كانت بداية مدينة الإبداع من تسمية الأطفال، حيث أن كل أسرة تنجب طفلاً كانت تسميه اسماً غير مسبوق، فلا أحد يريد أن يقلد الآخر، ثم تطور الأمر لتنتبه مجموعة أن الأسماء مهما تم ابتكارها فهي في حد ذاتها تقليد، لم لا نتسمى بأرقام بدلاً من الأسماء؟! وكل ينادَى برقمه؟! ولم يكن الأمر صعباً في مدينة لا يزيد تعدادها عن ألف نسمة، وهو ما يضمن أن لدينا ألف اسم مختلف!!
أخذت موجة الإبداع تتصاعد تدريجياً، وبدأت المجموعات الاجتماعية تتأسس على أسباب جديدة، كانت ترفض أشكال الانتماءات التقليدية، فتفننت في ابتكار أسس جديدة للتجمع، مجموعة يجمعها الأنف الطويل، وأخرى تتميز بالعطاس العالي، وثالثة تفتح فمها ويبرز لسانها وهي تضحك، وهكذا...
انتشرت موجة الإبداع بشكل هيستيري، وتجاوزت فكرة المجموعات المبدعة، لم يعد اثنان في المدينة يقومان بنفس العمل، فأي إبداع في أن تقوم بما تقوم به مجموعتك، حتى لو كانت مميزة؟!
تفككت المجموعات، وأصبح الإبداع عملاً فردياً، وهو ما يعني أن سكان المدينة الألف، سينتجون ألف فكرة في كل شيء في حياتهم، أكلهم، شربهم، نومهم، حركتهم، عملهم.. فالتكرار مرفوض في وعي مدينة الإبداع التي تلتهم التقليد التهاماً.
لم يعد اثنان يرتديان نفس الزي، تنوعت الألوان فلا يوجد زي بلون مكرر، ثم كان التغيير في تصميم قطع الثياب، كل يلبس قطعة مختلفة عن الآخر، هذا يغطي جسده بفاكهة، وآخر بخضروات، وثالث بأعواد خشب، ورابع بزي معدني، الخ.
تطورت موجة الإبداع الفردية.. ترك الناس مساكنهم، هذا ينام في بلاعة مستمتعاً بإبداعه، وآخر فوق شجرة، وآخر فوق عامود نور. لم يكن يشغلهم من الذي أبدع أولاً، ففي حالة وجود تكرار يقرر الأكثر إبداعاً أن يغادر موقعه حتى لو كان هو أول من ابتكر الفكرة. كان التقليد وباء يجب الهروب منه إن حل، ولا يفكر أحد في عمل تسوية معه، أو إشعال معركة بعنوان "من الذي أبدع أولاً ومن هو أحق بالفكرة".
أما الطعام التقليدي فقد تلاشت فكرته في وعي الشعب المبدع، فهذا يأخذ حصته الغذائية من أقراص ابتكرها، وآخر من رحيق يشمه، وهكذا... لا يمكن أن يجتمع اثنان في مكان واحد للأكل، فضلاً عن أن يأكلا نفس الطعام، أو بنفس الطريقة.
عجت المدينة بحركة لا تتوقف، لا أحد يريد أن يسير في نفس الطريق، حُفر ألف طريق، كل فرد يتحرك في طريقه الخاص، فالوجهة غير مكررة، ولن يذهب اثنان إلى نفس المكان. وكانت الطرق في جميع المستويات، هذا يسير تحت الأرض، وهذا فوقها، وآخر معلق في الهواء.. الخ، وُجد لاحقاً ألف مستوى من الحركة. كذلك هناك من يسير على ركبتيه، وآخر على يديه، وآخر يزحف على بطنه كالثعبان متحملاً الآلام فخوراً بالإبداع.
مدينة الجنون ... لا أحد فيها يثبت في مكانه، من ينظر إلى المدينة من فوق قمة جبل يراها في حركة دؤوبة بحثاً عن الإبداع، وهرباً ممن يقلدون. تغيرت أنماط الحياة كلها، وأغلقت المصانع، فلا معنى لتكرار أي منتج في هذه المدينة، كل يبتكر ويصنع، وكل يمتنع عن التقليد!!
عند المشاجرات لم يكن هناك ضرب أو سباب، فهذه من بقايا عادات الآباء، يمكن لأحدهم أن يشد أصبع قدم الآخر، أو يلمس حاجبه، أو يسد أنفه، أو "يزغزغه" حتى يميته من الضحك. لم يكن هناك رد بالمثل، بل الرد بالإبداع، وهو ما كان يجعل المشاجرة تتوقف قليلاً حتى يبدع الشخص رد الفعل المناسب!! وكأننا نشاهد لعبة شطرنج للمحترفين، يتأنى فيها كل لاعب قبل أن يقدم على تحريك قطعة!!
كانت موجة من التغيير المستمر. فلا يوجد ما هو ثابت في هذه المدينة.. وبدأت فكرة تراود أكثر من عقل، أن وجودهم في المدينة ذاته تقليد.
هاجر أحدهم من المدينة، فقرر الآخرون ألا يهاجروا حتى لا يقلدوه... ثم انتحر آخر .. فقطع الطريق على الآخرين أن يفعلوا نفس الشيء... أخرج لسانه لهم قائلاً.. موتوا في سجن إبداعكم.
كم كان حاكم مدينة الإبداع مجرماً يوم أن طرح برنامجه "شعب مبدع.. ووطن فريد".. فقبل أن يصل للسلطة كان شعب المدينة كأي شعب.. يمزج بين الإبداع والتقليد. لكنه قرر أن يسيطر عليهم بطريقة ماكرة، لعلها من وحي الشياطين.
كم انتُزعت منه كل إنسانية يوم أقنع الناس ببرنامج الإبداع ليلحقوا بركب الدول المتقدمة. ثم أطلق مروحياته ذات ليلة لترشهم بغاز الإبداع وهم نيام. فصنع لديهم ذلك الإبداع الهيستيري، فلا أحد يريد أن يكون رئيساً، ولا يجتمع اثنان للتعبير عن رأيهم ضده، أجهض كل سبيل للتجمع بصناعة وهم "قيمة الإبداع". فجعلهم بأنفسهم يدمرون "قوة التقليد".. لك أن تتخيل في هذه المدينة كيف كان مصير الحاكم؟ وكيف انتهت المدينة وهي تبدع دون هدف محدد!!
إن التقليد رحمة... وهي نزعة إنسانية أصيلة، وقد انتبه لذلك شعب وصلته أنباء مدينة المبدعين، فقرر أن يتجنب قوة الإبداع المدمرة، وأن يطور قوة التقليد، جعل من التقليد نظاماً محكماً وليس مرضاً يجب تجنبه، وأدرك أن الأزمة ليست في الإبداع أو التقليد، ولكن في عمل ما هو مطلوب، فالإبداع ليس مطلوباً لذاته، ويوم يُطلب لذاته تدمر الحياة.
أراد ذلك الشعب أن يثبت أنه يمكن غزو العالم عبر سلاح التقليد وقوته الفتاكة.. صاغ من التقليد فلسفة ومنهجاً.. مؤكداً أن الوصول إلى القمة له بوابات كثيرة سوى الإبداع. وعلى عكس شعب الإبداع كانت ملامح وجوه هذا الشعب متشابهة إلى درجة كبيرة، يحسبها الغريب نسخاً مكررة. إنهم الصينيون... أبدعوا في عمل مزرعة للتقليد... فكثفوه بدرجة مذهلة، وحولوه إلى قيمة وقوة فعالة!!
ساحة النقاش