|
تقرير خاص - أمل الأمة
مصر: لن نغلق القناة أمام أمريكا
السعودية: لن نشارك في ضرب العراق
أوربا والعراق.. تفاوت المصالح وراء اختلاف المواقف
روسيا تساند العراق.. ليس حبا فيه!
مصر: لن نغلق القناة أمام أمريكا |
أعلن وزير الخارجية المصري أحمد ماهر أن بلاده "لن تشارك في الهجوم الأمريكي المتوقع" ضد العراق، معتبرًا أن الفرصة ما زالت متاحة لتجنب النزاع عبر المساعي الدولية. لكنه أكد في الوقت نفسه أن بلاده لا يمكنها منع السفن الحربية الأمريكية والبريطانية من عبور قناة السويس في طريقها لمنطقة الخليج للمشاركة في ضرب العراق.
|
أحمد ماهر |
وقال ماهر لوكالة الأنباء الفرنسية الخميس 26-12-2002: "لن نرسل قواتنا، ولن نشارك في هذه الحرب ... مصر لن تشارك في هذا الهجوم بأي شكل كان".
وبرر ماهر مشاركة القوات المصرية في حرب الخليج الثانية قائلاً: "في عام 1990 اجتاح العراق بلدًا عربيًا، وكان لا بد من وضع حد لهذا الاحتلال، كما أن الرئيس المصري حسني مبارك حاول قبل المشاركة في التحالف إقناع العراق بسحب قواته من الكويت".
وحول موقف مصر من السفن الأمريكية والبريطانية التي تعبر قناة السويس للمشاركة في حرب العراق قال ماهر: "لا يمكننا إغلاق قناة السويس.. القناة تخضع لقوانين دولية".
وبخصوص احتمال فتح مصر المجال الجوي المصري أمام القوات المشارِكة في الحرب المحتملة ضد العراق اكتفى ماهر بالقول "هذه قضية أخرى".
وأشار ماهر إلى أن مصر ستواصل التحرك لتجنب ضرب العراق، وقال: "هناك قوى في الولايات المتحدة تدفع في هذا الاتجاه وأخرى في الاتجاه المعاكس. لا يمكن التكهن كيف ستنتهي الأمور. ولكننا نواصل التحرك كما لو كان ممكنا تجنب الحرب".
وأوضح ماهر أن التحرك المصري لنزع فتيل الأزمة العراقية "يتم على ثلاثة محاور أساسية"، وقال: "أول هذه المحاور يتمثل في العمل مع العراق، وتشجيعه على عدم عرقلة التعاون مع المفتشين الدوليين. والمحور الثاني يتمثل في تحرك مصر على مستوى الولايات المتحدة".
وأضاف ماهر أن المحور الثالث يتمثل في تحرك مصر على مستوى الأمم المتحدة حتى ينجز مفتشو نزع الأسلحة عملهم "بحذر وحياد وبدون استفزازات"، وقال: "ولقد شددنا نحن وبلدان عربية صديقة أخرى وفرنسا وروسيا على أن يتم كل شيء في الأمم المتحدة؛ لأنه من الضروري تحديد الإطار الذي تنجز فيه كل عملية".
وكان الرئيس المصري حسني مبارك الذي تتلقى بلاده سنويا مساعدة أمريكية مدنية وعسكرية تقدر بنحو ملياري دولار، قد أعرب مرارًا عن معارضته ضرب العراق، معتبرا أنه قد يزعزع استقرار المنطقة برمتها. وطلب مبارك من بغداد تسهيل عمل مفتشي نزع الأسلحة
السعودية: لن نشارك في ضرب العراق |
أكدت السعودية مجددًا رفضها المشاركة في أي عمل عسكري أمريكي محتمل ضد العراق، مشيرة إلى أن عملاً كهذا يجب أن يتم بموافقة الأمم المتحدة، ونفت الرياض أن تكون نصحت الرئيس العراقي صدام حسين بالتنحي لتجنيب بلاده الحرب.
وقال وزير الخارجية السعودية الأمير سعود الفيصل للصحفيين الثلاثاء 24-12-2002: "إذا اتخذت الأمم المتحدة قرارًا
|
سعود الفيصل |
باللجوء إلى القوة ضد بغداد، فهذا يتطلب من كل الدول التعاون معها، لكن هذا لا يعني أن يفرض على كل الدول المشاركة في العمل العسكري، فنحن لن نشارك في عمل عسكري بطبيعة الحال".
وأضاف الفيصل "الطائرات الأمريكية والبريطانية التي تنطلق من قاعدة الأمير سلطان بالسعودية لفرض تطبيق الحظر الجوي في شمال وجنوب العراق تعمل في هذا الإطار، إلا أن هذا لا يعني أن المملكة ستهاجم أو تسمح بمهاجمة العراق من أراضيها".
