الحمد لله ، والصلاةُ والسلام على من بعثه ربُّه هاديًا ومُبشِّرًا ونذيرًا ، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين وسلّم تسليما كثيرًا. وبعد:
فإن الوقت هو رأس مال المسلم في هذه الحياة ، والإنسان أنفاسه محدودة ، وأيامه معدودة ، ولأهمية الوقت فقد أقسم الله ـ تعالى ـ به في القرآن في مواضع متعددة ، كما ورد في السنة المطهرة ما يدل على شرفه وعظيم شأنه ، فلا شيء أنفس للإنسان من عمره ، واستثماره بما يعود على المسلم بالنفع أمر مطلوب محمود ، لا سيما وأن الإنسان سيحاسب حسابًا عسيرًا عن عمره فيم أمضاه وأفناه.
وعمر الإنسان في هذه الدنيا هو موسم الزرع ، وفي الآخرة يكون الحصاد ، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر .
الإجازة في الإسلام
الترويحُ عن النفوس أمرٌ مطلوبٌ ، لأنَ القلوبَ تَكلُّ ، وإذا كلَّت عَمِيَّتْ .
عن حنظلة الأُسيدي ـ رضي الله عنه ـ قال لَقِيَني أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ فقال: (.كيف أنت يا حنظلة ؟ ) قال: ( قلت: نافق حنظلة. ) قال: (.سبحان الله! ما تقول ؟ ) قال: ( قلت: نكونُ عند رسول الله.^ ، يذكِّرُنا بالنَّار والجنَّة حتى كأنـَّا رأى عين، فإذا خرجنا من عندِ رسول الله ^ ، عافَسْنا الأزواجَ ، والأولادَ ، والضّيعاتِ ؛ نسينا كثيرًا. ) قال أبو بكر: ( فوالله إنا نلقى مثل هذا. ) فانطلقت أنا وأبو بكر، حتى دخلنا على رسول الله ^ ، قلتُ: (.نافق حنظلةُ، يا رسولَ الله! ) فقال رسول الله ^: ((.وما ذاكَ ؟ )) قلت: ( يا رسول الله ، نكون عندك تذكرُنا بالجنَّة والنَّار ، حتى كأنـَّا رأى عين ، فإذا خرجنا من عندك عافسْنا الأزواجَ والأولادَ والضيعاتِ . نسينا كثيرًا . ) فقال رسول الله ^: (( والذي نفسي بيده، إنْ لو تدومون على ما تكونون عندي ، وفي الذِّكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم ، وفي طرقكم ، ولكن ، يا حنظلة ساعةً وساعة .)) ثلاث مرار .[ رواه مسلم : 2750].
إذاً فالقلوب تحتاج إلى راحة . والنفوس تحتاج إلى شيء من الاستجمام .
مِن فوائد الإجازة
1 – طلب رضا الله ومرضاته :
ويكون ذلك بقصد بيت الله الحرام ، أو مسجد نبيِّه ^ ، أو مسراه فكّ الله أسرَه .
ويكون أيضًا بقصد زيارة الأقارب وصلة الأرحام ، إلى غير ذلك من المقاصد المشروعة المطلوبة .
2 – ليُعلم أن في دينِنا فُسحـة :
روى الشيخان من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ((.والله لقد رأيت رسول الله ـ ^ ـ يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله ـ ^ ـ يسترني بردائه ، لكي أنظر إلى لعبهم ، ثم يقوم من أجلي ، حتى أكون أنا التي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن ، حريصة على اللهو )). [رواه مسلم:892 ، ونحوه في البخاري: 5236].
وفي رواية للإمام أحمد قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله ـ ^ ـ يومئذ : (( لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفية سمحة )) .
