الإصلاح فى القرآن (2)
عبد العزيز مصطفى الشامى
القرآن منهج إصلاح:
كثر ذكر الإصلاح والمصلحين في القرآن الكريم، في مقابل ذم الإفساد والمفسدين؛ لتكتمل الصورة الربانية التي يريدها الله رب العالمين للبشر والمجتمعات البشـرية، ومن ذلـك قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْـمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170].
يقول سيد قطب - رحمه الله -: «غير أن الآية تبقى - من وراء ذلك التعريض - مُطْلَقة، تعطي مدلولها كاملاً، لكل جيل ولكل حالة. إن الصيغة اللفظية: {يُمَسِّكُونَ} تصور مدلولاً يكاد يُحَس ويُرَى. إنها صورة القبض على الكتاب بقوة وجِد وصرامة. الصورة التي يحب الله أن يُؤخذ بها كتابه وما فيه في غير تعنُّت ولا تنطُّع ولا تزمُّت، فالجِدُّ والقوة والصرامة شيء والتعنت والتنطع والتزمُّت شيء آخر. إن الجد والقوة والصرامة لا تنافي اليسر، ولكنها تنافي التميع، ولا تنافي سعة الأفق ولكنها تنافي الاستهتار، ولا تنافي مراعاة الواقع ولكنها تنافي أن يكون «الواقع» هو الحكم في شريعة الله، فهو الذي يجب أن يظل محكوماً بشريعة الله!
والتمسك بالكتاب في جِدٍّ وقوة وصرامة، وإقامة الصلاة - أي شعائر العبادة - هما طرفا المنهج الرباني لصلاح الحياة. والتمسك بالكتاب في هذه العبارة مقروناً إلى الشعائر يعني مدلولاً معيَّناً؛ إذ يعني تحكيم هذا الكتاب في حياة الناس لإصلاح هذه الحياة، مع إقامة شعائر العبادة لإصلاح قلوب الناس؛ فهما طرفان للمنهج الذي تصلح به الحياة والنفوس، ولا تصلح بسواه.
والإشارة إلى الإصلاح في الآية: {إنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْـمُصْلِحِينَ} يشير إلى هذه الحقيقة، حقيقة أن الاستمساك الجاد بالكتاب عملاً، وإقامة الشعائرِ عبادةً هما أداة الإصلاح الذي لا يضيع الله أجره على المصلحين.
وما تفسد الحياة كلها إلا بترك طرفي هذا المنهج الرباني؛ ترك الاستمساك الجاد بالكتاب وتحكيمه في حياة الناس؛ وترك العبادة التي تُصلِح القلوب فتطبِّق الشرائع دون احتيال على النصوص كالذي كان يصنعه أهل الكتاب، وكالذي يصنعه أهل كل كتاب حين تفتر القلوب عن العبادة فتفتر عن تقوى الله.
إنه منهج متكامل يقيم الحكم على أساس الكتاب، ويقيم القلب على أساس العبادة. ومن ثَّم تتوافى القلوب مع الكتاب؛ فتصلح القلوب، وتصلح الحياة. إنه منهج الله، لا يعدل عنه ولا يستبدل به منهجاً آخر إلا الذين كتبت عليهم الشقوة وحق عليهم العذاب».
وقد علَّق الله رب العالمين عدمَ إهلاكه للناس بوجود المصلحين، الذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون، فقال - جل وعلا -: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]. قال الإمام القرطبي - رحمه الله -: (قوله - تعالى -: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى} أي: أهل القرى. {بِظُلْمٍ} أي: بشرك وكفر. {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} أي: في ما بينهم في تعاطي الحقوق، أي لم يكن ليهلكهم بالكفر وحدَه حتى ينضاف إليه الفساد، كما أهلك قومَ شعيب ببخس المكيال والميزان، وقومَ لوط باللواط. ودلَّ هذا على أن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك، وإن كان عذاب الشرك في الآخرة أصعب.
وفي صحيح الترمذي من حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده»).
والقرآن في حَثِّه على الإصلاح ومدحه للمصلحين، يقرر أن المصلحين لا يعيشون لأنفسهم ولا لأجيالهم فقط، بل ينظرون بعيداً في آفاق المستقبل في ما ينفع الأمة وما فيه عزها ومجدها، فلا ينظرون أسفل أقدامهم، بل غاية همهم إصلاح الشبيبة والشيَّب والصغار والكبار، واليوم وأمس وغداً.
