••••

الدراسات المستقبلية ..واقع مرير .. ومستقبل مأمول

دكتور / ناصر على
الدراسات المستقبلية ..واقع مرير .. ومستقبل مأمول
بالرغم من زيادة عدد المهتمين باستشراق المستقبل فى العالم العربى ، وكذلك زيادة عدد المراكز والمؤسسات المتخصصة فى القيام بالابحاث والدراسات المستقبلية ؛ الا أن ثمار ذلك ليست على الوجه المطلوب .. وهذا ما يدفع للتساؤل عن أسباب تدنى عائد الدراسات المستقبلية فى العالم العربى ؟

وإذا نظرنا إلى تلك المشكلة من حيث أسبابها نجدها تتمثل فى :-
- سيطرة التفكير الماضوى :- فعلى الرغم من أن التاريخ لا يتم الاهتمام به إهتمام يحوله من مادة تقدس الماضى إلى مادة تدرس الماضى ولكن لفهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل . ولهذا فالتفكير الماوضوى ينهل من الأحداث الماضية الأفكار والتجارب دون وعى بالتغيرات الحالية وما قد يحدث فى المستقبل من تغيرات وتحديات . وبذلك يفشل التفكير الماضوى فى إعطاء بوصلة لتوجيه تفكيرنا صوب المستقبل بل فى كثير من الاحيان نفشل فى فهم الماضى واحداثه ويصل الأمر إلى ذروة العداء ، وذلك للاعتقاد بان التفكير المستقبلي هو درب من دروب التنجيم ومحاولة فاشلة لمعرفة الغيب . فتتم محاربة كل تفكير مستقبلى وليس هذا على المستوى العادى ، بل يصل الأمر إلى درجة بحوث الماجستير والدكتورة في جامعاتنا.

وعلى نفس المنوال بحوث الترقية للاستاذية يكون هناك صعوبة فى الموافقة على التسجيل لدرجة الماجستير والدكتوراة ويعجز الباحث عن إقناع اساتذته بموضوع به تفكير مستقبلى والنتيجة عدد محدود فقط هو الذى نجح فى الهروب من مصيدة تسلط التفكير الماضوى وربما يرجع نجاح تسجيل البعض – ومنهم كاتب المقال – لإيمانهم بأن المستقبل لابد من الاعداد له من الآن ، وأن أمة لا تخطط لمستقبلها لا يمكنها العيش فى المستقبل فى أمان .

فمن يسجل موضوعه فى أى تخصص فيه توجه مستقبلي ، وتتم مناقشة الباحث ويحصل على الدرجة البحثية سواء ماجستير أو دكتوراه . والملاحظ أن منهم من يسجل ماجستير ولا يكمل مشواره البحثى فى درجة الدكتوراه وكأنه لا يريد إستكمال مشروعه البحثى المهتم بالمستقبل وتلك خسارة كبيرة .

أما على مستوى البحوث لدرجة الاستاذية فيقدم أحدهم بحثاً به تفكير مستقبلى . يجد أن درجته فى هذا البحث لا تصل إلى درجة جيد التى تجعل البحث ناجحاً ولكنه يحصل على عبارة "جهد مشكور" وهذا ينعكس على من يأتى بعده من الباحثين حيث أن تكلفة بحث الترقية من أموال ووقت وجهد كبيرة جداً لكى يكون المصير فى نهاية البحث "جهد مشكور" أو بعبارة أخرى البحث تقديره راسب (وذلك بعيداً عن شياكة الالفاظ ).

ومن هذا وذاك نخسر باحث صغير كان أو كبير يتوجه بأبحاثه نحو التفكير المستقبلى .
هذا على المستوى الكمى . أما على المستوى الكيفى فدرجة الجودة تختلف وهذا طبيعى فى كافة البحوث فى كافة التخصصات فلدينا الممتاز والمتوسط وأيضاً الردئ .