3 – إدخالُ السرورِ على الأهل:
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (( خرجتُ مع رسولِ الله ـ ^ ـ وأنا خفيفةُ اللحم فنـزلنا منـزِلا فقال لأصحابه: تقدموا . ثم قال لي: تعالي حتى أُسابقْكِ، فسابقني فسبقتُه ، ثم خَرَجْتُ معه في سفرٍ آخـر ، وقد حملتُ اللحمَ ، فنـزلنا منـزلا، فقال لأصحابه : تقدموا ، ثم قال لي : تعالي أسابقْكِ، فسابقني فسَبَقَنِي ، فضرب بيده كتفي وقال :هذه بتلك )). [رواه أحمد وأبو داود والنسائي في الكبرى ، وغيرهم ، وهو حديث صحيح ].
وقوله ^: هذه بِتلك ، أي: واحدةً بواحدةٍ !
4 – إذهاب الملل والسآمة :
تملُّ النفوس من روتين الحياة ، وتصدأُ القلوب كما يصدأ الحديد. وإذا كَثُرَ تَـكرارُ أمرٍ مـا على النفوس ملَّتهُ ، وإن كان مما لا يُملُّ عـادةً .
كان ابنُ مسعودٍ ـ t ـ يُذكِّرُ أصحابَه كلَّ يومِ خميس، فقال له رجل: يا أبا عبدالرحمن إنا نحبُّ حديثَك ونشتهيه ، ولودِدْنا أنك حدَّثتَنا كلَّ يوم ، فقال : ( ما يمنعني أن أُحدثَكُم إلا كراهيةُ أن أُمِلَّـكَم . إن رسول الله ـ ^ ـ كـان يتخولُنا بالموعظة في الأيامِ كراهيةَ السآمةِ علينا. ) . متفق عليه .
فإذا كان هذا فيما يتعلّق بذكر الله الذي هو غذاء القلوب، فما بالُكم بغيره ؟
قال بعضُ الحكماء: إن لهذه القلوب تنافرًا كتنافرِ الوحشِ فتألّفوها بالاقتصادِ في التعليم ، والتوسطِ في التقديم ، لتحسُنَ طاعتُها ، ويدوم نشاطُها .
وكان ابن عباس ـ t ـ يقول لأصحابه إذا دامـوا في الدرس: أحمضـوا. أي ميلوا إلى الفاكهة ، وهاتوا من أشعاركم ، فإن النفس تملّ .
5- ومن فوائد الإجازة أيضًا: تجديد النشاط ، وكسر الروتين ، والتّقوّي على العبادة :
وذلك أن النفس تشعر بالارتياح بعد قضاء إجازة ، بخاصة إذا صاحب ذلك تغيير مكان .
دخل النبي ـ ^ ـ المسجد ، فإذا حبلٌ ممدودٌ بين الساريتين فقال : (( ما هذا الحبل ؟ )) قالوا : هذا حبل لزينب ، فإذا فترت تعلَّقت به . فقال النبي ^: (( لا. حُلُّوه. لِـيُصلِّ أحدُكم نشاطَه ، فإذا فَتَرَ فليقعد )). متفق عليه .
6 – السير في الأرض :
قال سبحانه وتعالى : ] قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا في الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ [ .
فسير المسلم في الأرض ينبغي أن يكون مسير نظر واعتبار وتفكّر . ويجب أن يكون وَفق قواعدَ وضوابط ، منها:
أ – ألَّا يمرّ بديار المُعذَّبين وآثارهم ، ولا يدخلها بقصد الفُرجة .
ب– ألَّا يكون السفر ولا تكون السياحة إلى بلاد الكفار لِعِظَم الأخطار .
جـ- أن يكون نظر تفكّر واعتبار لا نَظر فُرجةٍ وتفكُّه أو نظر شماتة .
د – ألَّا تُضيَّع الفرائض ، ولا يُفرّط فيها .
7 – من فوائد الإجازة: تآلف القلوب ، واجتماع أفراد الأسرة:
عندما ينهمك بعضُ الناس في عمله، يدفعُه ذلك أحيانًا ويحمِلُه على التفريط في حق أهله وأسرته ، فلا يكاد يجلس معهم سوى مرة في الأسبوع ، أو ينسى ذلك ولا يُعيره اهتمامًا ، وربما كان ذلك سببًا في ضياع بعض أفراد الأُسرة .
