من ميثاق العمل الإسلامى :
زادنا :
الصبر
وأي طائفة تريد أن تعمل لهذا الدين لابد أن يكون لها زادها ونصيبها من الصبر، وإلا فلتدع هذا الطريق لمن هو أهل له، لتدع هذا الطريق للصابرين الصادقين.
ذكر ابن كثير في سيرته؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم، وفي المواسم يقول: (من يؤويني من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة)، فلم يجد أحدا يؤويه ولا ينصره حتى صدَّقه الأنصار وآمنوا به وساروا إليه اثنان وسبعون رجلا منهم والتقوا به- صلى الله عليه وسلم -في شِعب العقبة، فأخذ عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وشرط، وأخبرهم أن لهم الجنة، إن هم قبلوا فقام أسعد بن زرارة - وهو أصغر القوم - فقال: (رويدا يا أهل يثرب فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة وقتل خياركم وتعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تتصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فبينوا فهو أعذر لكم عند الله) فقالوا: (أمط عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة ولا نسلبها أبدا) [رواه أحمد].
والجماعة المسلمة التي تريد أن تنصر هذا الدين وتطمع أن تكون بذلك من أهل الجنة؛ لابد لها من صبر عظيم، لابد لها من صبر يعينها على أداء الأمانة والقيام بالأعباء ومجابهة الأعداء، أما إذا كانت لا تعرف الصبر ولا تطيقه ولا تنتويه فلتبين هذا، ولتتنحى جانبا لعله يكون أعذر لها عند ربها، بدلا من أن تقوم وتحمل الراية ثم لا تلبث أن ترتد على عقبها وتدع اللواء يسقط فتكون فتنة في الأرض وفساد كبير.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (و اعلم أن النصر مع الصبر) [رواه أحمد].
فلا نصر بغير صبر.
فمن أراد النصر فعليه بالصبر، قال تعالى: { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا } [الأعراف: 137]، وقال: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [السجدة: 24].
لذا كان لزاما على الجماعة المسلمة أن تعلم أبناءها الصبر وأن تربيهم عليه وأن تكسوهم لباسه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن يتصبر يصبره الله).
عليها أن تعلم أبناءها أن الصبر مطية لابد من ركوبها للوصول إلى ما تحلم به الأمة المسلمة من عز وتمكين، وبغير هذه المطية لا تستطيع أن تقطع المكارة أو تصل إلى الهدف.
وعليها أن تعلم أنه ما من مقام من مقامات الإيمان ولا منزلة من منازله إلا والصبر هو المطية إليها، فمن لم يصبر لا بلوغ له، من أراد أن يتعلم فليصبر على الحفظ والمدارسة، من أراد أن يكتسب خصال التقوى، فلا طاقة له بذلك إلا أن يستعين بالصبر، من أراد أن يقلع عن المعاصي ويطهر جوارحه وقلبه فلا طاقة له إلا بالصبر، فالصبر مفتاح كل خير وهداية، { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت: 69].
ثم المحافظة على كل هذا لا تكون إلا بالصبر، فمن تخلى عن المجاهدة وترك الصبر نزع منه ما كان قد اكتسبه، ونزلت مرتبته وانتكس سعيه، والعاملون في سبيل الله في حاجة ماسة إلى الصبر.فالداعية؛ محتاج إلى الصبر لئلا ييأس إذا لم ير أحدا قد استجاب لدعوته، بل قد يناله من جراء دعوته أذى في شخصه.والمربي؛ في حاجة إلى الصبر فكم من مبتدئ كثير الزلل،والقائد؛ محتاج إلى الصبر فكم من جندي صعب القيادة،والمحتسب؛ في حاجة إلى الصبر فكم من مرة سيناله الأذى،والمجاهد؛ أحوج هؤلاء إلى الصبر ليحمل نفسه على هذا الفرض الشاق، { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَال وَهُوَ كُرْه لَكُمْ } [البقرة: 216].
وتتضاعف الحاجة إلى الصبر هذه الأزمان حيث نقيم وتحيا دعوتنا في بلدان يحكمها أعداؤنا، ونريد أن نزيحهم ونعلي شريعتنا، فما أحوجنا إلى الصبر فكم من مرة سيحملون علينا وكم من مرة ستشد علينا جحافلهم فإن لم نصبر اجتثوا دعوتنا من فوق الأرض.والصبر ليس ما يظنه كثير من الناس اليوم من سكوت عن الحق ومداهنة للباطل، لا ليس هذا صبرا إنما هو دعوة مذلة ومهانة.
إن الصبر المأمور به والممدوح شرعا منحصر في أبواب ثلاثة:
1) صبر على الطاعة.
2) صبر عن المعصية.
3) صبر على البلاء.
