كتاب منشور 2009 قي دار صفاء بالاردن

---------------------------------

تقديم

ليست مشاعرنا - نحن البشر- هى ما تميزنا عن بعضنا البعض ، ولكن مقدرتنا على فهم انفعالاتنا أو التفكير فيها وإدارتها هى التى تضعنا على قمة مدرج التطور الحيوى؛ فالقشرة المخية الجديدة Neocortex التى نحوزها تعطينا الحق فى أن يكون لنا إحساس تجاه مشاعرنا، وملاحظة ردود أفعالنا تجاهها أيضاً، ولنعلم كيف تكون، ومِن ثَمَّ ضبط هذه المشاعر والسيطرة عليها.

وعليه فتعليم الأطفال أن يفهموا انفعالاتهم ويديروها جيداً ويتواصلوا بها سوف يؤثر فى العديد من اتجاهات نموهم ونجاحهم فى الحياة، وفى المقابل فإن فشل الآباء فى تعليم أطفالهم تلك المهارات قد يجعلهم عرضة للفشل فى كافة جوانب حياتهم سواء الاجتماعية أو المهنية منها أو الأكاديمية، وهو ما أكده جابر عبدالحميد(311:2004).

فالانفعالات تعنى الإنسان، ونموذج الأداء العقلى الذى يستبعدها إنما هو نموذج بائس لا يمثل إلاَّ مجرد رؤية ضبابية تلقى ظلالاً من الشك حول فهمنا لعمل العقل البشرى، وبالرغم من ذلك فقد انغمس المتخصصون فى العلوم النيوروسيكولوجية والمعرفية - منذ وقت غير بعيد - بدراسة الأساس العصبى للعمليات المعرفية Cognition كالإدراك والانتباه والذاكرة، وتجاهلوا -فى معظم الأحيان- دور العقل فى الانفعال Emotion والعمليات التى تنظمه وتسيطر عليه.

إن تركيز جاردنر Gardner (1983) - فى نظريته عن الذكاءات المتعددة Multiple Intelligences - على العناصر المعرفية فى الذكاء الشخصى Personal Intelligence يعكس روح العصر الذى طبع علم النفس، والذى شكَّل رؤاه وأفكاره بطابعه. فمبالغة علم النفس فى التأكيد على الوعى حتى فى مجال الانفعالات والعواطف كانت الطابع المميز لهذا العلم فى منعطف معين من تاريخه. فخلال عقود منتصف القرن العشرين هيمن السلوكيون Behaviorist على علم النفس الأكاديمى، حيث أكدوا على أن السلوك الظاهرى - وحده - الذى نستطيع رؤيته بموضوعية من الخارج هو ما يمكن أن نقوم بدراسته بدقة علمية، واستبعد السلوكيون بذلك الحياة الداخلية للإنسان برمتها من مجال الدراسة العلمية.

وقد شهدت السنوات الأخيرة من عقد الستينيات سيطرة الحكمة التقليدية على المعرفيين Cognitivist والتى مؤداها «أن الذكاء يستلزم معالجة الوقائع على نحو صارم يتسم بالبرود» وهو ما كان يمثل نوعاً من العقلانية الفائقة، فالعلماء الذين ركزوا على الجانب المعرفى وتمسكوا بهذا الرأى كنموذج فاعل للعقل تناسوا أن العقلانية تقودها المشاعر، بل ويمكن أن تغرق فيها أيضاً، وبذلك لا يكون النموذجان السلوكى والمعرفى سوى هذا النموذج الضبابى الذى يضعف العقل ويفقره ويفشل فى تفسير قوة المشاعر والانفعالات التى تعطى نكهة للعقلانية. ولقد أخذت هذه الرؤية -العلمية المشوهة غير المتوازنة عن الحياة العقلية الخالية من الانفعالات والتى سادت السنوات الثمانين الماضية - تتغير تدريجياً بعد أن بدأ علم النفس يعترف بدور الانفعالات الأساسية فى عملية التفكير، حيث جاء أنصار نظرية إدراك الذات Self-perception أمثال "لايرد" Laird وزملائه ليؤكدوا على وجهة نظر متكاملة من خلال نتائج أعمالهم [ لايرد Laird (1984) ولايرد، وبريسلير Laird & Bresler (1992)، ولايرد، وأبوستوليريز Laird & Apostoleris (1996) ] التى أوضحت أن المشاعر عبارة عن تكاملات معقدة من معلومات وإلماعات Cues مختلفة تعبر عن درايتنا الذاتى Self-awareness بانفعالاتنا واتجاهاتنا ورغباتنا بما يجعل هذه المشاعر أدوات للعمليات المنطقية Rational processes نفسها، وبما يجعلها قاعدة بيانات للمساعدة فى العمليات الانعكاسية التأملية Reflective Processes والتى تندرج تحتها مراقبة الذات Self-Monitoring وتنظيم الذات Self-regulation للانفعالات وضبطها Control وهذه العمليات هى المتضمنة فيما يطلق عليه فى الكتاب الحالى  "الميتاانفعالية" Metaemotion* .