وعبَّر الفيصل عن تفاؤله بالتعاون العراقي مع مفتشي الأسلحة الدوليين، مشيرًا إلى أن ذلك سيجنب بغداد أي عمل عسكري.
وقال: "نعمل على تجنيب العراق الحرب، ونحن سعداء بتعاونه مع المفتشين، وسعداء أيضًا بقول الرئيس الأمريكي إن الحرب هي الخيار الأخير".
ويتمركز في السعودية نحو 5 آلاف جندي أمريكي، وكانت الرياض قد سهَّلت للتحالف المناهض للعراق في 1991 استخدام أراضيها لتحرير الكويت.
لم نطلب التنحي
من جهة أخرى، أكد وزير الخارجية السعودي أن بلاده لم تطلب من الرئيس صدام التنحي عن منصبه من أجل تجنيب المنطقة حربًا محتملة.
كما أشار الفيصل إلى أن بلاده ترى في مبادرة وزير الخارجية الأمريكي كولن باول حول "الديمقراطية في العالم العربي" التي أعلنها مؤخرًا، جوانب إيجابية تتمثل في التعاون الاقتصادي.
وقال الفيصل: "إن التعاون الاقتصادي يساعد على حل كثير من القضايا السياسية، وتستطيع المساعدات الأمريكية أن تعمل على تخطي شعوب الشرق الأوسط لبعض أزماتها"، مشيرًا إلى أن أغلب المساعدات الأمريكية تذهب لإسرائيل، كما أن المساعدات الأوروبية للدول العربية لا ترقى إلى المستوى المأمول.
وأوضح الفيصل أنه إذا كانت المبادرة الأمريكية تفرض أساليب سياسية لا تتوافق مع قيم ومصالح المنطقة العربية، فإن انعكاساتها ستكون سلبية.
كان باول قد أعلن أن المبادرة الأمريكية التي أسماها "الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط" تهدف إلى تشجيع المشاركة الشعبية في العملية السياسية، ومساعدة المؤسسات التعليمية والتربوية في سائر أرجاء الشرق الأوسط.
أوربا والعراق.. تفاوت المصالح وراء اختلاف المواقف |
شأن مواقفها من معظم القضايا العربية، يتمثل الموقف الأوربي من الملف العراقي، على وجه العموم، بدرجة عالية من الحياد عن نظيره الأمريكي، لكنها أيضاً لا تذهب إلى أبعد من مجرد الاعتراض أو إبداء الملاحظات على سياسات واشنطن، مع ملاحظة أن طبيعة الأزمات السابقة - فيما يتعلق بالعراق - لم تكن تتيح فرصة كبيرة للخلاف بين أوربا والولايات المتحدة الأمريكية، على خلاف الأزمة الحالية، حيث يبدو الخلاف واضحاً والفجوة كبيرة بين الموقفين، لا سيما في ظل السيناريوهات المحتملة لنتائج التحرك الأمريكي الجديد.
لقد لوحظ ارتفاع نبرة الاعتراض الأوربي هذه المرة على واشنطن، وكذلك تماسك الموقف الفرنسي المضاد لتحركات واشنطن في كافة الاتجاهات بما فيها الأمم المتحدة.
فللمرة الأولى - ربما منذ عقود - تتحرك باريس بهذه القوة للوقوف أمام خطوة أمريكية، حتى إنها لم تكتف بتأكيد اعتراضها على استصدار قرار من مجلس الأمن يمنح واشنطن حق ضرب العراق تلقائياً؛ بل قامت بإعداد مشروع قرار آخر بديل يكون بمثابة خطوة أولى تقرر التزامات العراق، وإطار عمل المفتشين الدوليين على أن تكون مسألة التفويض باستخدام القوة المسلحة مرحلة تالية ينظر فيها مجلس الأمن، بناء على تقرير لجنة التفتيش وفقاً للآلية الجديدة التي ستتم بها عمليات التفتيش.
وقريباً من الموقف الفرنسي، جاءت مواقف معظم الدول الأوربية الأخرى، لا سيما ألمانيا وإيطاليا وأسبانيا بدرجة ما.
تطور ملموس في الموقف الفرنسي
لكن لا بد من الإشارة إلى أن الموقف الأوربي والفرنسي - على وجه الخصوص - قد تطور على مدار الأزمة منذ بدايتها وحتى الآن. ففي البداية كانت باريس وبرلين وروما تطالب العراق بالانصياع إلى قرارات مجلس الأمن والالتزام بعودة المفتشين، وكان الخطاب الأوربي موجها فقط إلى بغداد دون التطرق إلى الاعتراض أو إبداء ملاحظات على المنطق الأمريكي الداعي إلى ضرب العراق.