ولكن مع قلة الكم يعانى الكيف أيضاً من ندرة الكم . فتقل جودة الكيف أيضاً ، وربما لهجة الحديث هنا قد تجعل البعض يغضب ، والبعض الآخر قد يحس بمرارة وألم للوضع الذى نحن فيه من محنة أو أزمة غياب التفكير المستقبلى .

ومن واقعنا المرير أيضاً نتحدث عن "موضة" تظهر فى كتابات بعض المؤلفين وهى عبارة "رؤية مستقبلية" وعندما نمسك الكتاب من بعد هذه العبارة التى توجد على الغلاف نجد أن الكتاب ليس له علاقة بالمستقبل سوى بعض الأوراق أو بالتحديد الفصل الأخير هو الذى يمثل المستقبل أما متن الكتاب كبيراً كان أو صغيراً لا يتحدث عن المستقبل ... ترى من منا يضحك على الآخر أم كلنا على من نضحك ؟

وأيضاً هناك ملاحظة جديرة بالذكر هى أن عدد من المراكز البحثية فى وطننا العربى بصفة عامة ومصر بصفة خاصة يحمل فى اسمه كلمة المستقبل أو المستقبلية وإذا تابعت ما ينتجه من أبحاث ودراسات تجدها بعيدة كل البعد عن المستقبل وتجد أن اهتماماته فى وادى آخر . ولا نريد أن نذكر أمثلة ونترك المجال لم يجد لديه المقدرة على معارضة ذلك من اصحاب وباحثى تلك المراكز أن يشيروا لنا على انجازاتهم وإبداعاتهم الخاصة بالمستقبل حتى وإن كانت تلك المراكز توجد فى اعرق الجامعات وبكل جامعة منها مركز لدراسات المستقبل ، فهل هناك من يدافع عن ما وصلت إليه هذه المراكز من "غيبوبة" وأعتقد أن كل ما تفعله ربما صرف الاعتمادات المالية المخصصة لها على بعض الدراسات التى قد نشم فيها اسم المستقبل .
أما لو تناولنا المؤتمرات والندوات الخاصة التى تمثل سيل جارف نجدها تأتى عند المستقبل وتصاب العقم فلا يبدو منها سوى نوادر معدودة على اليد الواحدة .
كان ما سبق هو ملامح للواقع المرير "البعيد كل البعد عن دراسات مستقبلية فعالة لنقل وطننا العربى من ما هو فيه من تخلف إلى مستقبل أفضل ؟ ..." .

