لقد عثر على جثة عالم الذرة العالمي والذي يبلغ الأربعين من عمره مذبوحا في أحد الفنادق خارج بلده والشيء الذي يدعو للشك هو أن هذا العالم عنصر فعال في برنامج التسليح النووي العراقي .
لقد عثر على جثة الدكتور يحيى المشد عالم الذرة المصري ظهر يوم السبت عام 1980 بالغرفة رقم 9041 في فندق المريديان بباريس.. وكان في هذا الوقت موفداً في مهمة رسمية بحكم منصبه الذي كان يشغله كمدير لمشروع التسليح النووي العراقي الفرنسي.
ففي ظهر هذا اليوم طرقت عاملة التنظيف باب حجرة المشد الذي علق عليه لافتة «ممنوع الإزعاج» وعندما فتحت الباب وجدته ملقى على الأرض وقد غطى رأسه غطاء سميك وهو يرتدي ملابسه الكاملة، والدماء تغرق رقبته وشعره ووجهه وثيابه والأرضية وجدران الغرفة فقامت بإبلاغ البوليس الفرنسي الذي سجل في تقريره «إن القاتل كان في الحجرة عندما دخلها القتيل الذي فوجئ به فقاومه بشدة وظهرت أثار المقاومة على رقبة وثياب القتيل الذي عوجل بضربات شديدة على رأسه، ثم كتمت أنفاسه بغطاء الفراش حتى مات .
يحيى المشد من مواليد 11/1/1932 وبعد دراسته التي أبدى فيها تفوقا رائعا حصل على بكالوريوس الهندسة قسم الكهرباء من جامعة الإسكندرية وكان ترتيبه الثالث على دفعته مما جعله يستحق بعثة دراسية عام 1956 لنيل درجة الدكتوراه من جامعة كمبريدج - لندن - ولكن ولظروف العدوان الثلاثي تم تغيير مسار البعثة إلى موسكو، وقبل أن يسافر تم زفافه على إحدى بنات عمه وسافرت معه هناك ليقضيا ست سنوات يعود بعدها لمصر واحداً من أهم عشرة علماء على مستوى العالم في مجال التصميم والتحكم في المفاعلات النووية.
عقب عودته تم تعيينه في المفاعل الذري المصري «بأنشاص» بعدها بفترة بسيطة تلقى عرضاً للتدريس في النرويج وبالفعل سافر، ومعه زوجته أيضا، ليقوم بالتدريس في مجاله، وهناك تلقى عروضا كثيرة لمنحه الجنسية النرويجية بلغت أحيانا درجة المطاردة طوال اليوم، والمعروف أن النرويج هي إحدى مراكز اللوبي الصهيوني في أوروبا وهي التي خرج منها اتفاق أوسلو الشهير.
المهم أن الدكتور يحيى المشد رفض كل هذه العروض لكن أثار انتباهه هناك الإعلام الموجه لخدمة الصهيونية العالمية، وتجاهل حق الفلسطينيين وأزمتهم فما كان منه إلا أن جهز خطبة طويلة بشكل علمي منمق حول الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وانتهز فرصة دعوته لإحدى الندوات المفتوحة وهناك قال كلمته التي أثارت إعجاب الكثيرين ولكنها أثارت غضب اللوبي الصهيوني والموساد في النرويج وكانت هذه الخطبة سببا في بداية ترصد خطواته وتعقبه، خصوصا وانه قد تحدث بلسان العلم في السياسة. وعندما يجتمع الاثنان على لسان واحد فالمجال مفتوح للاتهام بالعصبية والشوفينية كمبرر أول لإعلان الكراهية.. وبدأت المضايقات الشديدة للدكتور العالم من الجهات المعادية للعروبة ولفلسطين، فقرر الدكتور المشد العودة إلى القاهرة.
عاد يحيى المشد للقاهرة مرة أخرى وقام بالتدريس في جامعة الإسكندرية ... ثم طلبته جامعة بغداد فتمت إعارته لمدة أربع سنوات وكان المسئولون العراقيون قد طلبوه بعد أن حضر مؤتمرا علميا في أعقاب حرب 1973 في بغداد، وبعد أن انتهت مدة الإعارة تمسك به العراقيون وعرضوا عليه أي شيء يطلبه، ولم يطلب المشد سوى العمل في مؤسسة الطاقة الذرية العراقية إلى جانب التدريس لبعض الوقت في كلية التكنولوجيا.