لكن المراقب للموقف الأوربي يلحظ تصاعد حدة اللهجة والسلوك الأوربي - خاصة الفرنسي - تجاه الولايات المتحدة؛ إذ لم تكتف فرنسا برفض مشروع القرار الأمريكي-البريطاني، وإنما أصرت على أن يكون تفويض مجلس الأمن على مرحلتين. وأعدت فرنسا بالفعل مشروع قرار من جانبها، متهمة الولايات المتحدة بأنها لم تدخل أية تعديلات على مشروعها. وجاءت هذه الخطوة الفرنسية بعد زيارة وزير الخارجية البريطاني جاك سترو لباريس، والتي أعلن بعدها أن توافقاً بريطانياً فرنسياً قد تم.
واتضح بعد ذلك أن بريطانيا وأمريكا هما اللتان اقتربتا من موقف باريس وليس العكس.. فقد وافقت لندن وواشنطن على أن يكون استخدام القوة مع العراق على مرحلتين كما طالبت باريس، مقابل موافقة الأخيرة على تشديد متطلبات القرار الأول الذي يحدد آلية عمل وصلاحيات المفتشين الدوليين.
ويرجع هذا التطور في موقف فرنسا إلى اعتبارين:
1- النقلة المفاجئة التي أحدثها قرار العراق قبول عودة غير مشروطة للمفتشين الدوليين، إذ لم يكن لدى أي دولة أوربية أو غيرها - بما في ذلك الدول العربية - استعداد للتدخل لدى واشنطن لحثها على التراجع عن ضرب بغداد في ظل إصرار عراقي على عدم استئناف أعمال التفتيش؛ وهو الموقف الذي كانت تستند إليه واشنطن في تبرير نيتها ضرب العراق.
لكن الخطوة العراقية قلبت الموازين ورفعت عن واشنطن الغطاء الذي تتذرع به للقيام بعمل عسكري ضد بغداد، وهو ما شجع مختلف الدول المعنية بالشأن العراقي على التحرك والبناء على الخطوة العراقية.
2- الموقف الأمريكي-البريطاني ذاته. فمن ناحية، يتسم هذا الموقف بتشدد وتعنت غير مبررين، ولا تملك أي من واشنطن أو لندن حججاً قوية لتبرير موقفهما هذا.
ووفقاً للعقلية القانونية الفرنسية، فإن المسألة برمتها تصبح غير مقبولة ولا مُستساغة أخلاقياً. لكن الحسابات الواقعية والمصلحة تسبق العامل الأخلاقي، وهي الأخرى لا تشير إلى مصلحة فرنسية حقيقية في ضرب العراق أو مسايرة واشنطن ولندن في مسعاهما.
ويمكن تفهم هذا الدافع على ضوء ما تسرب من أنباء حول مساومات وصفقات محتملة تسعى واشنطن لإبرامها مع باريس وعواصم أخرى مثل موسكو ثمناً لسكوتها عن التحرك الأمريكي-البريطاني.
لكن مقابل هذا الحماس الفرنسي، لا ينبغي تجاهل أن باريس لم تذهب إلى مدى بعيد في المواجهة مع أمريكا. فمثلاً رغم الموقف الفرنسي الرافض بقوة وصراحة وعلانية لضرب العراق، فإن باريس لم تهدد ولو مرة باستخدام الفيتو ضد القرار الأمريكي، مصرة على تبني خطاب رفض القرار، دون التصعيد إلى حد التفرد بموقف المانع للرغبة الأمريكية بإعلان الفيتو مسبقاً؛ وهو ما يمكن اعتباره موازنة فرنسية للعلاقة مع واشنطن، ورغبة منها في عدم استفزاز الأمريكيين أو تصعيد الموقف في نطاق مجلس الأمن.
كذلك فإن باريس لا تضمن بالضرورة مسار الأزمة في مراحلها التالية، وبالتالي فهي ليست على استعداد لاستعداء واشنطن إلى النهاية، حتى لا تقطع الخطوط معها، لا سيما أن باريس ستكون في الوضع الأضعف فيما لو نجحت واشنطن في تنفيذ ما انتوته، وعندها سيكون على فرنسا التعامل مع الأمر الواقع والنظر ببراجماتية إلى مرحلة ما بعد ضرب العراق، وهو ما يتطلب بالضرورة الحفاظ على حد أدنى من التنسيق، أو على الأقل عدم تجذير الخلاف مع الولايات المتحدة وبريطانيا.
