الإصلاح فى القرآن (3)
عبد العزيز مصطفى الشامى

مجالات الإصلاح في القرآن:

غاب عن كثير من المسلمين تفعيل القرآن في الحياة واتخاذه منهجاً للحياة، فصار القرآن يُقرأ في المآتم أو على الأموات، ويستأجرون من يَقرأ عليهم، وهو ما طبع في أذهان كثير من العوام أن القرآن يُقرأ في الأحزان فقط، في حين أن القرآن جاء للطمأنينة وسكينة النفس، وإحياء القلوب والعقول والأبدان؛ حيث إن القرآن وضع الشرائع التي بها حياة الناس، ولكن بعض المسلمين يحرص على قراءة القرآن دون تدبُّر معانيه.

وقد ظن بعض الناس أن مرور الزمان يقلل من صلاحية القرآن في الإصلاح والهداية! وهذا خطأ على الإطلاق؛ فالقرآن كتاب هداية وإصلاح متى فهمه الإنسان فهماً صحيحاً، وإن هداية القرآن ليست مرتبطة بظرف أو زمان؛ ففي كل الظروف هناك هداية ربانية.

القرآن الكريم له صفة الإطلاق والقطعية التي لا يتصف بها غيره من الكتب السماوية، كما أن القرآن يُعنَى بالكليـات والأمـور العامة والأصـول الثـابتة التـي لا علاقة لها بالمتغيرات، وكما أن إعجاز القرآن هو إعجاز علمي يصلح في كل زمان ومكان؛ حيث نزل للناس جميعاً على كافة مستوياتهم. يقول الشيخ عز الدين رمضاني: «مما يدل على فضيلةِ الإصلاح: اتِّساعُ ميادينه ورحابة مجالاتِه؛ فَبِقَدْرِ ما تكثُر بين النَّاس المنازعاتُ، وترتفعُ في مجالسهم الخصوماتُ، ويتهدَّد بناء الأُسَرِ والبيوتَات، وتَسوء علاقات الأفـرادِ والجمـاعاتِ، بقـدرِ ما تكثُر ميادينُ الإصلاح وتَتَّسِعُ حلولُه وتتعدَّدُ أساليبُه وطرقُه حتَّى إنَّه لَيَسَعُ النَّاسَ في دمائِهم وأموالهم وأقوالهم وأفعالهم وكلِّ ما يقعُ فيه الإفسادُ والاعوجاجُ وتَطولُه يَدُ البغيِ والإجرامِ.

إنَّه إصلاحٌ شاملٌ وعادلٌ يجمع بين متخاصِمين، ويقرِّب بين متباعدين، ويَمْحُو شحناءَ المتعاديَين، يبدأ من الأهل وذَوِي الأرحامِ، ليعمَّ الأنسابَ والجيـرانَ والخِلاَّن والإخوان إلى أن ينتهي بعموم الناس على اختلاف مشاربهم وطبائعهم بلا تخاذلٍ أو تهاونٍ، ودون تَعَلُّلٍ أو تَسويغ. قال الله - تعالى -: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 224]؛ أي لا تَتَعَلَّلُوا بالأَيْمَانِ لتتركوا البِرَّ والتَّقوى والإصلاح بين الناس.

للإصلاحِ في الأسرة وبيتِ الزَّوجيةِ دورٌ في الحفاظ على كَيَانِهَا وأفرادِها قبل اسْتِعْصَاء الحلول وتفـاقُمِ المُشـكِلاتِ. قال - تعالى -: {وَإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إن يُرِيدَا إصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]، وقال - تعالى -: {وَإنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْـحاً وَالصُّلْـحُ خَيْرٌ} [النساء: 128].

وله بين أصحابِ الحقوق في الوصايَا والأوقاف والولاياتِ إسهامٌ في حفظِ عقودِهم ومعاملاتهم ورعاية شؤُونهم وصَوْنِها من الجَوْرِ والانحراف، ومِن تعرُّضِها للإهمال والضَّياع. قال - تعالى -: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 182] ، وقال في شأن اليتامى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإن تُخَالِطُوهُمْ فَإخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْـمُفْسِدَ مِنَ الْـمُصْلِحِ} [البقرة: 220].

