بعد خمس سنوات على الغزو الامريكي للعراق , يحق لنا ان نتساءل : اين هي القدرات التخطيطية الاستراتيجية الهائلة للولايات المتحدة الامريكية من فوضى الاجراءات الاقتصادية الجاريةفي العراق ؟ و ما هو نطاق تدخل المنظمات الاقتصادية الدولية في الشان العراقي , و ما هي حدود ولايتها في هذا الصـــدد ؟الى اين يتجه الاقتصاد العراقي ، والى ماذا سيفضي هذا النمط الانتقالي للخراب الاقتصادي , في كل القطاعات , و في جميع المرافق ؟ 
ان انهيار الاقتصاد العراقي كان محتما , بعد تعرضه لمتلازمة من الكوارث السياسية و العسكريـــــة و الاختلالات المزمنة , التي لا يقوى حتى الاقتصاد المتقدم على تحملها .
غير ان غياب " دولة عراقية " , بالمعنى الحديث لهذا المفهوم و بما تنطوي عليه من منظومات مؤسسية و قيمية , كان و لايزال حجر العثرة الاساس امام تطور الاقتصاد العراقي .
و من المثير الدهشة و الريبة معا , ان لا تتمكن الدولة العظمى الوحيدة في العالم من الاسهام بفاعلية في وضع اللبنات الاولى لاعادة تاسيس دولة عراقية حديثة . فهي تحتل هذا البلد ( المتخلف و الصغير ) منذ خمس سنوات , و يبلغ عديد قواتها فيه اكثر من 160000 مائة و ستون الف فرد مدججين باحدث الاسلحة و اكثرها تطورا وقد دفعت ثمنا باهظا لجعله نموذجا للديمقراطية ( اكثر من اربعة الاف قتيل و ثلاثون الف جريح و ترليون دولار من الانفاق العسكري المباشر ) . غير ان احدا لم يسال بجدية كيف يمكن بناء نموذج يقتدى به في الممارسة الديمقراطية دون دولة حقيقية وفاعلة ؟و كيف يمكن بناء هذه الدولة بدستور ماضوي مشوه البنود و غامض المقاصد ؟ و كيف يمكن تحقيق الرخاء الاقتصادي في حين يتم التاسيس لبنية قانونية و دستورية تكرس حق " ملوك الطوائف " "و الاقطاعيات الحزبية " في تقاسم وتوزيع ثروات العراق كافة , و ليس مكامنه النفطية وحدها ؟
هل يمكن القول , بعد هذا , ان الادارة الامريكية ذاتها لا تريد تاسيس مثل هذه الدولة , و ان من الافضل لمصالحها الانية استمرار هذا النمط من الاداء الحكومي المتعثر لحين صعود طبقة سياسية جديدة , جديرة بان تكون حليفا استراتيجيا موثوقا لها ( كما هي اسرائيل الان )؟ لا احد يستطيع الجزم بذلك .الا ان الملاحظة الاهم هو فشل الولايات المتحدة الامريكية , حاملة لواء الراسمالية الظافرة , و المبشرة بفراديس اقتصاد السوق الحرة ، في ادخال اي تغيير جوهري على محتوى التحول في شرعية السلطة الحاكمة في العراق . فشرعية الحكومات المتعاقبة بعد الاحتلال , كما كانت قبله, لم تتحول من " شرعية انجاز " الــى " شرعية دستورية " رغم كل ما حدث في هذه السنوات الخمس العجاف في كل شئ ( الا من الـــــدم و الخراب و الفوضى ) . و بهذا لم تتمكن الولايات المتحدة الامريكية من ارساء نوع من القطيعةبين الواقع السياسي و الاقتصادي العراقي , الذي تتخبط فيه ، و بين ارث خمسون عاما من التخبط الاقتصــــادي و السياسي للحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 1958 و حتى عام 2008 .
لا احد يعرف لماذا لا تضغط الولايات المتحدة الامريكية ( و غيرها من دول العالم المتقدم ) على الفئــات و الشرائح الحاكمة و المتصارعة على السلطة في العراق ( اذ لا وجود حتى الان لطبقة سياسية فاعلة )من اجل وضع سياسة انفاقية مجدية اقتصاديا و اجتماعيا (و بالتالي سياسيا ) للعوائدالنفطية الهائلة . و لماذا لا توضع خطة حقيقية للنهوض بالبنية التحتية الاساسية المدمرة منذ عقود ( و بدونها لا يمكن التفكير لا في استثمار عام و لا في استثمار خاص -محلي- ناهيك عن الاستثمارالاجنبي المباشر و غير المباشر ) . 
