في الفلسفة

دروس ومقالات في مادة الفلسفة

 

لا لمادة الفلسفة

في سنتي الأولى من التدريس، كتب أحد تلامذتي على السبورة في غفلة مني" لا لمادة الفلسفة". وقد أثارت في هذه العبارة مجموعة من المشاعر المتناقضة، انقلها لكم كما سطرتها يوم كتبتها.

 

" ومن التناقضات المضحكة المبكية أن تعلن اللجان الوصية على تدريس الفلسفة في المغرب أنها تحارب بيداغوجيا الحفظ والكم والسلبية في حين تجبر التلاميذ ومدرسيهم على تلقي وتلقين 4 مجزوءات بإثني عشر درسا. في حين أن المقرر السابق كان أصغر من هذا وكنا نواجه فيه صعوبات لا تعد ولا تحصى، أما التلاميذ فمعاناتهم حدث ولا حرج. فأمام الكم وبعبع الامتحان تفقد كل الأفكار جاذبيتها وتتحول إلى مقولات محفوظة ووسائل بائسة للتحصيل على النقط في الامتحان.

إن لي موقفا يعز علي أن أقوله وهو أن الفلسفة كما تدرس في المغرب هي مادة معذبة للتلاميذ والمدرسين. ويؤسفني أن أنعيها لكم.

وأقترح  ـ إن كانت الفلسفة كمادة مدرسية سيستمر تدريسها بهذا الشكل ـ أن تلغى من الامتحان الوطني فهي تعيش مأساة وتعيش التلاميذ في مأساة.

إن الفلسفة كممارسة هي ضد فكرة الامتحان، وهذا الأخير غالبا ما يخاطب ملكة الحفظ. فإذا كان جل المطلوب من الفلسفة كمادة مدرسية أن تساعد التلميذ على تكوين فكر نقدي  عقلاني يقف ضد العنف والدغمائية، فإن مادة الفلسفة تفشل فشلا ذريعا في تحقيق هذا الهدف.

أنا أقترح أن تتحول مادة الفلسفة إلى مادة للتفتح الفكري، تشبه مواد الرسم والغناء. لا تلزم التلميذ بالامتحان في نهاية السنة ولا باستظهار مواقف الفلاسفة وأسمائهم، بل تهبه فرصة للنقاش العقلاني المنطقي والنقدي لمواضيع وإشكاليات ومفاهيم تهمه وتهم حياته وسنه.

وإذا كان البعض يظن أن تعليم الفلسفة يتم من خلال إجبار التلاميذ على عيش نفس التجربة التي عاشها الفلاسفة، أو من خلال الاهتمام بنفس المواضيع التي اهتموا بها فقد جانب الصواب مجانبة لا مزيد عليها. فالتلميذ أخر من يعنى بالنظرية والتجربة و برحلة الروح المغتربة الباحثة عن كمالها، و بالمنهج التاريخي، وفينومينولوجيا الإدراك..وأخر من يستطيع أن يقرأ الكثير من النصوص الفلسفية التي تعج بها المناهج. فللسن حكمه وللوسط إكراهاته وللعصر متطلباته. وكل إغفال لهذه المعطيات هو قفز على الحواجز وإصرار سادي على تعذيب التلاميذ وإعطاء مبررات للغش، وإجبار للمراهقين على الاهتمام بإشكاليات الكبار ونسيان مشاكلهم الصغيرة.

إن مظاهر الأزمة لا تخفى على أحد: غش، ضجر، عدم فهم وتضخم. لقد تحولت هذه المظاهر إلى علل مزمنة لا نرى خلاصا قريبا منها.

إذا كان الأوصياء على تدريس الفلسفة يرغبون في ضمان استمرار التفكير الفلسفي مع التلميذ طوال عمره كنبراس يهتدي به في ضلم الاستسهال والإغواء والاستبلاد، فيؤسفني أن أقول إن منهج النصوص والمجزوءات والمفاهيم هي طريقة غير موفقة تماما.

وإذا كان الأوصياء على تدريس الفلسفة في المغرب يعرفون أن الوسائل المقترحة لتدريس الفلسفة لا تحقق الأهداف المسطرة في التوجيهات التربوية لهذه المادة، فتلك مصيبة، وإن كانوا يدرون فالمصيبة أعظم.

أنا اعتقد أن الغاية العظمى لتدريس الفلسفة هي تكوين تلميذ قادر على التفكير تفكيرا نقديا منطقيا، ومتمتعا بمواصفات شخصية تتميز بالانفتاح والثقة بالنفس والمعاصرة. فكيف يمكن لمجموعة من النصوص الفلسفية المجتتة بطريقة محزنة من سياقاتها، ومجموعة من الصور المنتقاة بعشوائية تامة أن تحقق مثل هذه الغاية؟ سيقولون إننا نطبق أحدث أنواع البيداغوجيات، ومناهجنا هي مشابهة للمناهج الفرنسية المتطورة وللتونسية الشقيقة. وسنقول لهم إن هذا ليس دليلا عقليا ولا أخلاقيا، فلا الجدة دليل على الصحة ، ولا التقليد يشفع لصاحبه. وقديما قيل : لا يكن أحدكم إمعة، وقالوا أيضا لا قياس مع وجود الفارق.