وأمَّا في نطاق جماعةِ المؤمنين وطوائفِ المسلمين فَلَهُ سُلْطَانُ الحُكْمِ عليهم وإلزامُهم بما يحفَظ عليهم وِئَامَهُمْ ويقوِّي أَوَاصِرَهُم ويدفعُهم إلى تقوى الله وطاعته كما في قوله في مطلع سورة الأنفال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].

وحتى في الحالات الشَّاذَّة التي قد يصل فيها الأمر إلى التَّقاطع والتَّدابر؛ بل إلى التَّقاتل والتَّناحُرِ، فإنَّ الله نَدَب إلى الإصلاح لما فيه من قطع السَّبيل على الأعداء، وحفظِ الأموال وحَقنِ الدِّماء، فقال - جلَ ذِكرُه -: {وَإن طَائِفَتَانِ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9].

وإذا كان إفسادُ ذاتِ البَيْنِ يَحْلِقُ الدِّينَ، ويُذْكِي العَدَوات ويفرِّق بين الأحباب ويزيل وُدَّ الأصحاب، فإنَّ إصلاحَ ذاتِ البَيْنِ يُذهب وَغَرَ الصَّدْرِ، ويَلُمُّ الشَّمْلَ، ويعيدُ الوِئامَ ويُصلِح ما فَسَد على مَرِّ الأيَّامِ؛ فهو لهذا مَبْعَثُ الأمنِ والاستقرار، ومَنْبَعُ الأُلْفَةِ والمحبَّة، ومصدرُ الهدوء والاطمئنان، وآيةُ الاتحاد والتكاتف، ودليلُ الأخوَّة وبرهانُ الإيمان. قال - تعالى -: {إنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].

وللإصلاح في كتاب الله فِقْهٌ لا بدَّ أن يُفهم ويُسمَع، ومَسلكٌ يَجِبُ أن يُقْتَفَى ويُتَّبَعَ، وإلاَّ آلَتْ جهودُ المُصلحين إلى الفشل، وعَجزت مساعيهم عن إصلاح العَطَلِ أو تَدَارُكِ الخَلَلِ، وأوَّل ما ينبغي العمل به في أوَّل خطوة من خطوات التَّغيير والإصلاح: تصحيحُ النِّيَّة وتسخيرُ القصدِ لابتغاء مرضاةِ الله وحدَه، وتجنُّبِ الأهـداف الشَّـخصية والأغراض الدُّنيوية الزَّائلة.
قال - تعالى -: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 114].

وهذا فقهٌ في الإصلاح دقيقٌ؛ لأنَّ فَشَلَ كثيرٍ منْ مَسَاعِي الصُّلْحِ فَبِسَبَبِ تَسَرُّبِ الأخبارِ وفُشُوِّ الأحاديث وتَشْوِيشِ الفُهُوم ممَّا يعكِّر أجواء الاتِّصال، ويقضي على رُوح المبادرةِ والامتثالِ.

والحاصل أنَّ للإصلاح في القرآن ميداناً رَحباً، تضيقُ الخُطَبُ والمقالاتُ عن سَرْدِهِ وتناوُله، ويَكفيه شرفاً وفضلاً أنَّ كلَّ ما أدَّى إلى الطَّاعة وامتثال الأمر والتمسُّك بالكتاب فهو إصلاحٌ والمتحلِّي به هو من المُصْلِحِين {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْـمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170].

وأنَّ المُصلِحَ يكون في نجاةٍ وأَمْنٍ ونعمةٍ إذا حلَّ بالمفسدين العقابُ والخوفُ والنِّقْمَةُ، {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ 116 وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116-117].

وأنَّه لا صَلاح ولا إصلاح يُعيد للأمَّة الإسلاميَّة اليومَ ما فَقَدَتْهُ من عزِّ الأخلاقِ وسُمُوِّ المنزلةِ وشَرَفِ السُّؤْدَدِ إلاَّ بما صَلَحَ عليه الأوَّلون من رجالاتها وأبنائها، ونسائها وبناتها.

المقال الثانى :

إصلاح | الإصلاح فى القرآن (2)

Eslahmt

# إصلاح #

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 93 مشاهدة
نشرت فى 8 يناير 2013 بواسطة Eslahmt

تسجيل الدخول

ابحث

عدد زيارات الموقع

18,962

صفحة الفيس بوك