اصبح واضحا لدى الجميع انه لولا تحييد شيعة العراق لما امكن للغزو الامريكي ان يقع اصلا، ولما امكن للغزو ان يخترق العراق من جنوبه الذي تقطنه غالبية شيعية، وان يدخل بغداد خلال بضعة ايام او ساعات. ومن ثم وبعدالغزو ما امكن للاحتلال الاستمرار والى درجة الاستيطان، وان يتم تسليم قادة الشيعة، ومن كان منهم خارج البلاد، ودخلوها برفقة الدبابات، كامل اللعبة السياسية والوطنية. في ظل الاحتلال ومؤسساته العسكرية والامنية التي كان عليها لا ان تحرس العملية السياسية وتطورها فحسب، بل وان تقوم بدورحماية رجالها، وتأمين سلامتهم هم وعائلاتهم، واليوم ومع وصول هذه اللعبة السياسية الى احد اهم منعطفاتها الاخطر مع وضع الدستور الدائم لعراق المستقبل، يبدو ان الهدف الجيوبوليتيكي لمشروع الغزو من اساسه، وهو تقسيم الخارطة العراقية طائفيا ومذهبياوعنصريا، قد بات رهن التحقق العملي، وبايدي بعض قيادات البلاد انفسهم، ومن مدخل التشريع الاول لمبادئ الدولة الجديدة الذي هو الدستور، وبعد ان يحوز على جوازه(الديمقراطي) من موافقة المجلس النيابي المنتظرة، الذي هو ايضا تمسك بزمامه الغالبيةالشيعية عينها القابضة تقريبا على مجمل تلك العملية السياسية في حقبة الغزو المتمادية.
لكن لا يمكن لمشروع التقسيم واقامة دويلة شيعية مذهبية في جنوب العراق ووسطه، لا يمكنه ان يمر من دون الدعم المباشر من خارج الحدود، ومن قبل ايران تحديدا او في الدرجة الاولى. ذلك ان قصة الغزو انطوت منذ البداية على ذلك التوافق الموضوعي الصامت بين امريكا وايران. هنالك ما يشبه صفقة استراتيجية حاسمة حول هيكلة جديدة للعراق مختلفة كليا، بل ومتضادة مع كينونته الذاتية وهويته التاريخية المتوارثة منذ آلاف السنين. والعجيب ان هذه الصفقة الضمنية تكاد تكون النقطة شبه الوحيدة واليتيمة في سجل العلاقات الامريكية- الايرانية المتنافرة في كل شيء الا حول الموضوع العراقي. ها هي اخيرا تغدو ورقة القوة الوحيدة في ايدي ملالي طهران لانجاز صفقة اخرى، وذات طبيعة دولية وعالمية، متعلقة بالصناعة النووية المؤدية الى اقتناء القنبلة الممنوعة على دول العالم الثالث، ما عدا الهند وباكستان، وقد تصبح ايران هي الدولة الثالثة فيما لو نجحت الصفقة الصامتة وبدءا من مركزيتها الاصلية في المسألة العراقية، التي تواجه راهنا سؤال المصير حول كيان الدولة والبنية السكانية للشعب في وقت واحد. ذلك ان التقسيم المطروح على نار حامية يتجاوز التجزئة السياسية والادارية الى شرذمة المجتمع الواحد نفسه. انه نوع التقسيم الاخطر الذي عرف العرب اشكاله المختلفة منذ قدوم الاستعمار الغربي، وها هم يتلقون اليوم ما يعتبر ذروة التطور ذلك التقسيم واستفحال وبائه، وهو تمزيق النسيج العضوي للشعب الواحد، وتفتيت وحدته الانسانية.

