محمد نجيب الرئيس السابق لمصر بين الأعتراف والأنكار
دائما ما يركز الإعلام المصري في احتفالاته بثورة يوليو 1952 علي دور تنظيم الضباط الأحرار وإنجازات الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وفي اعياد أكتوبر توضع أكاليل الزهور على قبري الرئيسين الراحلين جمال عبدالناصر وأنور السادات بينما يتم تجاهل اسم اللواء محمد نجيب أو قبره ،وفي كتب التعليم المصرية يختفي اسم نجيب إلا من صورة صغيرة مكتوب تحتها " أول رئيس لمصر ".
ونقلب معا صفحات من مذكرات محمد نجيب " كنت رئيسا لمصر" ، كتاب الصحفي محمد ثروت "الأوراق السرية لمحمد نجيب" ، وأخيرا كتاب ثروت عكاشة بعنوان "مذكراتي في السياسة والثقافة " .. في محاولة لمعرفة أسباب الإصرار على التنكر لإنجازات الزعيم الراحل محمد نجيب في حياة مصر السياسية.
الجذور الأولي
من كتاب " كنت رئيسا لمصر" نقرأ سيرة اللواء محمد نجيب الذي ولد بقرية النحارية بمركز كفر الزيات محافظة الغربية , أسمه بالكامل محمد نجيب يوسف نجيب قطب قشلان, بدأ والده يوسف نجيب حياته مزارعا في قريته ثم التحق بالمدرسة الحربية وتفوق فيها, وبعد تخرجه شارك في حملات استرجاع السودان 1898, تزوج يوسف نجيب من سودانية وأنجب منها ابنه الأول عباس لكنها توفيت, فتزوج من السيدة "زهرة" ابنة الأميرالاي محمد بك عثمان في عام 1900, والأميرالاي محمد هو ضابط مصري تعيش أسرته في أم درمان واستشهد في أحدي المعارك ضد الثورة المهدية, وقد أنجب يوسف من السيدة زهرة ثلاثة أبناء هم محمد نجيب و علي نجيب ومحمود نجيب, وأنجب أيضا ستة بنات .
عندما بلغ محمد نجيب 13 عاما توفي والده, تاركا وراءه أسرة مكونة من عشرة أفراد , فأحس نجيب بالمسئولية مبكرا , ولم يكن أمامه إلا الاجتهاد في كلية جوردن حتي يتخرج سريعا.
عُرف عن محمد نجيب منذ صغره باعتزازه بنفسه وحبه لوطنه, يقول نجيب : " كنت طالبا في السنة الثانية بالكلية 1914 وجاء المستر سمبسون , مدرس اللغة الانجليزية , ليملي علينا قطعة إملاء جاء فيها : أن مصر يحكمها البريطانيون , فلم يعجبني ذلك .. وتوقفت عن الكتابة .. ونهضت واقفا ..وقلت له : لا يا سيدي ..مصر تحتلها بريطانيا فقط ولكنها مستقلة داخليا وتابعه لتركيا.. فثار المدرس الانجليزي وغضب وأصر علي أن اذهب أمامه إلي مكتبه وأمر بجلدي عشر جلدات علي ظهري واستسلمت للعقوبة المؤلمة دون أن أتحرك أو أفتح فمي"
بعد أن تخرج محمد نجيب في الكلية التحق بمعهد الأبحاث الاستوائية لكي يتدرب علي الآلة الكاتبة تمهيدا للعمل كمترجم براتب ثلاثة جنيهات شهريا, وبعد التخرج لم يقتنع نجيب بما حققه وأصر علي دخول الكلية الحربية في القاهرة.
بالفعل التحق محمد نجيب بالكلية الحربية ونجح فيها بتفوق, وعلي الفور سافر إلي الخرطوم ليبدأ حياته كضابط في الجيش المصري . كان ذلك في 19 فبراير 1918, وكان عمره وقتها 17 عاما فقط, ومع قيام ثورة 1919 يصر نجيب علي المشاركة فيها علي الرغم من مخالفة ذلك لقواعد الجيش, فيسافر إلي القاهرة ويجلس علي سلالم بيت الأمة حاملا علم مصر وبجواره مجموعة من الضباط الصغار.
