الحاكم .. بين وهم الخلود وإفراط التملك
فى البناء النفسى للإنسان تلعب كل من النزعة للخلود والنزعة للتملك المحور المهم للدفع فى سلوك الإنسان وتوجيهه .. ولأن الخالق العظيم يعلم أهمية هذين الدافعين، فقد أعطى لآدم الدرس المهم فى جنة التدريب فى إطار منهج "إفعل ولا تفعل" إذ أمره رب العزة سبحانه وتعالى بألا يأكل من الشجرة .. لكن الشيطان غرر بآدم..وجعل ثمار الشجرة فى وجدانه مصدراً للخلود والملك الذى لا يبلى !! وأخطأ آدم .. فلا خلود فى الدنيا، ولا هناك ملك دائم ..وخرج آدم من جنة التدريب إلى دنياه الواسعة تائباً، ولكن يظل هذين الدافعين يحركان سلوك بنيه إلى يوم الدين ..
ورغم أن الخلود فيه الدفع للشر والملك فيه كذلك ذلك النوع من الدفع، لكن كل منها فيه الخيرأيضاً ، بل يلعبان أدوراً مهمةً فى سبيل تقوى الله .. ولكن يتوقف ذلك على السبيل الذي يتخذه الانسان في إشباع كل منهما .. فإذا أشبع الإنسان دافع الخلود إشباعاً سوياً، حيث الصدقة الجارية والعلم النافع والولد الصالح الذى يدعوا له، كان الانسان في معية الله وحازرضوانه، وظل خلود الآخرة خير وأبقى ..أما إذا أشبع الإنسان هذا الدافع إشباعاً غير سوى، متخيلاً التواصل والبقاء - مثلاً - فى ولد يحمل اسمه، بغض النظر عن صلاح هذا الولد، فقد ظلم الإنسان نفسه وفضل دنياه على آخرته.
وهذا ما يحدث أيضاً بالنسبة لدافع التملك، فالاعتدال واتباع الحق والعدل فى التملك , والحرص على ما هو حلال وتطهير اليد أولاً بأول يدل على تقوى الله والاشباع السوى , والعكس صحيح ، مع الاغتصاب وسلب أموال الناس وإشاعة الظلم والتسلط .
إن تأمل الإنسان لمسيرته عبر هذين الدافعين، وكيف يشبعهما , هو سبيل الانسان لتقويم ذاته وإصلاحها ..
فكيف الحال مع سلوك الحاكم حين يستبد بالرأى ويتطاول على الأموال والأنفس والثمرات، ويسخر الكل فى صالح وهم الملك الذى لا يبلى والخلود الزائل ..؟
الاجابة السريعة , هي : انه الفناء والضياع .. فالحاكم المستبد، خاصة عندما تطول فترة حكمه , يجد نفسه وسط بطانة من شياطين الانس .. وهم أخطر من شيطان الجن فى جنة التدريب لآدم .. انهم يتنوعون ويتلونون أمام الحاكم ويكثرون من شجر الجنة ، ويعددون من ثمارها ليسيل لعاب هذا الحاكم .. وهذا ما حدث للرئيس السابق .. فقد ضل طريقه لإشباع دافع الخلود .
فبدلاً من أن يحافظ على مصر وأرضها حتى يخلده رب مصر فى دنياه وآخرته .. باع مصر أرضاً وتطاول عليها تاريخاً .. فباعته مصر وفقد خلوده وضاع تاريخه على أرض مصر وفي قلوب أبنائها ، وبدلاً من إعداده للولد الصالح الذى يدعو له .. فسد الولد وفقد الأب الدعوة الصالحة .. وبدلاً من الصدقة الجارية التى تضئ له ظلام القبر فقد ثواب الصدقة على طريق الإستئثار لا الإيثار .. وبدلاً من أن يجد الآخرون الأكفاء من شعب مصر مكاناً بجانبه، فعل كل ما يطمس تاريخهم، نازعاً إلى بروز تاريخه هو، وبدلاً من أن يقود مسيرة للعلم ليضع مصر فى مصاف العالم المتقدم، جعل مصر فى حالة جمود وتخلف وانحسار فى كافة المجالات .. وبدلاً من أن يترفع عن جمع الذهب والفضة ، جعل مصر عزبة لآل مبارك وإرثاً يتقاسمه مع شياطين الأنس من بطانته , والذين تبرءوا منه وانفضوا من حوله يوم سقوط نظامه.
ولم تسلم مصر بعد سقوط نظام مبارك من المبادئ الفاسدة لهذا النظام حتى الآن .. فقد كرس عبر ثلاثين عاماً سلوكيات الخلود الفاسد ومبادئ الملك الزائل .. وأصبحت هذه السلوكيات قيماً سالبة يتبناها الأقزام الذين وضعهم على رأس المؤسسات وتحكموا فى القرار .. بل كوّن هؤلاء مدارس من الأشرار والأقزام الذين هدموا المؤسسات والجامعات , وحول كل واحد منهم المؤسسة التى يرأسها إلى عزبة خاصة يرتع فيها ، بل سن قوانينها بما يلائم مآرب الخلود الواهم والملك الذى يبلى، وقد أدى ذلك إلى أن أصبح الفرد بأهدافه الخاصة فوق المؤسسة بأهدافها العامة , وأصبحت مصالح الفرد فوق مصالح الجماعة !
لذا كان من الطبيعى أن تجد الفرد من هؤلاء حين يتولى المسئولية أن يبادر بوضع صورته البهية فى لوحة مزينة تحوز كل الابداع نجدها دائماً خلف مكاتب رؤساء المصالح والجامعات ونوابهم والعمداء ووكلائهم .. انها "لوحة الخلود"! وبعد أن يضع صورته الشخصية لا يعمل وفق أهداف المؤسسة , بل وفق أهداف خاصة تتجه به فقط إلى البقاء ..وليس غير البقاء .. وفى طريقه إلى هذا يجمع المال من كل اتجاه ليزداد رصيده فى البنوك ، وليكرر نفس الخطأ الذي وقع فيه أبوه آدم من قبل.
وهكذا سن نظام مبارك السنة السيئة .. وتحمل وزر من عمل بها .. وهكذا هو سلوك كل حاكم طاغية ومصير كل مستبد.
د. حمدى الفرماوى
أستاذ علم النفس التربوى
جامعة المنوفية
ساحة النقاش