وليس لفظ الفدرالية كمصطلح اداري وتداوله اعلاميا سوى تغطية تخفيفية لما يخفي وراءه من هاوية سحيقة يدفع اليها العراق دفعا حثيثا خبيثا ومغلفا بمظاهر الحوارات الديمقراطية بين من يسمون بالقادة السياسيين للمرحلة الحالية. انها الهاوية المشؤومة التي لن تقوم للعراق بعدها قائمة كدولة حقيقية أو لمجتمع سليم متكامل. فالتمزيق هذه المرة يستهدف عمق اللحمة الانسانية، واعادة استقطاب مكوناتها الطبيعية ضد بعضها. بينما من المفترض بالنسبة للفيدرالية كنظام اداري انها تجمع من هم مختلفون اصلا وغرباء عن بعضهم، وتحاول بواسطة التنظيم الاداري والطوعي ان توجد قواسم مشتركة جديدة لخطوط اتحادية اولية. لكن دعوة بعض قادة الشيعة من ذوي الاصول والميول الايرانية، انما تتوجه الى فصم ما هو متحد دائما عضويا وتاريخيا وتحقيق الانفصال بشكل عامودي وأفقي في شبكية الهرم الاجتماعي للأمة التاريخية. انها فيدرالية قد تأخذ صياغة قانونية في الشكل لكنها في العمق والمضمون الواقعي، سوف تولد عوامل تجزئة وتشظية متنامية ومتمادية في اصطناع الفروق الثانوية بين المذهبين الرئيسيين للشعب العراقي، وتضخم من حجومها وتأثيراتها اليومية حتى تتحول الي ما يشبه سدودا وحواجز نفسية ومادية ما بين اطراف العائلات الروحية المتماثلة في اخلاقها وعاداتها، في تراثها وفي ابداعاته الحضارية على مر العصور.

فهل حقا تعمل ايران بكل جد على ذات الموجة التي تحرك الاحتلال الامريكي للقضاء على الكيان الاجتماعي والسياسي للعراق؟ هل هي مدفوعة بروح الثأر لحربها الفاشلة معه، والتي ذهب ضحيتها عشرات الالوف من كلا الطرفين المتقاتلين في صراع عبثي لا طائل منه الا استنفاذ قواهما معا لصالح العدو المشترك الحقيقي لكليهما معا، الصهيوني والامبريالي الامريكي؟ ام ان مسايرة الاحتلال ومؤازرة مشاريعه الهدامة قد تشكلان ورقة ثمينة في يد طهران تساعدها على تمرير مشروعها النووي؟ بيد ان المأزق الاصعب الذي بلغته المفاوضات حول ادق مراحل ذلك المشروع، والمتعلق بتخصيب اليورانيوم الذي يؤدي الى انتاج القنبلة النووية، هذا المأزق الدولي مع الاتحاد الاوروبي سوف يطلق يد بوش الذي سارع بالامس الى التهديد الذي يتقنه وهو شن الحرب. ومن الواضح ان القيادة الجديدة لايران الموصوفة بالتشدد حسب شخصية رئيسها المنتخب امست تخوض منذ البداية امتحان اثبات القوة مع ما يسمى المجتمع الدولي ودفعة واحدة بسبب المشكلة النووية. وبذلك قد يعاد السيناريو العراقي بفصوله المأساوية المؤدية الى دمار دولته واحتلال وطنه. وقد لا تصل التجاذبات الى نهاياتها القصوى رغم ان حسابات النظام الايراني ربما لن تتطابق وحقائق الامر الواقع، فيقع ذلك الخطأ الخطير في حسابات ملالي طهران الذي سقط فيه النظام العراقي السابق، منذ ان قرر اتباع عقد الصفقة مع واشنطن التي نصبت له افخاخه الكبرى الثلاثة المهلكة، بدءا من حربه مع ايران لثمانية اعوام، ثم اكتساحه للكويت، واخيرا اعتقاد بغداد الراسخ بأن امريكا لن تنجرّ الى حرب شاملة وتقويض نظام الحكم في العراق المستقر رغم كل الاهوال التي تعرض لها كدولة وشعب وسلطة.

ليس من الضروري ان يتكرر هذا السيناريو العراقي مع مسيرة الازمة الحالية الايرانية التي تواجه اليوم واحدة ربما من اصعب فصولها. فالاتحاد الاوروبي لم يفقد بعد آخر آماله التي عقدها على استراتيجية التفاوض والحوار المستمر مع طهران رغم ان هذه قد رفضت آخر عروض الاتحاد المقدمة اليها من قبله وفي حسبانه انه هو العرض الافضل المشبع بالاغراءات المعرفية والتجارية، والذي لا يمكن لقيادة طهران ان تتخلى عنه. ومع ذلك لا يريد الاتحاد ان يغلق الباب نهائيا ويدع كل المبادرة في يد بوش وحده. اذ يعرف قادة اوروبا جيدا انه حتى لو سلموا لطهران بحق استكمال مشروع الصناعة النووية بتخصيب اليورانيوم لكن ضمن اهداف الاستخدامات المدنية وحدها، فانه لن يتاح لطهران، ان تتوصل الى صنع القنبلة قبل عشرة اعوام على الاقل. وهذه المهلة كافية لتغيير الكثير من حقائق الواقع السياسي الايراني نفسه، والدولي كأن لا يستمر نظام الملالي في الحكم طيلة هذه المدة المديدة.. مثلا.