وربما يمكن الحكم على الموقف الفرنسي دون مبالغة بمقارنته بالموقف الألماني. فرغم أن ألمانيا لم تدخل في مواجهة علنية مع واشنطن أو تتزعم "جبهة الرفض" في الأمم المتحدة كما فعلت فرنسا، فإن برلين أعلنت موقفها بوضوح وصراحة من البداية، حيث أكدت رفضها ضرب العراق؛ وأعلنت كذلك أنها لن تشارك في العمليات العسكرية المزمعة، وهو ما لم تفعله باريس حتى الآن، وهذه عادة فرنسية، فدائماً تتحفظ أو تنتقد أو ترفض لكنها في النهاية تشارك، ولا يفوتها موعد اقتسام الغنائم!
بريطانيا.. شذوذ مفهوم!
على خلاف الموقف الأوربي عامة والفرنسي خاصة، تأتي دائماً مواقف بريطانيا مؤيدة لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مطلق، حتى يحق للمراقب أن يتساءل عما إذا كانت بريطانيا دولة أوربية فعلاً أم ولاية أمريكية؟
وهو تساؤل مشروع في ظل النفور البريطاني الدائم من كل ما هو أوربي، فلولا خشية بريطانيا العزلة لما انضمت إلى مؤسسات وأجهزة الاتحاد الأوربي، بل إنها بالفعل تمتنع عن الانخراط في بعض تلك الأجهزة والمؤسسات، ورفضها الانضمام حتى الآن إلى منطقة اليورو أبرز مثال على ذلك.
وترجع هذه النزعة البريطانية غير الأوربية إلى أسباب عديدة، ليس أقلها أهمية افتقاد بريطانيا لوضع الدولة الإمبراطورية الذي كانت تتمتع به حتى الحرب العالمية الثانية، وتطلعها دائماً إلى القوة العظمى القائمة في العالم، اجتراراً لحالة الإمبراطورية التي خُلعت عنها، وتعويضاً في الدور الأمريكي عن دورها المفقود.
كذلك على المستوى الجيوإستراتيجي، تعاني بريطانيا غياب الفضاء الحيوي الخارجي. ففرنسا تتمتع بنفوذ وحضور قوي في أفريقيا، فضلاً عن حضورها الإقليمي في القارة الأوربية ذاتها، وهو ما يبدو جلياً أكثر بالنسبة لألمانيا التي تمثل قلب القارة الأوربية وتلعب دوراً إقليمياً رئيسياً في التفاعلات الأوربية الداخلية، خاصة تلك المتعلقة بالعلاقة بين شرق أوربا وغربها، بينما تجد إيطاليا ذاتها طرفاً ذا مسؤولية في الوضع الإقليمي الفرعي لجنوب أوربا بامتداداته إلى مياه المتوسط وسواحله الجنوبية.
وفي المقابل ليس لدى بريطانيا إطار إقليمي يتيح لها الحضور والظهور؛ لذا فهي تجد فرصة ممارسة النفوذ في منطقة "الشرق الأوسط"، فالمحيط الأطلنطي مجال حيوي لأمريكا، والبحر المتوسط منطقة أوربا الفرنسية والألمانية والإيطالية، وما من حضور بريطاني في آسيا أو أفريقيا باستثناء بقايا التاريخ الاستعماري في شبه الجزيرة الهندية.
وبالتالي تعد منطقة "الشرق الأوسط" الساحة الإقليمية المتاحة نسبياً أمام لندن لممارسة دور خارجي والحفاظ على بعض حضورها العالمي القديم.
وإذ تشير المعطيات الإقليمية والعالمية إلى وجود الولايات المتحدة كمنفذ وحيد يسمح أو يمنع حضور أي طرف دولي آخر في شؤون المنطقة، فإن الدخول إلى المنطقة من خلال واشنطن يصبح ضرورياً من وجهة النظر البريطانية.
كما أن بريطانيا معزولة فعلاً عن بقية أوربا جغرافياً، لذا فليس لديها الهواجس الأمنية التي تعاني منها أوربا، كما لا تشارك بقية الأوربيين همومهم وقضاياهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
ويستدعي هذا بالضرورة العوامل الثقافية والنفسية. فلدى البريطانيين شعور راسخ بالتعالي والتميز عن بقية الأوربيين، وتعتبر بريطانيا أنها أقرب إلى الأمريكيين ذوي الأصول الأنجلوسكسونية المشتركة بينهما. ورغم أن الأمريكيين عرقياً خليط من أصول وأجناس وأعراق عدة، فإن النموذج الأمريكي يظل هو الأقرب للإنجليز من وجهة نظرهم.