وبذلك كتب د. يحيى المشد أول مشهد في سيناريو إعدامه. وفي إبريل 1979 تم تدمير قلب الفرن النووي للمفاعل العراقي «أوزوريس» في مخازن بلدة «لاسين سورمير» القريبة من ميناء طولون الفرنسي عشية إرساله إلى بغداد، طبعا التدمير حدث على يد الموساد ولم يكن بوسع أحد من العلماء القيام بمهمة إصلاح الفرن سوى د. المشد الذي نجح في إصلاحه والإشراف على عملية نقله لبغداد.
بعدها أصبح د.يحيى المشد المتحدث الرسمي باسم البرنامج النووي العراقي ثم ترأس البرنامج النووي العراقي الفرنسي المشترك، وكانت أول واهم واخطر إنجازات المشد هي تسهيل مهمة العراق في الحصول على اليورانيوم المخصب من فرنسا.. وبعد قيام الثورة الإيرانية عجز النظام الإيراني الجديد عن سداد ديونه لدى شركة «الكونسرتوم» الفرنسية لإنتاج اليورانيوم، فعرض د. المشد على هذه الشركة شراء أسهم الحكومة الإيرانية باسم حكومة العراق ونجح في ذلك وأصبح باستطاعتها الحصول على اليورانيوم الذي تحتاجه وكان هذا المشهد هو بداية التحول الدرامي في سيناريو قتل د. المشد.
في مايو 1980 تم استدعاء د. المشد لفرنسا في مهمة بسيطة للغاية يستطيع أي مهندس أو خبير عادي أن يقوم بها على أكمل وجه. - ونلاحظ بداية خيط الأحداث ونقطة انطلاق الغموض .
كان دكتور المشد يقوم كل فترة بإرسال كشف اليورانيوم الذي يحتاجه كماً وكيفاً، وكان يطلق على اليورانيوم اسماً حركياً «الكعك الأصفر» وكان يتسلمها مندوب البرنامج في العراق ويبلغ د. المشد بما تم تسلمه ولكن آخر مرة اخبره انه تسلّم صنفا مختلفا وكمية مختلفة عما طلبه د. المشد فارسل د. المشد للمسئولين في فرنسا، في برنامج العمل النووي ليخبرهم بهذا الخطأ فردوا عليه بعد ثلاثة أيام وقالوا له: لقد جهزنا الكمية والصنف الذي تطلبه وعليك أن تأتي بنفسك لفحصها ووضع الشمع الأحمر على الشحنات بعد التأكد من صلاحيتها.
سافر د. المشد لفرنسا وكان مقرراً أن يعود قبل وفاته بيوم لكنه لم يجد مكاناً خالياً على أي طائرة متجهة لبغداد. وفجأة تم العثور على د.المشد مذبوحاً في غرفته، وقبل أن ننتقل لما جاء في التحقيقات نورد ما ذكره راديو «إسرائيل» تعليقاً على وفاة د. المشد نقلاً عن مصادر إسرائيلية: «انه سيكون من الصعب جداً على العراق مواصلة جهودها من اجل إنتاج سلاح نووي في أعقاب اغتيال د. يحيى المشد».. وفي صحيفة «يديعوت احرنوت» جاءت المقالة الافتتاحية بعنوان «الأوساط كلها في «إسرائيل» تلقت نبأ الاغتيال بسرور!!» أما فانونو اشهر علماء الذرة الصهاينة فقال:«إن موت د.المشد سيؤخر البرنامج النووي العراقي سنتيمتراً واحداً على الأقل..» هذا هو الجزء المعلن من شعور «إسرائيل» تجاه الحدث.
كانت تحركات البوليس الفرنسي منطقية وكالعادة بدأوا من بنات الليل، تحديداً «ماري كلود ماجال» التي شوهدت تتحدث مع د.المشد قبل صعوده لحجرته وقالت:«إن د. المشد رفض أن يقضي الليلة معها رغم محاولاتها المستميتة فانصرفت فوراً» ولكنها عادت وقالت إنها سمعت أصواتا في حجرة د.المشد بعد دخوله بعشر دقائق تقريباً، مما يعني استمرار وجودها في مركز الحدث، ثم لم تستطع هذه السيدة أن تقول شيئاً آخر، فقد تم اغتيالها بعد الحادث بأقل من شهر حيث دهمتها سيارة مسرعة فور خروجها من أحد البارات مما يعني وفاة الشاهدة الوحيدة التي كانت الأقرب لما حدث أو على الأقل هي آخر من شاهد د. المشد قبل دخوله لحجرته.