هكذا يمكن القول ان المعضلة العراقية امست تتقاطع مع اخطر خطوط السياسة الدولية، وحول العقدة النووية بالذات. فما يحدث هذه الايام من تجاذبات القوة في موضوع الدستور، وما تتخذه بعض القيادات الشيعية من المواقف المتشددة المطالبة بالفيدرالية، واقتطاع الوسط والجنوب من الوطن الانشاء معتزل شيعي على نسق الوطن (القومي) للاكراد نقول ان هذا الشطح اللاعقلاني هل كان له ان يتبدى على صورته الاوضح الاخيرة، لو لم يكن يلقي كل المساعدة من ايران والاحتلال الامريكي في وقت واحد. فهما القوتان المتحكمتان بتطورات الاوضاع. احداهما وهي امريكا بواسطة الاحتلال العسكري المباشر، والثانية وهي ايران ذات النفوذ الواسع على الغالبية الشيعية بواسطة بعض زعمائها. لكن تقف هاتان القوتان فجأة الان في مواجهة بعضهما حول المحور النووي بينما ينخرط الاتحاد الاوروبي بدور في صميم التجاذب على مستوى المجتمع الدولي ممسكا كعادته بمبادئ استراتيجية النفس الهادئ والطويل. ويقوم بوظيفة صمام الامان معرقلا ومؤخرا ما امكن الاستفراد الامريكي بالمسألة الايرانية اضافة الى العراق.

يبقى ان العامل الوحيد الذي باستطاعته الى حد ما مفاجأة المخططات الكبرى بما لم تعد له العدة مقدما، وعلى اراضي الاوطان المستباحة هو العامل الانساني نفسه المطارد دائما من حلبة الحسابات الدولية الخبيثة، وفي هذا العراق الجريح تحديدا. انها المقاومة وقوة الرفض الشعبية التي حولت الاحتلال الى مستنقع لمشاريعه وخططه واصحابه. وهي قادرة كذلك على ضرب اخطر مشاريعه تلك، وهو التمزيق الكياني للمجتمع العراقي تحت شعار الفيدرالية التي تصير الى انفصالية مقنعة. والمقاومة الجديدة هذه ينبغي ان تشارك فيها مختلف الطوائف التي يراد لها ان يقاتل بعضها ضد البعض الآخر بما يستهلك قوى الجميع. ولا يخرج احد بنفسه منها الا منهزما بنفسه واخيه معا. على ان يتقدم الشيعة كغالبية صامتة كانت ثم لا بد لها ان تسمع صوتها مدويا صارخا برفض استبدال الامة بالمذهب والوطن باقليم والاستقلال الحضاري الحقيقي بالمعتزل العقائدي القروسطي.

ما يتمناه كل وعي سليم في هذه الحقبة من تاريخ المنطقة والعالم، هو ان تعيد القيادة الجديدة لايران مراجعة موضوعية لاستراتيجيتها الاقليمية والدولية معا. وان تسعى الى رفع التناقض المستفحل من سياستها العربية خاصة في العراق. فان تكون مع وحدته العضوية والسياسية، ومع فرقته المذهبية في وقت واحد، فذلك ما لا يتفق مع المبادئ الاخلاقية المعلنة لدولة (الثورة الاسلامية). ولا يدعم استمرار التضامن المفترض مع المحيط العربي. وكذلك وعلى مستوى الازمة النووية، فليس المجتمع الغربي بجناحيه الاوروبي والامريكي هو المتوجس وحده من القنبلة المزعومة، بل من حق المحيط العربي والاسلامي كله ان تكون له مخاوف كذلك من تصاعد اية قوة مذهبية في المنطقة الى مستوى امتلاك اخطر اسلحة التدمير الشامل. فأول من سيبتلي بنتائجها المروعة هو هذه المنطقة بالذات قبل سواها.



مطاع صفدي
 تاريخ الماده:- 2005-08-1
  • Currently 99/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
34 تصويتات / 367 مشاهدة
نشرت فى 30 إبريل 2006 بواسطة ELKADEY44

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

354,156