فتأتي الإجازة لتجمعَ أفرادَ الأسرةِ وتؤلِّفَ بينهم ، ويحتاج ربَّ الأسرة إلى الجلوس مع أولاده بصدرٍ منشرح ، ونفسٍ مُطمئنة ، بعيدًا عن هموم العمل ؛ ليسمع مُشكلة هذا ، وهم ذاك ، وتسمع الأم هم بناتِها وما يُعانين منه من مُشكلات ، ونحوها .
وهذا أمرٌ يغفل عنه كثيرٌ من الناس ، فيُرجِّح عَمله على حقِّ أُسرتهِ . وربَّما حمَلَ همَّ عَملِه إلى بيته ؛ فحمله معه أفرادُ أُسرتِه . بل ربَّما حمله معه في إجازته وفي إجازة أُسرتِه. وربمَّا انشغل في إجازته عن أهله وولده ، وربما انشغلت بعض النساء العاملات بعمل لم يُكلَّفن به خلال إجازاتِهن مما ينتج عنه بُعدَ الأم والأب أحيانا عن البيت وذلك قد يؤدّي إلى تفكك الأُسر .
انظر - رعاك الله - إلى فقه سلمان الفارسي t، فقد زار سلمانُ ـ t ـ أخاه أبا الدرداء t، فرأى أمَّ الدرداء متبذِّلة ، فقال لها: ما شأنك؟ قالت : أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا ، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا ، فقال له : كُل . قال : فإني صائم . قال : ما أنا بآكل حتى تأكل . قال : فأكل ، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم ، قال: نَم. فنام ، ثم ذهب يقوم ، فقال : نَم. فلما كان من آخر الليل قال سلمان : قُم الآن ، فَصَلَّيَا، فقال لـه سلمان : إن لربك عليك حقًّـا ، ولنفسك عليك حقًّـا ، ولأهلك عليك حقًّـا، فأعطِ كل ذي حق حقّه، فأتى النبيَّ ـ ^ ـ فذكر ذلك له، فقال له النبي ^: (( صَدَقَ سَلمانُ )). [رواه البخاري: 1968].
والذي ذَكَرَ ذلك للنبي ـ ^ ـ هو أبو الدرداء كأنه يشتكي سلمان .
ومعنى ( متبذّلة ) أي: لابسة ثياب البذلة وهي المهنة ، أي أنـها قد تركت الزينة . وعرَّضت عن إعراض زوجها عنها بقولها : أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا.
فانظر إلى فقهِ سلمانَ t، كيف قدَّم الحقوق والواجبات على النوافل من الصيام وقيام الليل ، وما ذلك إلا لأن حقَّ الأهلِ أولى ، وهو ما أقرّه عليه الرسول ^. فكيف بمن يُضَيِّع الأوقات في السهر على المحرمات ويترك الحقوق والواجبات ؟!
قال ابن حجر رحمه الله: ( وفيه جـواز النهـي عن المستحبات إذا خُشي أن ذلك يُفضي إلى السآمـةِ والمللِ وتفويتِ الحقوقِ المطلوبةِ الواجبةِ أو المندوبةِ الراجحِ فعلُها على فعـلِ المستحب المذكور ).
ومثله قصة عبد الله بن عمرو ــ رضي الله عنهما ــ في الصحيحين أن رسول الله ـ ^ ـ قال له: (( ألم أُخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟ )) قلت: إني أفعل ذلك. قال : (( فإنك إن فعلت هجمت عينك ، ونفهت نفسك ، و إن لنفسك حقًّـا ، وإن لأهلك حقًّـا ، فصم وأفطر ، وقم ونم )). [متفق عليه: 1153 ، 1159].
فانظر إلى إنكار النبي ـ ^ ـ عليه حين لم يُعطِ زوجته حقوقها، وإن كان مُشتغلاً بالعبادة ، ولو كان الأمر مباحًا أو يسيرًا لما أنكر عليه ، وما ذلك إلا ليُوازن بين حقوق أهله ونفسه .
ساحة النقاش