لا احد يعرف لماذا يضغط صندوق النقد و البنك الدوليان من اجل رفع الدعم عن المشتقات النفطية و الغاء البطاقة التموينية ( مع وجود مليون ارملة و خمسة ملايين يتيم و اربعة ملايين لاجئ ، من المهجرين داخليا و خارجيا ) دون الضغط على اعادة هيكلة انفاق الموارد النفطية و تخصيص الجزء الاكبر منها للانفاق الاستثماري( و ليس الجاري ) , في حين ان العراق كان قد بدا العمل على وفق هذه الاسس , و بالتنسيق مع البنك الدولي للانشاء و التعمير , و قام بتشكيل مجلس الاعمار , و خصص كامل العوائد النفطية للاستثمار في البنى التحتية الاساسية , ووضع العراق على اعتاب مرحلة الانطلاق نحو التطور الاقتصادي المستدام, و كل هذا حدث في اوائل عقد الخمسينيات من القرن العشرين.
و لا احد بامكانه ان يستوعب مثل هذا الاصرار على احلال الحكومة محل الدولة . و على اصرار هذه الحكومة على ان تكون حكومةانجاز و معونات(ومكرمات) بدل ان تكون دولة قانون و مؤسسات تقدم دعمها و رواتبهـــا و اجورها مقابل انتاجية العاملين في مرافقها المختلفة , ولاتقدمها كهبات وصدقات و نحن على اعتاب نهاية العقد الاول من القرن الحادي و العشرين.
لا احد يعرف لماذا تقوم حكومة في العالم بدفع صدقات لملايين العاطلين عن العمل من مواطنيها دون ان تنجح طيلة خمسة سنوات في توفير فرص عمل دائمة لهم ، بالرغم من ان معدل البطالة في العراق يصل الى 40% و التضخم الى 20% و ان ثلث السكان يعيشون تحت خط الفقر, و ان 60 % منهم لا يتوفر لهم الماء الصالح للشرب و لا شبكات للصرف الصحي , و ان معدل البطالة المقنعة بين العاملين في ما تبقى من شركات الدولة و مؤسساتها و مشاريعها العاطلة يصل الى 60% , و ان 65% من اجٍمالي تخصيصات الموازنة الفيدرالية العراقية يدفع كاجور و رواتب و منح و اعانات.
و ليس في وسع احد الخوض في تفاصيل هيكل الايرادات العامة للدولة العراقية , انطلاقا من مبدأ قديم جدا هو مبدأ " المواطن دافع الضريبة " citizen . وعلى وفق هذاالمبدأ فان "لا ضرائب بدون تمثيل " . و بالتالي فليس هناك حق في التصويت دون دفع الضريبة لدولة ستكون " ديمقراطية بالضرورة ". و اعتــــراض " المواطن " هنا وجيه " فالوطنية العراقية " , كهوية , لم تتشكل , او تتبلور , بعد . " و العراقي " هو الكائن السياسي الوحيد الدي لم يصبح " مواطنا " بعد. و بدل " الوطن " و " المواطنة " نجد مكونات مذهبيـــة و عرقية , و ولاءات عشائرية و مناطقية , وبالتالي لا توجد دولة وطنية " يقوم المواطن بدفع ضرائبه اليها. و بدل الدولة توجد سلطة تمارسها الحكومة . وهذه الحكومة عاجزة و مفككة ورثة ( لاسباب عديدة لاداعي لسردها هنا ). و اذا افترضنا جدلا وجود " دولة عراقية فتية " , فان هذه الدولة لم تعد " راعية " بحق , كما كانت في السابق , و لم تعد "دولة خدمات" ( حيث لا تتوفر الخدمات الاساسية في حدها الادنى لمعظم السكان ) , كما انها ليست " دولة حارسة " على امن وحماية ارواح مواطنيها و ممتلكاتهم , كما هو شان الدول في كل زمان ومكان ؛ و بالتالي لم يعد " المواطن الاقتصادي " " كالمواطن السياسي " ملزما ازاءها باي شئ . و بوسع اي مبتدأ في الاقتصاد السياسي ادراك ما يمكن ان ينطوي على هذا " العقد الاجتماعي المهترئ " بين المواطن و الدولة من عواقب وخيمة . 