في عام 1927 كان محمد نجيب أول ضابط في الجيش المصري يحصل على ليسانس الحقوق، وفي عام 1929 تعلم محمد نجيب درسا من النحاس باشا, فقد أصدر الملك فؤاد قراره بحل البرلمان -لأن أغلبية أعضائه كانوا من حزب الوفد الذي كان دائم الاصطدام بالملك- فتخفى محمد نجيب في ملابس خادم نوبي، وقفز فوق سطح منزل مصطفى النحاس باشا، وعرض عليه تدخل الجيش لإجبار الملك على احترام رأي الشعب، لكن النحاس قال له : أنأ أفضل أن يكون الجيش بعيدا عن السياسة, ,أن تكون الأمة هي مصدر السلطات,,,كان درسا هاما تعلم من خلاله محمد نجيب الكثير حول ضرورة فصل السلطات واحترام الحياة النيابية الديمقراطية، وهو الدرس الذي أراد تطبيقه بعد ذلك عام 1954
حرب 1948
تعد حرب 1948 بين الجيش العربي والإسرائيلي بداية معرفة محمد نجيب علي المستوي الشعبي , وعلي مستوي الجيش المصري, أصيب نجيب في هذه الحرب 7 مرات لم يسجل منها سوي ثلاثة إصابات خطيرة , وأخطرها الإصابة الثالثة الأخيرة في معركة التبة 86 حيث أصيب نجيب برصاصات أثناء محاولته إنقاذ أحد جنوده الذي كانت قد تعطلت دباباته, كانت الإصابة شديدة حيث استقرت علي بعد عدة سنتيمترات من قلبه, وحينما اختبأ نجيب خلف شجرة وجد الدم يتفجر من صدره , وكتب نجيب وصيه لأولاده قال فيها " تذكروا يا أبنائي أن أبيكم مات بشرف ..وكانت رغبته الأخيرة أن ينتقم من الهزيمة في فلسطين ويجاهد لوحدة وادي النيل"
وعندما تم نقل نجيب إلي المستشفي اعتقد الأطباء أنه استشهد, ودخل اليوزباشي صلاح شقيق البطل أحمد عبد العزيز لإلقاء نظرة الوادع علي جسد الشهيد فنزع الغطاء وسقطت دمعة علي وجه نجيب وتحققت المعجزة فقد تحركت عيناه فجأة فأدرك الأطباء أنه لا يزال علي قيد الحياة وأسرعوا بإسعافه, وحصل نجيب علي نجمة فؤاد العسكرية الأولي تقديرا لشجاعته في هذه الحرب فقد كان أول ضابط مصري يقود ما يربو علي الفيلق.
نجيب والضباط الأحرار
بعد الحرب عاد نجيب إلي القاهرة قائدا لمدرسة الضباط العظام, وتيقن أن العدو الرئيسي ليس في فلسطين وإنما الفساد الذي ينخر كالسوس في مصر والذي كان يتمثل في الملك وكبار الضباط والحاشية والإقطاع, وكان نجيب يردد دائما أن المعركة الحقيقة في مصر وليست في فلسطين , و لا يتردد أن يقول هذا الكلام أمام من يثق فيهم من الضباط, وفي فترة من الفترات كان الصاغ عبد الحكيم عامر أركان حرب للواء نجيب, ويبدو أن كلام نجيب عن الفساد في القاهرة قد أثر فيه فذهب إلي صديقه عبد الناصر وقال له كما روي عامر لنجيب بعد ذلك : لقد عثرت في اللواء نجيب علي كنز عظيم.