ومحصلة هذه العوامل مجتمعة أن بريطانيا تلعب بامتياز دور البطولة الثانية عالمياً بعد الولايات المتحدة، وتتمسك بهذا الدور بشدة اقتناعاً منها بجدواه وملاءمته، بدلاً من الدخول في معركة غير مضمونة على الدور الأول في ساحة أوربية شائكة يشغلها منافسون أقوياء تترفع لندن عن منازلتهم.
المواقف على قدر المصالح
يلاحظ أن درجة التماسك والقوة في مواجهة التحركات الأمريكية تتناسب طردياً مع مستوى التوقعات من المستقبل بالنسبة لكل طرف. ويمكن في ضوء ذلك تفهم لماذا اتخذت فرنسا هذا الموقف المتشدد تجاه الخطوة الأمريكية، ولماذا لم تذهب في هذا التشدد إلى أبعد من ذلك الحد، بينما انتحت ألمانيا جانباً واتخذت موقفاً أقل براجماتية لكنه أكثر عملية وحزماً، برفض الضربة ورفض المشاركة فيها، لكن دون الدخول في مواجهات أو صراعات إعلامية أو دبلوماسية.
فالمسألة ببساطة أنه على قدر المصالح تأتي التحركات. فليس لألمانيا طموحات إقليمية في "الشرق الأوسط"، وليس من المنتظر أن تُمنح دوراً أكبر مما تملكه حالياً، كما لا تتوقع أية عائدات اقتصادية مغرية بالنسبة لها سواء تعرض العراق لضربة عسكرية أم لا؛ وبالتالي فهي في حل من أي التزام سواء تجاه العراق ودول المنطقة أو تجاه واشنطن. لذا كان المحرك في موقفها هو تقييمها الإجمالي للمشهد الراهن، وما يستتبعه من احتمالات متوقعة لضرب العراق، تصب في النهاية على مجموع التوازنات الدولية التي تتأثر برلين بها بالضرورة.
أما بالنسبة لفرنسا فالوضع جد مختلف، فلها مصالحها الاقتصادية في عراق صدام، وتتطلع أو تتعرض لإغراءات بمصالح أخرى في عراق ما بعد صدام، بعضها نفطي وبعضها تجاري، فضلاً عن كون التطورات والتوازنات "الشرق أوسطية" جزءاً من المنظومة الإستراتيجية الخارجية الفرنسية كقوة كبرى لها حساباتها تجاه القوى الكبرى الأخرى في أكثر من منطقة إقليمية.
إذن فالموقف الأوربي من الأزمة العراقية الراهنة يتسم ببراجماتية عالية بخلاف ما قد يبدو في الظاهر من راديكالية في موقف بريطانيا مع التحرك الأمريكي، وموقف فرنسا ضده.. فواقع الحال أن وتيرة الاندفاع الأمريكي نحو ضرب العراق وقلب الطاولة الإقليمية استثارت الشعور بالخطر لدى حلفاء واشنطن الأوربيين، ليس شعوراً بالخطر على منطقة "الشرق الأوسط" بحد ذاتها، لكن الخطر على مصالحها وحضورها الإقليمي في هذه المنطقة المهمة من العالم، وكذلك الخطر على حضورها العالمي في ظل وضع قلق لم يستقر بعد.
وعليه.. يمكن القول بأن أهداف أوربا من إدارتها للأزمة العراقية الحالية ليست الحفاظ على وحدة العراق، ولا حماية التماسك الإقليمي في المنطقة العربية، كما لم يكن يوماً الحد من التدخل الأمريكي في شؤون المنطقة هدفاً لأوربا.. فلو كان أي من تلك الأهداف قائماً لسعت أوربا لتحقيقه منذ سنوات ولو أرادت لنجحت وإن جزئياً.
وفي الحالة العراقية، نجد أن أوربا لا تتحدث عن مبدأ عدم المساس بوحدة العراق، ولا تهتم بما قد يترتب على الخطوة الأمريكية من فوضى أو تداعيات إقليمية.. لكنها قبلت الحلول التوفيقية ودخلت في مساومات حول الطريقة التي يمكن لواشنطن أن تنفذ بها تهديداتها؛ وأن يكون ذلك تدريجياً وتحت غطاء دولي وقانوني مقبول، والأهم أن يكون الثمن أوربياً مقبولا.
روسيا تساند العراق.. ليس حبا فيه! |
يقول الأنثروبولوجي الروسي الأشهر جوميلييف: "إن أبرز ما تتسم به الشعوب العربية هو البرجماتية الشديدة". ويبدو أن
|
هل مطلوب من الروس أن يكونوا عرب أكثر من العرب |
ما كتبه جوميلييف في الحقبة السوفيتية صار ينطبق حرفيًّا على روسيا المعاصرة. فقد صارت لوحة العلاقات الروسية فسيفسائية تجمع ألواناً متناقضة في علاقاتها بالشرق والغرب.