1) الصبر على طاعة الله ورسوله:
فالنفس تميل إلى الراحة والسكون، والتكليفات فيها نوع من المشقة ، وتتفاوت المشقة من تكليف لآخر، فالجهاد أشق من الحسبة والصوم، والصوم أشق من الوضوء، والوضوء بالماء البارد في الشتاء أشق منه في الصيف، وتختلف المشقة من شخص لآخر، فمن يغلب عليه حب الديار تشق عليه الهجرة، ومن يغلب عليه قسوة القلب تشق عليه الصلاة، وأشق العبادات مطلقا الجهاد، ولذا قال البعض كما حكى القرآن: { وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } [النساء: 77].
والمقصود أن الجميع في حاجة إلى الصبر ليستطيعوا حمل النفس على الطاعة فلابد من الصبر قبل الطاعة لحمل النفس على البدء فيها وصدق التوجه بها إلى الله.ولابد من الصبر أثناءها لحمل النفس على إتمامها على وجهها الأمثل، ثم لابد من الصبر بعدها لحجز القلب عن الالتفات لها بعين العجب وحبس اللسان عن التحدث بها رياء أو سمعة.
2) الصبر عن معصية الله ورسوله:
و لعمر الله إنه لأشق وأصعب، لأن النفس كما حكى القرآن لأمارة بالسوء فالنفس تأمر بالسوء وتتمناه، والشيطان يؤز العبد ويحرضه، وقرناء السوء يزينون المعصية، والمجتمع لا يستقبحها ولا ينكر على فاعلها، بل قد يمدحه ويرفعه ويثني عليه لفسقه وفجوره، فكيف لا تلبى الجوارح بعد كل هذا نداء المعصية، إنه الصبر الذي يمنع ويقف سدا عاليا بين الجوارح والمعاصي. لابد من صبر كصبر يوسف حين دعته امرأة العزيز؛ {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [يوسف: 90]. وما أحوج الجماعة المسلمة إلى أن تعلم أبناءها هذا النوع من الصبر، سنهزم حتما إن عصينا، ولا شك في ذلك.
وصدق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في وصيته لقائد جيوشه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما: (وآمُرك ومن معك أن تكونوا أشدَّ احتراسا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما يُنصر المسلمون بمعصية عدوهم لله ولولا ذلك لم يكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننتصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا)، ثم قال له: (ولا تقولوا إن عدونا شر منا ولن يسلط علينا وإن أسأنا فرب قوم سلط عليهم شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفرة المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا).
وما أحوج الجماعة المسلمة إلى أن تعلم أفرادها الصبر على ظلم الخلق، بل وبغض هذه المعصية، فلعل منهم من يكون غدا واليا أو صاحب سلطان، فإن لم يربى على التحرز من الظلم وقع فيه.
ومن أكبر المعاصي المحبطة للعمل والتي يجب أن يتحرز عنها جنود العمل الإسلامي؛ حب الرياسة والجاه والتنازع على القيادة، فإنها هي المفرقة التي طالما فرقت كلمة المسلمين.
3) الصبر على البلايا والمحن:
وإنه لضروري لكل مسلم وإلا خرج إلى حيز التسخط على أقدار الله وإنها لمن الموبقات، وإننا لفي أمس الحاجة إلى هذا الصبر، قال تعالى: { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } [العنكبوت: 2 - 3].
لابد من بلاء يميز الخبيث من الطيب ويفصل الخبيث لينفيه بعيدا عن صفوف القافلة، قافلة أهل الحق والصبر.
إن التمكين في الأرض ليس أمرا سهلا، إنه حمل أمانة حكم الخلق بهذا الدين، لذا فإن السنن قد قضت أنه لا يصل إلى هذه المرتبة إلا أهلها الذين هم أهل لها فكان البلاء تصفية للصف المسلم المجاهد من الدخن والدغل فمن بقي بقي ثابتا صابرا مستمسكا، وهذا الذي يستحق أن يمكن، { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } [آل عمران: 179]، { لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [الأنفال: 37].
فالجماعة المسلمة لابد وأن تربي أبناءها على الصبر حتى تصبح أهلا للتمكين.
عليها أن تعظ أبناءها ليل نهار بما وعظ به موسى قومه: { اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف: 128].
عليها أن تعلمهم؛ { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواحَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [البقرة: 214].
عليها أن تربيهم تربية الرجال حتى إذا ما جاء البلاء قالوا قولة الرجال؛ { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } [الأحزاب: 22].
فهؤلاء وحدهم هم الذين يصلحون لتحمل أمانة هذا الدين أما من عداهم فسرعان ما ينفيه البلاء كما تنفي النار الخبث.
والصبر على البلاء يستلزم:
1) حبس القلب عن التسخط على الأقدار، وأعلى منه منزلة رضا القلب بالقضاء.
2) كف اللسان عن إظهار الجزع والتلفظ بالحرام، وأعلى منه أن يقول كما أمر الله تعالى: { إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } [البقرة: 156]، ونحوه.
3) كف الجوارح عن لطم الخد وشق الجيب ونحو ذلك مما يتم عن عدم الرضا بالقضاء،
هذا هو الصبر الممدوح شرعا، وإنه لنعم الزاد؛ { وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } [آل عمران: 146].