أنا أقترح مجددا أن يتم فتح مادة الفلسفة على علم النفس وعلم الاجتماع وذلك لتحقق أهدافها الثلاث: تفكير عقلاني في شخصية متوازنة ومواطنة. وبدل اسم الفلسفة حبذا لو يقترح أي اسم آخر يشير إلى  التفتح الفكري. فتغير الاسم قد يزيل شيئا من العوائق النفسية المتكلسة في نفوس التلاميذ اتجاه مادة المجانين المسقطة والبغيضة.. وأضف ما شئت من الشتائم.

أما الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .فسيكون الفضاء الجامعي هو أسعد الفضاءات بطلابه المسلحين بالفكر النقدي المتفتح المتحررين من ضغط المقررات. إن التلميذ الناقد والعقلاني هو الطالب المقبل الممتاز للفلسفة، بل وأكاد أجزم أنه سكون مشروع متفلسف مبشر بكثير من التجديد وقليل من التقليد. فمن بين الآفات التي سببها تدريس الفلسفة بالشكل الذي تدرس به هو التأصيل لآفة التهويل كما يسميها أستاذنا طه عبد الرحمن. فقد ترسخ في ذهن التلاميذ أن التفلسف والتفكير العقلاني هو تفكير غربي ـ أغلب فلاسفة المقررات المدرسية أجانب ـ صعب وغير مفهوم وبعيد عن أرض الواقع. فزهدوا في ممارسته وخافوا الاقتراب منه. وأضف إلى هذه الآفات آفة الغموض، حيت يظن التلميذ أن التفكير البسيط الواضح هو تفكير غير فلسفي وغير عقلاني، وآفة الغربة حيت يظن أن الفلسفة لا تهم مشاكله هو وإنما مشاكل أناس أغراب.

وإذا اعترض علينا البعض بأننا إذا حذفنا الفلسفة كما هي اليوم من التعليم الثانوي فإننا سنحرم التلميذ من معارف أساسية لن يستطيع بدونها متابعة دراسته الجامعية، فإننا نرد بالقول اسأل من شئت من التلاميذ الطلبة عن أي شيء درسوه في الثانوي ولن تجد إلا بقايا مشوهة من معارف مبثورة. فالتلميذ ينسى ـ إذا كان هدف التعليم عندكم هو الحفظ ـ ما درسه بمجرد ما يغادر قاعة الامتحان. ولن أنسى أننا عندما كنا تلاميذ كنا نحرص بعد الخلاص من الامتحان على "الشتف"  فوق المقررات انتقاما منها.

إننا في عصر تتراكم فيه المعرف بشكل يعجز أي عقل بشري مهما اتسع على استيعابها جميعا، وهي متوفرة بسهولة وبشكل دائم. الأمر الذي "يقدح بشكل مباشر في الفائدة المتوخاة من الذاكرة"، ويرفع من قيمة المنهج والطريقة والمهارة.

لكن هذه البدائل التي نقترحها تشترط أن لا ننتقل من تدريس الفلسفة إلى تدريس علم الاجتماع أو علم النفس كمواد منفصلة نعرف بتاريخها ومناهجها.بل نحاول استثمار نتائجها في بلورة منهج دراسي هدفه تحقيق العقلانية والتوازن والمواطنة عبر خطوات وأنشطة وممارسات متدرجة ومقننة ديداكتيكيا وبيداغوجيا.

إن التركيز على الفلسفة بمفردها (وهل سبق أن كانت الفلسفة بمفردها) إن تم بالشكل الذي نتمناه، فإنه لن يمس بشكل مباشر إلا القدرات النقدية والمنطقية في مجال الفلسفيات، ولن يطال تأثيره الجانب الوجداني والاجتماعي للتلميذ. ولهذا فمادة التفتح الفكري التي نقترحها هي مادة: تعلم التفكير النقدي المنطقي، وتساعد على بناء شخصية متوازنة سيكولوجيا، ومنخرطة بوعي في قضايا وطنها.

هل هذا هجوم إيديولوجي على الفلسفة؟ أم مجرد اقتراحات حاقدة؟ أم هي تعميمات غير دقيقة ومصادرات ظاهرة البطلان؟ .. لكم أن تظنوا ما شئتم. ولكن لا تحرمونا من تسجيل الاحتجاج.

 

المصدر: عبد المجيد سعيد
FALSAFA

إذا لم تكن قادرا على شرح شيء ببساطة فانت لا تفهمه بالشكل الكافي. أينشتاين

  • Currently 36/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
13 تصويتات / 260 مشاهدة
نشرت فى 10 نوفمبر 2010 بواسطة FALSAFA

ساحة النقاش

عبد المجيد سعيد

FALSAFA
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

13,106