أما نحن فإلى متى نتناسى -وما أكثر ذلك- أنه لا روسيا، ولا فرنسا، ولا الصين تمانع في ضرب العراق حبًّا في الشعب العراقي، أو تعاطفاً مع حكومته المرفوضة عالميًّا؟ لماذا لا نتذكر أن محرك الدوران في علاقة روسيا بالعراق هو المصالح الاقتصادية والإستراتيجية؟
روسيا لن تخرج من المولد بلا حمص
يشير خبراء الاقتصاد الروس -ونقلت عنهم نيزافيسميا جازيتا بتاريخ 25 يناير 2002- إلى أن إجمالي التبادل التجاري بين روسيا والعراق يفوق 30 مليار دولار(نقلت BBC أن هذا الرقم يناهز 40 مليار دولار). وتتركز أغلب العقود التجارية بين البلدين في قطاع النفط والغاز، والصناعات البتروكيماوية، وشبكة البنية الأساسية.
وقد بلغ إجمالي التبادل التجاري في السنوات الخمس الأخيرة 4 مليارات دولار، 1.4 مليار دولار منها في 6 أشهر فقط.
ألا تكفي هذا الأرقام أن تحرك الساكن، وتدفع الواقف إلى الهرولة طلباً لحماية العراق؟ وبديهي أن وقوف روسيا في مواجهة بعض القرارات الأمريكية والبريطانية يكسبها أولوية في حسابات بغداد الاقتصادية، حتى لو أطيح بصدام. فسُيذكر أن روسيا عارضت ضرب العراق. وسيأتي الرد سريعاً لمكافئة من وقفوا داعمين. ففي يوليو 2001 أعلن وزير التجارة العراقي محمد مهدي صالح أن بلاده ستمنح الدول التي وقفت ضد مشروع العقوبات الذكية على العراق أولوية تجارية، وأن فرنسا ستُحرم من تلك الأولوية لتأييدها المشروع.
ونقلت وكالة الأنباء العراقية عن صالح قوله: إن روسيا في مقدمة الدول التي ستحظى بالأولوية في التعاملات التجارية مع العراق في المرحلة المقبلة، تقديراً لموقفها المساند للعراق. وقد أعطى هذا روسيا أفضلية في استقبال الصادرات النفطية التي يبيعها العراق ضمن برنامج "النفط مقابل الغذاء والدواء".
وعلى الجانب الآخر، يشيح العراق بوجهه عن الدول التي تساند الولايات المتحدة، ومنها أستراليا على سبيل المثال. فقد أعلن العراق عن تخفيض مشترياته من القمح الأسترالي إلى النصف، عقاباً على تأييد أستراليا توجيه "ضربة وقائية" ضد العراق.
وأغلب الظن أن روسيا - إذا ما أفلت العراق ورفع الحظر عنه - مرشحة لأن تقدم مشروع مارشال إلى هذا البلد المدمر لإعادة بنائه، وليس من المستبعد أن يكون العراق الجديد "بعلاقاته غير الأمريكية!!" سوقاً جديدة لبيع الأسلحة الروسية.
ولكن ما الذي ستخسره روسيا إذا ما ضرب العراق وأسقط صدام؟ بالصورة التي تم بها السيناريو الأفغاني والمتوقع معه "أفغنة العراق"، فإن العراق الجديد هو عراق أمريكي بالدرجة الأولى، ومن ثم فإن مشروع مارشال الآتي ليس روسياً بالطبع. والعراق ليس فقيراً كأفغانستان، بل لديه ثروة تُسيل لعاب الكثيرين.
وكما تم إعمار الكويت بعد الغزو العراقي بأموال كويتية وبشركات أمريكية، وكما تم إعادة تسليح الكويت بسلاح أمريكي وبأموال كويتية، فستكون النتيجة مزيدا من الاستثمارات الاقتصادية لصالح الولايات المتحدة. أما روسيا فستخرج من اللعبة تقلب كفًّا على كف. وإذا كانت ديون العراق للاتحاد السوفيتي -والتي تطالب بها روسيا- لم تدفع حتى الآن، فإن مزيدا من الديون على العراق الأمريكي (المتوقع تعطيل دفعها) لن تحصل عليها روسيا من عقودها المبرمة حاليًّا.