كان عبد الناصر قد شكل تنظيم الضباط الأحرار, وأراد أن يقود التنظيم أحد الضباط الكبار لكي يحصل التنظيم علي تأييد باقي الضباط, وبالفعل عرض عبد الناصر الأمر علي نجيب فوافق علي الفور... ونسجل هنا شهادة ثروت عكاشة – أحد الضباط الأحرار- عن نجيب كما جاءت في كتابه "مذكراتي بين السياسة والثقافة": " كان اللواء محمد نجيب رحمه الله أحد قادة الجيش المرموقين لأسباب ثلاثة : أولها أخلاقياته الرفيعة, وثانيها ثقافته الواسعة فهو حاصل علي ليسانس الحقوق , وخريج كلية أركان الحرب ويجيد أكثر من لغة ويلم باللغة العبرية , وثالثها شجاعته في حرب فلسطين التي ضرب فيها القدوة لغيره وظفر بإعجاب الضباط كافة في ميدان القتال"
كان اختيار تنظيم الضباط الأحرار سر نجاح التنظيم داخل الجيش, فكان ضباط التنظيم حينما يعرضون علي باقي ضباط الجيش الانضمام إلي الحركة كانوا يسألون من القائد , وعندما يعرفوا أنه نجيب يسارعون بالانضمام.
انتخابات نادي الضباط
انتخابات نادي الضباط كانت هي الخطوة الفعالة الأولي في طريق ثورة يوليو.. فقبل انتخابات النادي كانت اللجنة التنفيذية لتنظيم الضباط الأحرار تعتقد أنه ليس من الممكن القيام بالثورة قبل عام 1955...لكن بعد الانتخابات أحس الضباط بمدي قوتهم .. رشح نجيب نفسه رئيسا لمجلس إدارة النادي لجس نبض الجيش واختبار مدي قوة الضباط الأحرار وتحديا للملك... وقبل الملك التحدي ..ورشح حسين سري عامر .. كانت الانتخابات أول اختبار حقيقي لشعبية اللواء محمد نجيب داخل الجيش.. ومع طلوع فجر اليوم الأول من يناير 1952 أعُلنت النتيجة وحصل نجيب علي أغلبية ساحقة شبة جماعية ولم يحصل منافسيه سوي علي 58 صوتا فقط, كانت النتيجة صدمة شديدة للملك فقرر حل مجلس إدارة النادي. وأدرك الملك الشعبية الطاغية لنجيب وسط الضباط، فرشحه وزيرا للحربية قبيل الثورة بأيام؛ في محاولة لامتصاص غضب الضباط، لكن يبدو أنها محاولة تأخرت كثيرا فقد دارت عجلة الأحداث سريعا لتشهد مصر ميلاد عهد جديد صباح 23 يوليو 1952
ثورة يوليو 1952
في ليلة لن ينساها تاريخ مصر والمنطقة, وقع في القاهرة حدث غير تاريخنا جميعا ومازلنا نشهد آثاره إلى اليوم ، إنها ليلة 23 يوليو حينما خرج الجيش من ثكناته معلنا غضبه عما يحدث في البلاد.. وتصدرت صورة اللواء محمد نجيب الصفحة الأولي لجريدة "المصري" وفوقها مانشيت: اللواء نجيب يقوم بحركة تطهيرية في الجيش
ويؤكد كتاب " الأوراق السرية لمحمد نجيب " للكاتب الصحفي محمد ثروت أنه علي الرغم من خطورة الدور الذي قام به اللواء محمد نجيب في نجاح الثورة إلا أن البعض حاول أن يقلل من دوره ..وحاولوا أن يصوروا انه لم يكن له علم بالثورة وإنما هو "ركب الموجة" والبعض حاول ادعاء أن الضباط الأحرار استخدموا نجيب مجرد واجهة لإنجاح الثورة ..بل وصل الأمر ببعضهم أن يدعي أن نجيب يوم الثورة كان مريضا في منزله وليس في ذهنه شئ عن أيه ثورة ..وربما كان أمله الوحيد في شهر يوليو أن يغادر فراشه إلي عمله في سلاح الفرسان, حتي استيقظ نجيب علي تليفون من الضباط الأحرار يقولون له : تفضل لقد قمنا بثورة واخترناك زعيما لها... وقد نتعجب حينما نعلم أن قائل هذا الكلام هو أنور السادات في كتابه "قصة الثورة كاملة" والذي كتبه في عهد عبد الناصر ..وقد نتعجب أكثر حينما نعلم أن نجيب كان صاحب الفضل في عودة السادات إلي الجيش بعد فصله منه بتهمة التجسس لصالح الألمان.!!.