والآن جاء دور الحديث عن ماذا نفعل ؟
وأعتقد أن هذا أهم من رصد الواقع لأن كثير من الكتابات أشارت إلى هذا الواقع وربما قليل منها هو الذى قدم حلول أو مقترحات للوصول إلى حال أفضل للدراسات المستقبلية فى وطننا العربى . ولعل أهم ما نقوم به هو :ـ
1. البعد عن الشكلية فى تناول المستقبل والتى تصل إلى حد التشدق بعبارة المستقبلية والتركيز على التطبيق الفعلى .
2. اعتبار نشر الفكر المستقبلى (حياة أو موت) وذلك فى المناهج الدراسية بداية من أولى مراحله وأن تتدرج في مستواها الأعلى ، وتصل إلى مادة كاملة فى التعليم الثانوى هى مادة المستقبل يدرس فيها الطلاب أسس وأهمية واستراتيجيات المستقبل مع الأهمية بمكان التنويه إلى أن تكون المادة ضمن المجموع وليست خارج المجموع وإذا كانت ستكون خارج المجموع فنقول بكل صراحة لا تدرس أفضل لأن ما يجرى للمواد خارج المجموع نعرفه جميعاً وكفانا (ضحك على بعض)، ومن جانب آخر يجب تطعيم كافة المواد وفى كافة الموضوعات بالنظرة المستقبلية وبذلك تكون الفائدة المرجوة من تعليمنا لابنائنا أن نسلحهم بالفكر المستقبلى .
- الخروج على التناول الأحادى أو الجزئى وعدم الاعتماد على متغير واحد أو بعض المتغيرات فى بناء رؤية مستقبلية .
- وجود تأثيرات متبادلة بين مختلف العوامل المؤثرة فى كافة مجالات الحياة البشرية و لابد لباحث المستقبليات الوعي بذلك أثناء دراسته للمستقبل .
- تطبيق قاعدة هامة هى "فكر عالمياً وتحرك محلياً" والسعى إلى المساعدة فى حل المشكلات المجتمعية فليست الدراسات المستقبلية بحلية أو ديكور فقط .
- مد جذور التعاون بين كل البلاد العربية فحتى الآن كل بلد عربى يسعى مفكريه إلى تناول الفكر المستقبلى ولابد من مد جذور التعاون و لا يوجد حائل فقد يمكن أن يتم الاتصال فيما بينهم عن طريق أحدث مواقع الانترنت للاستفادة من الخبرات .
- ويا حبذا لو قام فرد أو مؤسسة عربية بتجميع المفكرين العرب المهتمين بالمستقبل ونذكر هنا فكرة منتدى العالم الثالث مصر 2020 وهو المنتدى الذى أصدر العديد من الدراسات الا أنه توقف الآن عن أى إنتاج جديد ومستمر فقط فى توزيع مطبوعاته ودراساته فقط دون جديد ؟؟!!
- اما بالنسبة للتعليم الجامعى تكون هناك فى كل كلية وكل قسم على الأقل وحدة للدراسات المستقبلية ، وكل متخصص فى مجال من المجالات لابد أن يدرس مستقبل هذا التخصص وأن تكون مادة أساسية فى المواد التى تسمى "تمهيدى" يقدم فيها بحث مقترح ورؤية مستقبلية خاصة به تعكس ما درسه وتترجم مهارات التفكير المستقبلى إلى واقع ملموس .

وهل لنا أن نتخذ مجال المستقبليات ميدان للمنافسة وننظر على سبيل المثال إلى ما يحدث فى أمريكا من تأسيس جمعية مستقبل العالم World Future Society وهى تنظيم مستقبلى عالمى تأسس عام 1966 وله فروع فى قارات أمريكا وأوروبا وأسيا واستراليا ... وأما أفريقيا فلا يوجد فرع له بها .

كلمة أخيرة ربما لو أخذنا موضوع المستقبل والدراسات المستقبلية – مأخذ الجد – ورصدنا حالنا وبحثنا عن اسباب انصرافنا عنه ، فنجد أنه لو كان البعد عن الدراسات المستقبلية ينبع بتوجيه داخلى يرفض الدراسات المستقبلية عن عدم ايمان بقيمتها وعدم جدواها – وهذا عن جهل – فلابد ان ننشر الوعى بأهمية الدراسات المستقبلية وتبنى ثقافة الوعى بها.
أما لو كان البعد عن الدراسات المستقبلية وليد مخطط فرض من الخارج – فيما يتفق مع نظرية المؤامرة – ويطبقه العملاء التابعين ( الذين هم على رأس مؤسساتنا العلمية جاسمون والتفكير المستقبلى يحاربون ) فان الخلاص من هذا هو بالدعوة لهم بأن ينير عقولهم بحب المستقبل ودراسته وان لم يكن فندعو ان يعينهم الله من اماكنهم ليتولى من هو أحرص على السعى للاهتمام بالمستقبل ودراسته ليحول الأمة العربية من ظلام التخلف إلى التقدم والرفاهية . د/ ناصر علي
خبير مناهج بمركز تطوير المناهج
جمهورية مصر العربية





المصدر: دكتور / ناصر على المرصد العراقى ١٩/٠٦/٢٠٠٩ الجمعة ٢٦-جماد ثاني-١٤٣٠ هـ
  • Currently 162/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
54 تصويتات / 847 مشاهدة
نشرت فى 7 يناير 2010 بواسطة Drnasser

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

112,442