الانشطار النووى الشعبى .. إلى أين؟
لم تقم الثورة لكى تتفرق الأمة، بل قامت لكى تندمج وتتكتل وتتوحد الأهداف .. لم تقم الثورة لكى تنشطرأطيافنا لنفشل وتذهب ريحنا (السمعة), بل قامت الثورة لنتفق على طريق واحد وننجح من أجل مصر.
صحيح أن الشعب طوال ثلاثين عاماً قد عانى الكبت والشلل النصفى أحياناً، لكن ليس معنى ذلك أن تؤدى بنا الحرية إلى فوضى الحركة والقول غير المسئول .. ونطلق اليد واللسان دون مبرر.. وصحيح أن الشعب قد عانى الإقصاء من النظام البائد ، والذي عبرت عنه كإنفعال خطيرفى كتبى ومنشوراتى قبل الثورة، فكتبت عن حالة الشعور بالقرْف (بسكون الراء) التى يعانى منها الشعب ويعنى الشعور بالاستئصال أو الإقصاء .. وأن ذلك يمهد لانتفاضة شعب من أجل الاصلاح ، وصرخت فى كتاب (العنف فى مصر .. لماذا وإلى أين؟) قبل الثورة وعبرت علمياًً عن أن السلام الإجتماعى فى خطر .. حتى أنى طالبت قبل الثورة بتشكيل هيئة قومية من كبار علماء علم النفس والاجتماع والطب النفسى ليدرسوا حال المجتمع المصرى ..
لكن هذا لايبرر حالة استمرار الخطر الأشد الذي يواجه السلام الإجتماعى في مصر بعد الثورة ..
لقد تحزب الشعب وذهبت الأمة إلى شيع وطوائف بدون مبرر ، ولا يبرر ذلك أبداً الاضطراب المعهود الذى يلى الثورات، فثورتنا نقية قام بها الشعب كله بأطيافه المختلفة ودون قائد محدد ، وهذا يجعلنا لا نتسامح أبداً فى تخوين بعضنا بعضاً، وإقصاء بعضنا بعضاً وممارسة كل ما كان يمارسه النظام البائد معنا من استبداد وتسلط وعدوان ، لذا لا يجب أن تطول هذه الفترة السلبية على شعب يتطلع إلى جنى ثمار الثورة سريعاً..
لقد أصبح التيار الإسلامى شيعاً وطوائف وكأنها أديان مختلفة ، والتيار السياسى كذلك ، وليست القوى الوطنية بأفضل حال ، إضافةً إلى شباب الثورة التى تعددت أطيافهم وتشابكت حواراتهم ، والغريب أن هناك من الشظايا ما يحاول العودة بنا إلى أفكار القرون الوسطى بفكر تسلطى متطرف، ربما حباً فى الظهور بعد اختفاء طويل ، وربما بحثاً عن مكان سياسى أو وطنى ، متخبطاً فى طريقه.
والأهم من ذلك، والذى يشتد له حزنى ، هو حال شباب مصر فى الريف والحضر .. فمازالوا يتنازعون ويتبارزون ويتنابذون بالألقاب والاتهامات .. ربما أيضاً بحثاً عن الدور المفقود .. وذلك في ظل غياب مهام جادة ودور ثقافى رسمي على مستوى وزارة ثقافة الثورة وأجهزة الإعلام ، تلك التى لا تبث فى الغالب سوى موضوعات للإثارة والتى ليس لمعرفتها قيمة ، ولا الجهل بها يضر.
توقعت من وزارة الثقافة حملات ثقافية دورية منتظمة فى مدن مصر وقراها ، وتوقعت من قنوات الدولة الفضائية دوراً لتوجيه الوعى ونشر ثقافة الثورة ومتطلباتها، وأن تهب المؤسسة الدينية فى بلدى فتكون أكثر إيجابية بفعاليات فورية تكرس الفكر الوسطى دون هجوم ، وتبث قناة خاصة فضائية لهذا الأمر، ولتستثير السمات النفسية للشخصية المصرية في هذا الشعب الأصيل ، كاحترام الكبير والتسامح والتعاون والتجمع حول أهداف كبرى ، وتوقعت من الجمعيات المدنية دوراً موجهاً نحو توحيد الكلمة ونشر الوعى الديمقراطى .. كل ذلك لم يتم ..!!
