصدوهم!
حصدوهم
أذهلت العالم أيتها الصبية الحالمة .. أذهلت (شدمي ) وجنرالات المجزرة لأنك أحببت الحياة والبقاء ... أحببت الرقص على وقع جرحك المكابر وعلى خطى شهدائك وعزف أوتار بقائك كبرت يا كفر قاسم وصرت نورا ونارا حارقة.. صرت أنشودة الفرح المقاوم .. صرت بسمة الأمل الدائم وعنوانا لكل صابر مقاوم.
فيا كفر قاسم ...أعينيني على الغضب الذي ينز من مآقي حزنا ودموعا ... أعينيني على الفرح الذي أبى أن يساوم ... أعينيني على قتل الحزن المضطجع على صدري يا كفر قاسم !أعينيني على وأد مأساتي .. لقد ضجت بها العواصم!
نطل عليك اليوم في عيد الضحايا ... يعزف لك تسعة وأربعون وترا.. مغنيك يا عروس فلسطين ما انتحر! ومغنيك يمر بين أعناب الدوالي يلملم ما تبقى من مواويل الشجر... تسعة وأربعون وترا.. صنعنا منها قيثارة شعب تعمد بالدم والدموع ..فاعذريني يا كفر قاسم فأنا لا اغني للموت .. لكن ليد ظلت تقاوم!
آه، يا سنبلة الموت على صدر الحقول
ومغنّيك يقول:
ليتني أعرف سر الشجرة
ليتني أدفن كل الكلمات الميتة
ليت لي قوة صمت المقبرة
يا يدًا تعزف، يا للعار، خمسين وتر
ليتني أكتب بالمنجل تاريخي..
وبالفأس حياتي..
وغناء القبرة.
ــــــــــــــ
المركز الفلسطيني للإعلام
ساحة النقاش