نجيب سر نجاح الثورة
كانت ثورة يوليو في بدايتها حركة , مجرد حركة عسكرية, لكنها لاقت قبول الشعب المصري واستقبلتها الجماهير بحفاوة بالغة وأطلقت عليها "ثورة".. فقد كان قائدها رجل شهد له الكل بالشجاعة وكان نجيب سر نجاح الثورة.. فقد كان برتبة لواء ..أما باقي الضباط الأحرار فلم يتجاوز أكبرهم رتبة بكباشي... وبفضل نجيب تحولت الحركة إلي ثورة ، وإذا كان قد قدر لثورة يوليو أن تفشل لكان جزاء محمد نجيب الإعدام رميا بالرصاص طبقا لتقاليد الجيش.
ويكشف تسجيل نادر انفرد به الصحفي محمد ثروت بكتابه أنه في ليلة 23 يوليو لعب نجيب أخطر دور في نجاح الحركة, فقد انكشف سر الثورة الساعة 9:30 مساءا , وعرف نجيب أن مؤتمرا لرئيس الأركان سيعقد في الساعة العاشرة في مقر القيادة لترتيب القبض علي الضباط الأحرار , فقام اللواء محمد نجيب علي الفور بإبلاغ يوسف صديق بالتحرك قبل ساعة الصفر بساعة , وبالفعل تحرك البطل صديق ونجح في اقتحام مركز القيادة.. ولولا هذا التحرك لفشلت الثورة ولقضي عليها قبل أن تبدأ.
لماذا استقال من الرئاسة؟
بمرور عام على قيام الثورة تركزت كل الأضواء علي اللواء نجيب باعتباره الرجل الذي قاد الثورة وطرد الملك وأنقذ مصر من عهد الظلم والطغيان وأصبح أمل البلاد في تخليصها من الاستعمار البريطاني الجاثم علي صدرها منذ 1882... كانت صور نجيب وخطبه تتصدر الصفحات الأولي من الجرائد والمجلات المصرية والعربية والأجنبية .. ومع نجاح الثورة حاول بعض الضباط أن ينسبوا لأنفسهم دورا لم يقوموا به .
وبعد فترة ليست بالقصيرة بدأ بعض الضباط يحاولون أن يجنوا ثمار نجاح الحركة ولو علي حساب المبادئ والأخلاق,, حتي شاع بين الناس أن الثورة طردت ملك وجاءت بثلاثة عشر ملك.. يقول نجيب في كتابه "كنت رئيسا لمصر" : لقد خرج الجيش من الثكنات ... وانتشر في كل المصالح والوزارات المدنية فوقعت الكارثة التي لا نزال نعاني منها إلي الآن في مصر,, كان كل ضابط من ضباط القيادة يريد أن يكون قويا ..فأصبح لكل منهم "شلة" وكانت هذه الشلة غالبا من المنافقين الذين لم يلعبوا دورا لا في التحضير للثورة ولا في القيام بها".ولاحظ نجيب بعض السلوكيات الخاطئة التي يرتكبها بعض الضباط في حق الثورة وفي حق الشعب الذي وثق بهم .. فكان أول شئ فعله ضباط القيادة أنهم غيروا سياراتهم الجيب وركبوا سيارات الصالون الفاخرة, وترك أحدهم شقته المتواضعة واستولي علي قصر من قصور الأمراء حتي يكون قريبا من أحدي الأميرات التي كان قصرها قريبا من القصر الذي استولي عليه.. وصدمت هذه التصرفات باقي الضباط الأحرار الذين يتصفون بالمثالية فحمل بعضهم هذه الفضائح وواجهوا بها ضباط القيادة .. لكنهم سمعوهم وقرروا التخلص منهم مثلما حدث مع ضباط المدفعية .