وستتحول التلميحات التي "تعاكس" بها الصحف الأمريكية الحكومة الروسية إلى مانشتات رئيسية لإزاحة روسيا عن تسليح العراق الجديد. فقد ناقش أحد المحللين السياسيين في صحيفة "جازيتا رو" خطورة ما تتناقله وسائل الإعلام الأمريكية من أن العراق نجح في "إخفاء" أسلحته الكيميائية والبيولوجية بتكنولوجيا روسية تعي جيداً وسائل التفتيش الأمريكية؛ بل أثيرت مناقشات مفادها أن العراق ربما استطاع في فترة الحظر أن يمتلك قنابل نووية بمساعدة دول "صديقة". ولعل هذا حلقة في سلسلة الضغط على روسيا في مساعداتها -المدفوعة الأجر- للعراق وإيران.
وعلى الجانب الآخر، فإن هناك مكسبا "مرحليًّا" وحيدا يمكن أن تكسبه روسيا بضرب العراق؛ وهو ارتفاع أسعار النفط، وزيادة طلب أوربا على النفط الروسي. هذا إذا ما تحقق السيناريو القائل بأن صدام سيضطر إلى هدم المعبد على رؤوس الجميع.. فيهرع مع الغزو الأمريكي إلى ضرب آبار النفط السعودية والكويتية، إضافة إلى تعطيل إنتاج النفط العراقي لفترة ليست قصيرة بعد الحرب (وغير المستبعد أن تصل نيران المعركة إلى نفط إيران)؛ مما يؤثر بشكل محوري على إنتاج وتصدير النفط العالمي.
العراق الأمريكي والتقهقر الروسي
مسلسل متتابع من التقهقر الروسي منذ خروج السوفييت من مصر في بداية عهد السادات ووقوف سوريا -الحليف على الدوام- مكبلة بالجولان المحتل، ثم انهيار البناء السوفيتي، ثم عجز روسيا عن إيجاد حل لحرب الخليج الثانية؛ ولم تستطع –وهي تلملم نفسها من الزلزال السوفيتي- أن تضمن لحليفها في بغداد موقفاً مشرفاً، ثم فقدان العرب الأمل المعقود على روسيا في تحقيق توازن يجابه التحيز الغربي لإسرائيل في حرب إبادة الفلسطينيين، ثم توسع حلف الناتو بل (والمذهل) انضمام روسيا إليه لاحقاً، ثم أحداث سبتمبر وما أفضت إليه من الوجود الأمريكي على أبواب روسيا.
ومع الصورة السابقة، كان الوجود الأمريكي يتزايد يوماً بعد يوم في أهم المواقع الجغرافية في العالم. وإذا ما راجعْت معي خريطة المنطقة فستجد: القوات الأمريكية في الخليج العربي وبعض من دوله، وفي أفغانستان، وفي باكستان، وفي آسيا الوسطى، وفي تركيا، وفي القوقاز، ماذا تبقى إذن؟ العراق وإيران. العراق "الأمريكي" – بهذا السيناريو – قاعدة جديدة تزيد من السيطرة الأمريكية على وسط آسيا؛ وتطوق وتحاصر النفوذ الجغرافي السياسي لروسيا. وهكذا فإن تغيير جلد العراق يعني مزيدا من التقهقر الروسي لصالح الولايات المتحدة.
وإذا ما تساءلت عن الأسباب التي تقف وراء سعي الولايات المتحدة لكسب خطوة العراق وتوسيع المجال الجغرافي في كل هذه الجهات، فستجد 4 تفسيرات على الأقل شديدة الارتباط ببعضها:
1) ملء الفراغ الذي خلفه تفكك الاتحاد السوفيتي، وتفويت الفرصة على روسيا والصين وتركيا وإيران من ممارسة نفوذ يحد من الحلم "بالهيمنة الأمريكية" على العالم.
2) إحكام القبضة على "السلسلة الذهبية" لإنتاج النفط، وحلقات هذه السلسلة: الخليج العربي-العراق- بحر قزوين- آسيا الوسطى (متى سيأتي الدور على إيران؟!). وهكذا فإن حرب الخليج الثانية حققت السيطرة على أهم منابع النفط، وسيحقق القضاء على من تسبب فيها –بعد أن ترك حرًّا 12 سنة- السيطرة على بترول العراق، وهى الخطوة التي يؤكد بها الغرب اقترابه المحكم من الخليج العربي الجديد: بحر قزوين.
3) يوماً بعد يوم، يتزايد الاهتمام بمشروع الجسر البري الأوراسي لربط اقتصاد آسيا بأوربا وضمان تدفق السلع عبره، والذي يعرفه البعض بطريق الحرير الجديد. ومن يسيطر على أفغانستان، والخليج العربي، والعراق، ودول آسيا الوسطى (وهي أهم محطات هذا الجسر الاقتصادي) يسهل عليه كبح جماح القوى الصاعدة الهادفة إلى الاستفادة من هذا الجسر: الصين، روسيا، إيران، وتركيا.