و في حين يفهم " المواطن العراقي" هذه البديهية القائمة على التوازن بين الحقوق و الواجبات , فان من الصعب علينا التسليم بسهولة بان الفئات و الشرائح العراقية , الحاكمة حاليا , قادرة على فهم هذا المبدأ , وهو: "ان الضريبة , و تمكين المواطن من دفعها , قد تصلح اساسا لعقد اجتماعي جديد بين المواطــــن و الدولة, و معيارا مهما لقياس مدى ارتباط المواطن بهويته الرئيسة , بعيدا عن الهويات الفرعية التي مزقت النسيج المجتمعي العراقي . 
و لو اتيحت لاي باحث احصائية دقيقة لوجد ان الحكومة العراقية قد اقامت او شاركت الالاف من المؤتمرات و الندوات وورش العمل و الحلقات النقاشية ( وكلها عقدت خارج العراق ) و اصدرت اطنانا من التوصيات , دون ان تتمكن من اعادة بناء قطاع خاص حقيقي ( تعود هو الاخر و طيلة عقود على ان يعتاش متطفلا على فتات الفائض الاقتصادي لموائد الحكومات العراقية المتعاقبة على حكم العراق منذ عام 1958 و حتى الان ) . و لا احد يجرؤ على السؤال لماذا لا تدفع الولايات المتحدة الامريكية الحكومة العراقية على تبني نماذج رائدة بهذا الصدد ( كالنموذج الذي طبقته اليابان في نهاية القرن التاسع عشر ) بدل حماستها المفرطة على اصدار قانون النفط و الغاز .
ان القطيعة بين منهج خاطيء لبناء الاقتصاد ( كما هو حاصل الان) , و بين منهج معاصر لبناء الاقتصاد الحديث ( كما يحدث في الاقتصادات الناشئة على اقل تقدير ) يكمن اساسا في بناء قطاع خاص وطني قادر على العمل بديناميته الذاتية ، و ليس بالاتكال الابدي على الدولة . فالدولة يمكن ان توفر الحاضنة و تقوم بالارضاع الاصطناعي لمدة محدودة جدا , و لكن ليس الى الابد ( كما كان يحدث دائما ) . و على القطاع الخاص و رجال الاعمال العراقيون ان يدركوا ان القطاع الذي يعتمد اعتمادا مطلقا على الدولة لن يحبو ابدا ، و سيبقى كسيحا كالدولة التي اوجدته ابتداءا.
و لاندري لماذا لا تقول الولايات المتحدة هذا كله لآحد في العراق الجديد ، و اساتذة الاقتصاد فيها هم من زرعوا مبكرا في اذهاننا الفتية ان لا رأسمالية و لا سوق حرة و لا اقتصاد حديث دون قطاع خاص قـوي و فاعل و دولة قوية و فاعلة و حارسة و ضابطة لايقاع كل شئ. دولة تمارس دور الحكم و لا تشارك في اللعبة الا في اضيق الحدود , فكيف اذا سادت الفوضى ميدان اللعب و المدرجات , و انتقلت حتى الى غرف ملابس اللاعبين المحليين و الاقليميين ( الاصلاء منهم و الاحتياط ) .
و اخيرا ما هو مقياس التقدم و النجاح في" العراق الامريكي " ؟. و اذا كان ينبغي للمهمة ان تكون مستمرة , فينبغي ان نعرف الى ما يمكن ان تقودنا اليه بايقاع عملها الحالي. و اذا كان على النصر في العراق ان يكون ناجزا فينبغي للامريكيين قبل العراقيين ان يعرفوا على من تقع تبعات هذا النصر ، و من سيتحمل كلفته ، و من سيحظى بعوائده في نهاية المطاف .