فإلى متى الانتظار؟ وإلى أين هذا الانشطار؟
هل ترون أن التقدم سبيله هو فى انشطار الأمة إلى شظايا ؟ هل ترون أن تفتيت نسيج المجتمع هو سبيل بناء مصر؟ هل ترون أن محاكمة المفسدين هو الهدف النهائى لهذه الثورة النبيلة ؟ هل ترون أن الثورة تعنى مجرد تغيير حاكم بحاكم آخر؟ أم هل ترون أن استكمال مشروع الثورة لابد أن يتوقف وننتظر عما تسفر عنه المحاكمات.. وانتظار فلوس المفسدين في الزنزانات !؟
كنت اتوقع بعد شهور من قيام الثورة النقية أن يسود التوجه الرسمى والشعبى نحو وضع مصر فى طريق التكنولوجيا النووية .. وليس انشطار نواة مصر إلى شظايا شعبية سلبية .. كنت أتوقع أن أرى الشعب أكثر توجهاً للعمل والانتاج .. ويكون أكثر مثابرة فى تحمل الصعاب بدلاً من الاحتجاج .. كنت أتوقع أن أرى تغييراً فى الفكر الشعبى نحو الأفضل كى نرتقى لمستوى الأحداث من حولنا .. بدلاً من تفاهات تحولنا إلى متجمدي الفكر ساكني الحركة .. وبدلاً من التشكيك في بعضنا البعض ، حتى وصل الأمر الى محاولة الوقيعة بين الشعب وقواتنا المسلحة التي نهضت لحماية الثورة ولم تمسسها يد الفساد .. كنت أتوقع إسراعاً نحو مشروع لغزو سيناء للتنمية والنهوض بها .. وهى تنادينا كل دقيقة بإمكاناتها الطبيعية الثرية .. كنت أتوقع وزارة للتعليم ذات رؤية .. فجاءت فاقدة للبصر والبصيرة .. جاءت لما أسموه تصريف أعمال!! ذلك التعبير البغيض الذي ينتهي الى المعنى السالب لتعبير الاستقرار الذي كان يتحجج به النظام الغبي الفاسد .. كنت أتوقع وزارة للتعليم العالى تليق خطواتها بالمرحلة الحالية ، فجاءت لمجرد أن تجئ ، بل مازالت بنفس فكر ورؤية النظام البائد، بل غير قادرة لمجرد بث روح جديدة مرحلية فى جامعات مصر العريقة التى تخلفت خمسون عاما على الأقل .. كنت متوقعاً أن تظهر وجوه جديدة خبيرة فى شتى الميادين توارت في ظل نظام لم يكن يستريح لها.. ومصر غنية بهم .. فأصر المسئولون الحاليون في الحكومة على نفس الوجوه .. واتضح ذلك فى كثير من وجوه الوزراء ورواد الحوار ولجنة حقوق الإنسان.
ولكن لأني بطبيعتي متفائل وقارئ للتاريخ والشخصية المصرية ، فاني أعرف أن هذا الانشطار سوف يتوارى شيئاً فشيئآ ليتجمع في عقل جمعي واحد ورؤية واضحة ..ولكني غير سعيد باطالة فترة الانشطار , وماتتركه وراءها من رواسب وتداعيات نحن في غنى عنها في المراحل اللاحقة .
مصر الآن أيها السادة الكرام أحوج ما تكون إلى اندماج فكرى وليس انشطار عقلى .. وتنوير ثقافى شعبى غير مبتور، ووجوه خبيرة متجردة جديدة ذات رؤية واضحة مستبشرة ينشغل برؤاها العقل المصرى وتجد لطوائف الشعب المختلفة دوراً حياتياً ومكاناً يفرغون فيه طاقاتهم المكبوتة فيؤكدون به ذواتهم على نحو موجب ، ويبعدون بها عن مناقشة قضايا ليس لها الأولوية ..
حينذاك سوف نعالج الانشطارالسالب المدمر ونذهب إلى التخصيب السلمي ليورانيوم الحياة المصرية ..
د. حمدى الفرماوى
أستاذ علم النفس التربوى جامعة المنوفية
رئيس الجمعية المصرية للدعم النفسي
kenanaonline.com/educpsychology
ساحة النقاش