وبعد فترة بسيطة قيد الحادث ضد مجهول... وأصبحنا أمام ضحية من ضحايا الصراع المصري الإسرائيلي، وكم هائل من التساؤلات، ومحاولات كلها، صحيح أنها لن تعيد د. المشد لنا لكن ستساعدنا في إلقاء القبض على القاتل الحقيقي ولو معنويا. والبعض يظن أن القاتل قد يكون عراقياً، ويؤيد هذا الاحتمال فكرة أن يكون د.المشد هو المكلف رسميا بإدارة الاتصال بين فرنسا والعراق وربما خطر ببال المسئولين شعور بالخطر نظرا للعلاقات الوثيقة التي كانت تربط بين د.المشد ورئيس اللجنة العراقية الذرية السابق الدكتور حسين شهر ستاني والذي كان وقتها يقضي فترة العقوبة بالسجن لمدة عشر سنوات بسبب قيامه بأعمال مناهضة للنظام العراقي. طبعا لن ينفي هذا الاحتمال القرار الجمهوري الذي كان قد أصدره الرئيس العراقي السابق صدام حسين بصرف راتب تقاعدي شهرياً لأسرة المشد قدره 300 دينار استمر صرفه حتى أحداث حرب الخليج فيما اعتقد، بالإضافة لتعويض قدره 30 ألف دينار تم توجيهها لشراء منزل لأسرة د.المشد في الإسكندرية.
وهذا الاحتمال لا يتعدى نسبة 10% نظراً لان الدكتور المشد لم يبخل بتقديم أي جهد للحكومة العراقية خلال السنوات الطويلة التي قضاها هناك، مما ينفي فكرة مكافأته عن طريق التصفية الجسدية. الاحتمال الثاني –وهو أيضا ضعيف- يورط المخابرات الليبية في الحادث، ففي نفس توقيت قيام العراق بتصنيع قنبلة نووية كانت باكستان تقوم بنفس العمل وحملت مشروعها صبغة إسلامية مما دعا النظام الليبي للقيام بمساعدتها معنوياً ومادياً بمبلغ 2500 مليون دولار حتى يكون السبق لباكستان على العراق، والتي كانت تشهد علاقات مضطربة مع ليبيا وقتها.
أما الاحتمال الثالث وهو الأقوى بل انه ليس احتمالاً فهو حقيقة واضحة للعيان فان هذه الحقيقة تثبت وتشير بإصبع الاتهام إلى الموساد لان التقارير تثبت قيام «إسرائيل» بعمليات قرصنة ضد اليورانيوم المرسل للعراق ومحاولة الاستيلاء عليه، أو على الأقل إفساده.
هذا بالإضافة إلى دورها الرئيسي في تدمير قلب المفاعل النووي العراقي في ميناء طولون الفرنسي، والأرجح أنهم اكتشفوا أن التخلص من القطب الرئيسي في المشروع العراقي أسهل وارخص من عمليات القرصنة والتدمير المتكررة وبناء عليه قتلوا د.المشد.
من ناحية أخرى صرحت الحكومة الإسرائيلية بأن مقتل المشد سيؤخر العمل الذري العراقي لمدة عامين على الأقل لكنهم اكتشفوا بعد عام أن العمل العراقي لا يزال مستمراً وبناء عليه قاموا بقصف المفاعل العراقي في يونيو 1981 بعد اكتشافهم أن عمليات القتل والقرصنة والتخريب لم تُعق تقدم المشروع العراقي النووي، هذه الخطوة تثبت وتؤكد تورط الموساد في قتل د. المشد باعتبار أن ما قدمه للعراق كان مخيفاً وجعلهم يشعرون بالخطر.

المصدر: محمد السطيحه المحامى
  • Currently 120/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
39 تصويتات / 488 مشاهدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

1,896,602