كان أول خلاف بين نجيب وضباط القيادة حول محكمة الثورة التي تشكلت لمحاكمة زعماء العهد الملكي , ثم حدث خلاف ثاني بعد صدور نشرة باعتقال بعض الزعماء السياسيين وكان من بينهم مصطفي النحاس , فرفض نجيب اعتقال النحاس باشا, لكنه فوجئ بعد توقيع الكشف بإضافة اسم النحاس, وأصدرت محكمة الثورة قرارات ضاعفت من كراهية الناس للثورة منها مصدرة 322 فدانا من أملاك زينب الوكيل حرم النحاس باشا, كما حكمت علي أربعة من الصحفيين بالمؤبد وبمصادرة صحفهم بتهمة إفساد الحياة السياسية, ويضاف إلي هذه القرارات قرارات أخري صدرت رغم أن نجيب رفض التوقيع عليها منها القرار الجمهوري بسحب الجنسية المصرية من ستة من المصريين من الأخوان المسلمين, وزاد الصدام بين نجيب مجلس القيادة عندما اكتشف أنهم ينقلون الضباط دون مشورته , ورفض زكريا محي الدين أن يؤدي اليمين الدستورية أمام نجيب بعد تعيينه وزيرا للداخلية وكذلك رفض جمال سالم.... كل هذه الأمور دفعت نجيب لكي يفكر قويا في تقديم استقالته .
استقالة فبراير 1954
"بسم الله الرحمن الرحيم
السادة أعضاء مجلس قيادة الثورة
بعد تقديم وافر الاحترام , يحزنني أن أعلن لأسباب لا يمكنني أن أذكرها الآن أنني لا يمكن أن أتحمل من الآن مسئوليتي في الحكم بالصورة المناسبة التي ترتضيها المصالح القومية ..
ولذلك فإني أطلب قبول استقالتي من المهام التي أشغلها, وأني إذ أشكركم علي تعاونكم معي أسأل الله القدير أن يوفقنا إلي خدمه بلدنا بروح التعاون والأخوة"
بهذه العبارات المختصرة قدم نجيب استقالته في 22 فبراير 1954 ..وفي 25 فبراير أصدر مجلس القيادة بيان أقاله نجيب , وحاول البيان الانتقاص من دور نجيب وتشويه صورته أمام الجماهير فقد أكد البيان أن نجيب طلب سلطات أكبر من سلطات أعضاء المجلس وأن يكون له حق الاعتراض علي قرارات المجلس حتي ولو كانت هذه القرارات قد أخذت بالإجماع , وادعي البيان أنه اختير قائدا للثورة قبل قيامها بشهرين , وانه علم بقيام الثورة ليلة 23 يوليو من مكالمة تليفونية من وزير الداخلية فتحرك إلي مبني القيادة وهناك تقابل مع عبد الناصر الذي وافق علي ضمه وتنازل له عن رئاسة المجلس.
اتخذ ضباط مجلس القيادة هذا القرار وكلهم ثقة في أنهم قد نجحوا في مخططهم بإزاحة نجيب, المخطط الذي يؤكد محمد ثروت في كتابه أنه بدأ بإعلان الجمهورية حتي يكون نجيب رئيسا رمزيا لها في حين يستحوذ عبد الناصر ومجموعته علي مجلس الوزراء , وكان من ضمن المخطط إبعاد نجيب عن الجيش عن طريق تعيين الصاغ عبد الحكيم عامر قائدا عاما للجيش وبالتالي تستحوذ مجموعة عامر وعبد الناصر علي السلطة المدنية والعسكرية.