قال الطاهر ابن عاشور - رحمـه اللـه -: «وفي كـلام نـوح - عليه السلام - دلالة على أن المصلحين يهتمون بإصلاح جيلهم الحاضر، ولا يهملون تأسيس أسس إصلاح الأجيال الآتية؛ إذ الأجيال كلها سواء في نظرهم الإصلاحي، وقد انتزع عمر بن الخطاب من قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10] دليلاً على إبقاء أرض سواد العراق غير مقسومة بين الجيش الذي فتح العراق، وجعلها خراجاً لأهلها؛ قصداً لدوام الرزق منها لمن سيجيء من المسلمين».
ويعرض القرآن لدَور حاملي الرسالة والوحي الإلهي في الإصلاح في الأرض، فيقرر نبي كريم ويلخص رسالته في الإصلاح، فيقول: {إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
قال سيد - رحمه الله -: «الإصلاح العام للحياة والمجتمع الذي يعود صلاحه بالخير على كل فرد وكل جماعة فيه؛ وإن خُيِّل إلى بعضهم أن اتباع العقيدة والخلق يفوِّت بعض الكسب الشخصي، ويضيِّع بعض الفُرَص؛ فإنما يفوِّت الكسب الخبيث، ويضيِّع الفرص القذرة؛ ويعوَّض عنهما كسباً طيباً ورزقاً حلالاً، ومجتمعاً متضامناً متعاوناً لا حقد فيه ولا غدر ولا خصام.
{وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ} فهو القادر على إنجاح مسعاي في الإصلاح بما يعلم من نيتي، وبما يجزي على جهدي. {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} عليه وحدَه لا أعتمد على غيره. {وَإلَيْهِ أُنِيبُ} إليه وحدَه أرجع في ما يحزبني من الأمور، وإليه وحدَه أتوجه بنيَّتي وعملي ومسعاي».
ويذكر القرآن العظيم أن الأمم السالفة لَـمَّا فقدت الإصلاح ورفضت المصلحين، ونشرت الفساد وقربت المفسدين عندما وصلوا إلى استمراء الفساد، عاقبهم الله رب العالمين بأن سلط عليهم آلام الهلاك، وسوء العذاب بما كسبت أيديهم. قال أحكم الحاكمين: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ 116وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116-117].
قال سيد قطب - رحمه الله -: «وهذه الإشارة تكشف عن سنة من سنن الله في الأمم. فالأمة التي يقع فيها الفساد بتعبيد الناس لغير الله، في صورة من صوره، فيجد من ينهض لدفعه هي أمم ناجية لا يأخذها الله بالعذاب والتدمير، فأما الأمم التي يَظلِم فيها الظالمون ويفسد فيها المفسدون، فلا ينهض من يدفع الظلم والفساد، أو يكون فيها من يستنكر ولكنه لا يبلغ أن يؤثر في الواقع الفاسد، فإن سنة الله تَحقُّ عليها إما بهلاك الاستئصال. وإما بهلاك الانحلال والاختلال.
فأصحاب الدعوة إلى ربوبية الله وحدَه وتطهير الأرض من الفساد الذي يصيبها بالدينونة لغيره، هم صمام الأمان للأمم والشعوب. وهذا يبرز قيمة كفاح المكافحين لإقرار ربوبية الله وحدَه، الواقفين للظلم والفساد بكل صوره؛ إنهم لا يؤدون واجبهم لربهم ولدينهم فحسب، إنما هم يحولون بهذا دون أممهم وغضب الله واستحقاق النكال والضياع».
والوحي الذي يمدح الإصلاح ويحث عليه هو وحي الحكيم الخبير، الحكم العدل؛ ولذلك جاء على لســان رسـول الله من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم حديث رائع في تصديق هذه الآية السابقة؛ فعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها -: قالت: (إِنَّ قُرَيْشاً أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمِ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ»، ثُمَّ قَامَ، فَاخْتَطَبَ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا») .
يتبع ..........
المقال الأول |الإصلاح فى القرآن (1)