4) ومن زاوية أخرى، هناك توجه غربي لتنمية دول وسط آسيا ودعمها لمواجهة محاولات القفز على السلطة من قبل الجماعات والأحزاب الدينية الأصولية، وما يمكن أن يسببه ذلك من قلاقل وعداوة مع الغرب. والعراق محطة لا غنى عنها لتحقيق ذلك (ناهيك عن إيران!).
رؤية ضبابية
وعلى مستوى العلاقات الدبلوماسية، كان "عباس خلف" سفير العراق في موسكو قد تساءل في حوار أجرته معه بعض الصحف الروسية في 24 يوليو 2002، : ماذا ستحققه عودة المفتشين الدوليين إلى العراق؟ فالعراق -والحديث لسفير العراق- ومنذ 1991 حتى ديسمبر 1998 استقبل فرق التفتيش الدولية، ولم يسمع من المجتمع الدولي كلمة إيجابية واحدة عن تعاون العراق. بل كانت المكافأة أن قامت الولايات المتحدة بضرب العراق، بينما هؤلاء المراقبون على أرض العراق. ويتشكك العراق من هدف هؤلاء المفتشين الذين قد تكون مهمتهم جمع معلومات تخدم العدوان الأمريكي الجديد.
غير أن أبرز ما يجده القارئ مشوقاً في أفكار سفير العراق في روسيا، هو أن العراق لا يخشى التقارب الأمريكي - الروسي، بل العكس هو يرى أن هذا التقارب يعطي فرصة ممتازة لكي تجد واشنطن وموسكو لغة مشتركة تمكنهما من حل مشكلة العراق. وهو يرى أن موقف روسيا الداعم للعراق كان صعباً للغاية قبل هذا التقارب.
على أية حال، يبدو أن أمام روسيا خيارين: إما أن تمضي، رغم ما تتعرض له من ضغوط غربية حتى النهاية، تعارض ضرب العراق، والنتيجة معروفة اهتزاز صورة بوتين في أعين الغرب. وسيحتاج بوتين إلى جهود مضنية ليعيد إقناع الغرب بروسيا الليبرالية الشريكة في صنع النظام العالمي الجديد؛ والطامحة إلى تحقيق إنعاش اقتصادي وشراكة مع أوربا.
وإما أن تبذل روسيا محاولات مكوكية لتبني الخيار الدبلوماسي الذي يضع شروطاً مسبقة على النظام العراقي أن ينفذها، وعلى رأسها الالتزام بقرارات مجلس الأمن الخاصة بقدرات العراق الحربية. ويبدو أن جهود روسيا قد آتت ثمارها في إقناع العراق بدعوة مفتشي الأمم المتحدة إلى العراق، وهو ما أعلن عنه في 2/8/2002( بعد انقطاع قارب أربع سنوات). وتفاخرت موسكو بثمرة جهودها، حينما أعلنت وزارة الخارجية الروسية أن بغداد خطت هذه الخطوة بعد زيارة قام بها إلى العراق ألكسندر سلطانوف نائب وزير الخارجية الروسي إيغور إيفانوف، في 27/7/2002. ورغم ترحيب روسيا بالخطوة، فإن بريطانيا اعتبرتها مناورة صدامية جديدة. كما رفضت الأمم المتحدة أن يقدم العراق شروطاً لعودة المفتشين، علماً بأن العراق قد أعلن أنه لم يضع شروطاً ذات قيمة لعودة المفتشين. أما واشنطن فقالت إنه لا علاقة بين عودة المفتشين وحتمية تغيير النظام العراقي!!
وفى الختام، فإن روسيا ستبذل ما في وسعها -بالطرق السلمية والزيارات الدبلوماسية- لمنع ضرب العراق لتحقيق منافع متبادلة لصالحها وللعراق. أما إذا أخفقت، فإنها على يقين بأن ذلك لن يغضب أصدقاءها، ولن يعتبر تخلياً عن حليفها. فكثير من الدول العربية في المشرق العربي ستقف إلى جانب الولايات المتحدة، أو على الأقل "ستظهر" أنها تعارض ضرب العراق. وبعد أن سربت وكالات الأنباء مخططات البنتاجون القائلة بأن أراضي السعودية والكويت والأردن -الجيران الجُنب للعراق – ستكون بوابات الغزو الأمريكي على العراق.. فهل بعد هذا مطلوب من الروس أن يكونوا عرباً أكثر من العرب؟
ساحة النقاش