وتصور مذكرات نجيب كيف أنه حينما أذيع بيان إقالته علي الملأ خرجت الجماهير تحتج عليه وانهالت البرقيات علي المجلس ودور الصحف ترفض الاستقالة .. واندلعت المظاهرات التلقائية في القاهرة والأقاليم لمدة ثلاثة أيام تؤيد نجيب وكانت الجماهير تهتف (محمد نجيب أو الثورة) وفي السودان اندلعت مظاهرات جارفة تهتف (لا وحدة بلا نجيب), وانقسم الجيش بين مؤيد لعودة اللواء محمد نجيب وإقرار الحياة النيابية وبين المناصرين لمجلس قيادة الثورة , وكان سلاح الفرسان أكثر أسلحة الجيش تعاطفا مع نجيب فهو سلاح ثروت عكاشة وخالد محي الدين وحسين الشافعي وجميعهم من مؤيدي عودة الديمقراطية , وأشرفت البلاد علي حرب أهلية وتداركا للموقف أصدر مجلس القيادة بيانا الساعة السادسة من مساء 27 فبراير 1954 جاء فيه " حفاظا علي وحدة الأمة يعلن مجلس قيادة الثورة عودة اللواء أركان حرب محمد نجيب رئيسا للجمهورية وقد وافق سيادته علي ذلك"... وهكذا عاد نجيب إلي الحكم علي أكتاف الجماهير التي خرجت في مظاهرات شعبية لم تعدها مصر من قبل.
بعد عودة نجيب علي أكتاف الجماهير كان باستطاعته أن يتخلص من ضباط القيادة الذين وجهوا له إساءات كثيرة وحاولوا أثناء الأزمة تشويه صورته أمام الشعب إلا أن نجيب عمل علي إزالة الخلاف بين أعضاء مجلس القيادة . يقول اللواء جمال حماد المؤرخ العسكري أثناء ندوة كتاب "الأوراق السرية لمحمد نجيب " أي واحد كان يجي في هذا الموقف ويحرز هذا الانتصار الباهر... معاه سلاح الفرسان والشعب كله معاه ... ومع ذلك أنا رأيته بعيني ماسك أيديهم " أعضاء مجلس قيادة الثورة" ورفعها وقال "إحنا يد واحدة" ، وأن عبد الناصر أراد التخلص منه في مارس بعد هدوء الأزمة !!
أزمة مارس 1954
حينما يعاد كتابة تاريخ مصر , سوف يتوقف المؤرخون طويلا أمام أخطر أزمة في تاريخ مصر الحديثة , فقد حددت هذه الأزمة تاريخ مصر إلي الآن, فلم تكن أزمة مارس مجرد صراع علني علي السلطة بين أنصار اللواء محمد نجيب وأنصار البكباشي جمال عبد الناصر بل كانت الأزمة أكثر عمقا, كانت صراعا بين اتجاهين مختلفين اتجاه يطالب بالديمقراطية والحياة النيابية السليمة تطبيقا للمبدأ السادس للثورة ( إقامة حياة ديمقراطية سليمة) , وكان الاتجاه الآخر يصر علي تكريس الحكم الفردي وإلغاء الأحزاب وفرض الرقابة علي الصحف .
كانت ضربة البداية في أزمة مارس من جانب اللواء محمد نجيب الذي بدء فور عودته إلي الحكم مشاوراته مع مجلس القيادة للتعجيل بعودة الحياة البرلمانية, وفي ليلة 5 مارس صدرت قرارات كما جاءت في كتاب " ثورة يوليو سنة 1952 ..تاريخنا القومي في سبع سنوات" للمؤرخ عبد الرحمن الرافعي ، حيث ركزت على ضرورة عقد جمعية لمناقشة الدستور الجديد وإقراره ، وإلغاء الأحكام العرفية والرقابة على الصحف والإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين .
" كانت هذه القرارات في صالح عودة الحياة الديمقراطية , وهنا أدرك الفريق المناوئ للواء نجيب أن كل الخطط التي أعدت للإطاحة به مهددة بالفشل, فبدأ يدبر مخططات أخري من شأنها الالتفاف علي قرارات 5 مارس والعودة إلي الحكم الفردي.
وفي 25 مارس 1954 اجتمع مجلس قيادة الثورة كاملا وانتهي الاجتماع إلي إصدار القرارات التالية:السماح بقيام الأحزاب ، مجلس قيادة الثورة لا يؤلف حزبا، لا حرمان من الحقوق السياسية حتي لا يكون هناك تأثير علي الانتخابات، تنتخب الجمعية التأسيسية انتخابا حرا مباشرا بدون تعيين أي فرد وتكون لها سلطة البرلمان كاملة والانتخابات حرة، حل مجلس الثورة في 24 يوليو المقبل باعتبار الثورة قد انتهت وتسلم البلاد لممثلي الأمة، تنتخب الجمعية التأسيسية رئيس الجمهورية بمجرد انعقادها.
يقول نجيب في كتابه "كنت رئيسا لمصر" : "كانت هذه القرارات في ظاهرها ديمقراطية وفي باطنها فتنة وتوتر, فقد أثارت الناس الذين لم يرق لهم أن تعود الأحزاب القديمة بكل ما توحي من فساد وتاريخ اسود, وبكل ما توحي لهم بنهاية الثورة التي عقدوا عليها كل آمالهم في التطهر والخلاص, وأثارت هذه القرارات ضباط الجيش الذين أحسوا أن نصيبهم من النفوذ والسلطة والمميزات الخاصة قد انتهي"
ووفق نفس الكتاب فقد ضاعف من قلة حيلة اللواء نجيب انشغاله مع الملك سعود الذي كان يزور مصر وقتها , بينما كان معارضوه يدبرون لتوجيه الضربة القاضية إلي اللواء نجيب، فنشرت الصحف الموالية لعبد الناصر أن هناك اتصالات سرية بين اللواء نجيب والوفد , وفي نفس الوقت عقد عبد الناصر اتفاقا مع الأخوان المسلمين لكي يتخلصوا من الأحزاب السياسية ويخلو الجو للطرفان.. ووافق الأخوان وكان هذا خطأ استراتيجيا , وفي يوم 28 مارس 1954 خرجت أغرب مظاهرات في التاريخ تهتف بسقوط الديمقراطية والأحزاب والرجعية,و دارت المظاهرات حول البرلمان والقصر الجمهوري ومجلس الدولة وكررت هتافاتها ومنها " لا أحزاب ولا برلمان", ووصلت الخطة السوداء ذروتها, عندما اشترت مجموعة عبد الناصر صاوي أحمد صاوي رئيس اتحاد عمال النقل ودفعوهم إلي عمل إضراب يشل الحياة وحركة المواصلات, وشاركهم فيها عدد كبير من النقابات العمالية وخرج المتظاهرون يهتفون" تسقط الديمقراطية..تسقط الحرية", وقد اعترف الصاوي بأنه حصل علي مبلغ 4 آلف جنية مقابل تدبير هذه المظاهرات.
كسب عبد الناصر ورفاقه المعركة مع نجيب وصدرت قرارات جديدة تلغي قرارات 25 مارس , وفي 26 أكتوبر وقعت حادثة المنشية والتي اتهم فيها الأخوان بمحاولة التخلص من عبد الناصر ليتم بعدها القبض علي قيادات الجماعة والزج بهم في السجن لينفرد جمال بالحكم.