ورغم الندرة الشديدة فى الدراسات التى اهتمت بمصطلح الميتاانفعالية وبمحاولة تحديد أبعاده منذ أن صاغه "جوتمان" وزملاؤه Gottman, et al. (1995) مُمَاثلة بمصطلح الميتامعرفية Metacognition الذى صاغه "فلافل" Flavell (1976)، حيث صاغ "جوتمان" نموذجاً للميتاانفعالية - كما سنعرض له لاحقاً - يعتمد على تعريف قاصر وغير شامل لكافة مكونات الميتاانفعالية، إلاَّ أن هناك العديد من الدراسات  تناولت بعض مهارات وأبعاد الميتاانفعالية كالوعى بالانفعالات، و مراقبة الذات لها، وتنظيم الذات أثناء الانفعالات وضبطها، والخبرة الميتامزاجية Metamood Experience ... وذلك دون الإشارة الصريحة والمباشرة إلى أنها تعد مكونات لما أسماه جوتمان بالميتاانفعالية؛ كما أن القليل قد اهتم بصياغة نماذج يضم بعض هذه المكونات متضمن فيما ما يسمى بذكاء الانفعال Emotional Intelligence، وبعضها اهتم بصياغة نموذج لأبعاد مكون واحد للميتاانفعالية هو مكون الخبرة الميتامزاجية؛ إلاَّ أن هذه الدراسات قد أكدت على أهمية تدريب أطفالنا وتلاميذنا على مهارات الوعى والسيطرة على انفعالاتهم لما له من أهمية فى نجاحهم الاجتماعى والأكاديمى والمهنى.

وعليه فإن الكتاب الحالى يحاول صياغة نموذج إجرائى شامل لمهارات الميتاانفعالية يتلاشى أوجه القصور فى النماذج السابقة، ويستقى أبعاده من الدراسات السيكولوجية والكلينيكية - كما سنعرض له لاحقاً - والتى تناولت أسباب العجز فى الضبط الواعى للانفعالات وأشكال الفشل فى إدارتها خاصة لدى بعض الفئات التى تعانى نقصاً  فى هذه المهارات، مثل: المتخلفين عقلياً Mental Retarded People وذوى اضطرابات قلق ما بعد الصدمة Post Traumatic Stress Disorders (PTSD)، ومن يعانون من الانفجارات الانفعالية Emotional Explosive People  مثل انفجارات الغضب وانفجارات الفوبيا Phopias وانفجارات الحزن
... الخ.

 

_________________________________________________


* مقطع Meta لا يقابله فى العربية لفظ يفى كاملاً بالمعنى الأجنبى ، المراد به (ولذا قيل ميتافيزيقية ، مثلا) و خاصة فى حالتنا هذه التى لا تعنى فقط ما وراء أو ما بعد ، و مماثلةً بتبرير حمدى الفرماوى (2004) فى تعريفه لمصطلح الميتامعرفية Metacognition على أنه مجموعة من مهارات الوعى و الإدارة التنظيمية للعمليات المعرفية التى تتم قبل و بعد و أثناء التعامل المعرفى للإنسان فى الموقف، فإننا هنا نبقى على مقطع ميتا ملاصقاً للكلمة العربية انفعالية لأننا نعنى به مجموعة مهارات الوعى والإدارة التنظيمية التى تتم قبل و بعد و أثناء تعامل الإنسان فى المواقف الانفعالية .

  • Currently 20/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 2656 مشاهدة

ساحة النقاش

sarahsarsora

هو ينفع اقرا الكتاب من على الموقع ولا صعب ولا ايه لانه حلو جدا

أ.د حمدي علي الفرماوي

Educpsychology
موقع علمي سيكولوجي وثقافي يهدف الى: * نشر ماتيسر من انتاجي وانتاج تلاميذي العلمي والثقافي ( الكتب - الأبحاث - المقاييس النفسية - المقالات ) * مناقشة الظوامر السلوكية المستجدة في المجتمع والتواصل معها * مناقشة المغلوط في الثقافة النفسية * التواصل مع الجمهور من المثقفين والباحثين والمتخصصين من »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

101,435