و في كل مجتمع تقريبا نجد ما يمكن ان نطلق عليه مفهوم "الفئات الهشة من السكان " او " الفئات الاكثر عرضة للخطر " و نسبة هؤلاء في اي مجتمع هي التي تعكس قدرة الحكومة ( او الدولة ) على توفير الحد الادنى من متطلبات التنمية البشرية المستدامة لمواطنيها . و ليس من الانصاف تحميل حكومات ما بعد الاحتلال تبعات الاثار السلبية الممتدة لاخطاء و خطايا النظام السابق . و لكن واقع الحال بعد 9/4/2003 يشير الى تحول فئات و شرائح المجتمع العراقي باسره الى فئات هشة من السكان ، وذلك كنتيجة منطقية لكونها اكثر الفئات و الشرائح عرضة للخطر ( وهذه ايضا نتيجة منطقية لكون العراق قد اصبح بعد 9/4/2003 واحدا من اكثر البلدان خطرا في العالم ) . و هكذا لم تعد الفئات الهشة من السكان تشمل الاطفال و ذوي الاحتياجات الخاصة و العجزة و النساء المعيلات لاسرهن ( دون تمكينهن من المؤهـلات و الموارد ) .. بل امتدت لتشمل فئات و شرائح الطبقة الوسطى في المجتمع العراقي ، و هي طبقة باتت مهددة بالانقراض نتيجة العنف السافر الموجه ضدها من قبل قوى مجهولة تجوب العراق طولا و عرضا كالاشباح ، وتمعن في قتل هذه الطبقة و تهجيرها و شلها بالتهديد و الابتزاز ، دون ان تجد جنديا واحدا يمتلك الشجاعة او القدرة او الرغبة في التصدي لها ( رغم وجود 600000 ستمائة الف منتسب للجيــش و قوى الامن العراقية و ما يزيد عن 160000مائة وستون الف من منتسبي القوات متعددة الجنسية ).
وحين يتفشى الفساد و العنف و الفشل ( و العراق يتبوأ مراتب متقدمة في كل ذلك على وفق تقارير المنظمات الدولية المتخصصة ) لا يعود ثمة مجال للحديث عن بناء دولة . و مرة اخرى ، لماذا لا تتحدث الولايات المتحدة الامريكية بين العراقيين ( و بين فئاتهم الحاكمة تحديدا ) عن كيفية قيام الاباء المؤسسون فيها ببناء دولتهم ؟ لماذا لا تنشر سيرتهم على الملآ ليعرف "الابناء المؤسسون" في العراق المعاصر ذلك البون الشاسع بين حكمة الاباء في اصرارهم على بناء دولة و رعاية امة , و حماقة الابناء في اصرارهم على تشكيل حكومة فاشلة تليها حكومة اكثر فشلا ، بينما يتهاوى ما تبقى من مؤسسات و ضوابط دولة انشأت في عام 1921 ، و تتشرذم "تشكيلة اجتماعية –اقتصادية عراقية " يصر البعض على انها كانت موجودة منذ اربعة الاف عام ؟.
ان السلوك الاقتصادي للحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 1958 و حتى عام 2008 يفصح بوضوح عـن " مقامرة مجتمعية "و"مقامرة اقتصادية مذهلة "؛ و هو في مجمل معطياته و نتائجه عبارة عن سلسلة مريعة من"الحماقات الاقتصادية" .
غير ان الجديد في الامر هو اننا تعودنا على التعايش مع هذا الواقع في ظل تعاقب انظمة استبدادية ذات سلوك سياسي و اقتصادي محدد . و تعاملنا مع النتائج الكارثية المترتبة على هذا السوك باعتبارها تحصيل حاصل . اما الان ، وفي ظل الرعاية الامركية " الكريمة " لبلدنا ، فان من الصعب الاستمرار في تقبل ذلك . و على الولايات المتحدة الامريكية ان تدرك ان فشلها في العراق هو بداية لهزيمتها الاخلاقية في العالم باسره . و يقينا ان هذا لم يكن الهدف ( الاقتصادي او السياسي او الاخلاقي ) لاحتلال العراق . فلا يعقل ان تحتل الولايات المتحدة الامريكية بلدا كالعراق ، و تعيده في الوقت ذاته ، و خلال خمسة سنوات فقط ، الى عصور ما قبل الصناعة. 




* اكاديمي عراقي

FRFASHA

خمسه فرفشه

  • Currently 17/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 159 مشاهدة
نشرت فى 24 ديسمبر 2010 بواسطة FRFASHA

ساحة النقاش

خمسه فرفشه

FRFASHA
عدد الثورة الأحد 03/28/2012 ====================== فى هذا العدد تجدون أ/ مصطفى صادق ، أ/ محمد السيد , أ/ بدور الغمراوى , د/ هانى نعمان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

45,361