نجيب في معتقل المرج
انهزم نجيب في معركة مارس 1954 والواقع أنها لم تكن خسارة نجيب فقط وإنما كانت خسارة لمسيرة الديمقراطية في وادي النيل, أصر نجيب علي الاستقالة لكن عبد الناصر عارض بشدة استقالة نجيب خشية أن تندلع مظاهرات مثلما حدث في فبراير 1954 , ووافق نجيب علي الاستمرار انقاذا للبلاد من الحرب الأهلية ومحاولة إتمام الوحدة مع السودان
يوم 14 نوفمبر 1954 لم يكن يوما عاديا في حياة نجيب , في هذا اليوم توجه نجيب لمكتبه بقصر عابدين وجاءه عبد الحكيم عامر وقال له في خجل " أن مجلس قيادة الثورة قرر إعفاءكم من منصب رئاسة الجمهورية "فرد عليهم نجيب في شجاعة "أنا لا أستقيل الآن لأني بذلك سأصبح مسئولا عن ضياع السودان أما أذا كان الأمر إقالة فمرحبا" .. وأقسم اللواء عبد الحكيم عامر لنجيب أن إقامته في فيلا زينب الوكيل لن تزيد عن بضعة أيام ليعود بعدها إلي بيته, لكنه لم يخرج من الفيلا طوال 30 عاما.
خرج نجيب من مكتبه حاملا معه المصحف فقط , وحزن علي الطريقة التي خرج بها فلم تؤدي له التحية العسكرية ولم يطلق البروجي لتحيته , وقارن اللواء نجيب بين وداعه للملك الذي أطلق له 21 طلقة وبين طريقة وداعه.
ولازلنا مع مذكرات محمد نجيب ؛ فعندما وصل إلي فيلا زينب الوكيل بدأ يذوق من ألوان العذاب مما لا يستطيع أن يوصف, فقد سارع الضباط والعساكر بقطف ثمار البرتقال واليوسفي من الحديقة .. وحملوا من داخل الفيلا كل ما بها من أثاث وسجاجيد ولوحات وتحف وتركوها عارية الأرض والجدران, وكما صادروا أثاث فيلا زينب الوكيل صادروا أوراق اللواء نجيب وتحفه ونياشينه ونقوده التي كانت في بيته.. أصبح نجيب سجينا في فيلا المرج , وأقيمت حول الفيلا حراسة مشددة , كان علي من في البيت ألا يخرج منه من الغروب إلي الشروق , وكان عليهم أن يغلقوا النوافذ في عز الصيف تجنبا للصداع الذي يسببه الجنود , اعتاد الجنود أن يطلقوا الرصاص في منتصف الليل وفي الفجر , كانوا يؤخرون عربة نقل الأولاد إلي المدرسة فيصلون إليهم متأخرين ولا تصل العربة إليهم في المدرسة إلا بعد مدة طويلة من انصراف كل من المدرسة فيعودون إلي المنزل مرهقين غير قادرين علي المذاكرة.
كان علي ابن محمد نجيب يدرس في ألمانيا وكان له نشاط واسع ضد اليهود هناك كان يقيم المهرجانات التي يدافع فيها عن مصر والثورة وعن حق الفلسطينيين ولم يعجب هذا الكلام , علي حسب قول اللواء نجيب, المخابرات المصرية الذين رأوا في نشاطه إحياء للكلام عن أبيه وفي ليلة كان يوصل زميلا له فإذا بعربة جيب بها ثلاثة رجال وامرأة تهجم عليه وتحاول قتله , وعندما هرب جرت وراءه السيارة وحشرته بينها وبين الحائط نزل الرجال الثلاث وأخذوا يضربونه حتي خارت قواه ونزف حتي الموت , ونقل جثمانه إلي مصر فطلب اللواء نجيب ان يخرج من معتقله ليستقبل نعش ابنه ويشارك في دفنه ...لكنهم رفضوا
كان هذا في عام 1968 , ولم يسلم فاروق الابن الثاني لنجيب من نفس المصير , فقد استفزه احد المخبرين الذين كانوا يتابعونه وقال له :
ماذا فعل أبوك للثورة .. لا شئ ..أنه لم يكن أكثر من خيال مآتة ديكور واجهة لا أكثر.
ساحة النقاش