وهي تعنى عند الصوفية ما يفيض الله تعالى به على قلب العارف من العلوم والأسرار واللطائف، وهي في جملتها ثمرة لطول التعامل مع الله سبحانه وتعالى، وموضوعها هو الله تعالى، ومصدرها كذلك هو الله تعالى.
وهذا النوع من المعرفة موهبة من الله تعالى، نتيجة التزهد والتعبد وتصفية النفس، وأنه أيضًا لا يدرك إلا بالذوق والوجدان .
وأهم مميزات هذه المعرفة أنها معرفة مباشرة، فهي تتم دون أن تعتمد على وسائط عادية من وسائل التعليم والمعرفة، وأنها متجددة ومتطورة، ومن ثم فهي متغيرة([1])، ولما سئل ذو النون عن العارف قال: كان هاهنا ثم ذهب، مشيرًا بذلك إلى تدرج العارف وتنقله من حال إلى حال، وهذه المعرفة تنتهي بصاحبها حتمًا إلى الحيرة والعجز التام عن معرفة الكنه والحقيقة، ولذلك كان أكثرهم معرفة بربه أشدهم تحيرًا فيه، ويكفيهم في هذا المقام اعترافهم بالعجز عن الإدراك والمعرفة([2]).
وأضاف د/ محمد الشرقاوي إلى هذه المعرفة صفة اليقينية، فهي كما يقول: " تتسم بالوثاقة والوضوح، وتخلو من الشك والاحتمال "([3]).
موضوع المعرفة الإلهامية الكشفية:
أورد الكلاباذي والطوسي والقشيري وغيرهم الكثير من أقوال الصوفية في المعرفة والعارف، وقد لوحظ أن الصوفية يكاد يجمعون على أن المعرفة باعتبار موضوعها نوعان: معرفة حق، ومعرفة حقيقة.
أما النوع الأول: فيراد بها معرفة الواحد الحق بإثبات وحدانيته على ما أخبر من صفاته تعالى، فيثبتون ذاته بصفاتها كما أخبر بها الله عن نفسه على معنى التفرد وعدم المماثلة حيث " لم يكن له كفوًا أحد، لا في ذاته ولا في صفاته ".
أما النوع الثاني: ويتعلق بمعرفة حقيقته تعالى، فيؤمن العارف أن لا سبيل له إليها "لامتناع الصمدية عن الإحاطة " لأن الصمد هو الذي لا تدرك العقول حقائق نعوته وصفاته، كما قال تعالى: " وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً "، وقد شرح الإمام الجنيد هذا النوع من المعرفة فقال: هي تردد السر بين تعظيم الحق عن الإحاطة، وإجلاله عن الدرك، وذلك بأن تعلم أن ما تصور في قلبك عن الحق فالحق بخلافه، فيا لها من حيرة، حيث يكون العارف " لا له حظ من أحد، ولا لأحد منه حظ، وإنما وجود يتردد في العدم، لا تتهيأ العبارة له؛ لأن المخلوق مسبوق، والمسبوق غير محيط بالسابق([4]).
والمعلوم أن النوع الأول من المعرفة " معرفة حق " هي حظ مشترك بين جميع الصوفية وغيرهم ممن لم يشاركهم على الطريق الصوفي، في حين أن النوع الثاني فهو خاص بالصفوة منهم، أو إن شئت فقل إنه يتعلق بصفوة الصفوة .
وتجدر الإشارة هنا إلى ذلك الاختلاف بين تفسير الصوفية هنا لمعنى " الصمد "، وبين التفاسير القرآنية لهذه الكلمة؛ كتفسير ابن كثير وغيره، والتي تعني من يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ومسائلهم على الدوام .
كما يتسع ميدان هذه المعرفة اللدنية أو الصوفية عند أحد الباحثين بحيث يشمل المطلق والغيب والشهادة والإنسان على نحو ينكشف فيه للسالك كل شيء يحتويه العالم المرئي أو ما وراءه انكشافًا تظهر فيه حكمة الله تعالى وأفعاله في مخلوقاته، فإذا كان معلومًا أن هذه المعرفة تتجه أساسًا إلى الله تعالى؛ فإنه لا ينبغي أن يغيب عن بالنا أنه عن طريق معرفته سبحانه وتعالى يتحقق للصوفي معرفة ما دونه ([5]).
ويوضح هذا القول ما ورد عن الشبلي عندما سُئل عن المعرفة: أولها الله تعالى، وآخرها ما لا نهاية له، وقول الكتاني عن صفاء الصفاء أنه: " إبانة الأسرار عن المحدثات لمشاهدة الحق بالحق على الاتصال بلا علة "([6]).
وكذلك يرى الغزالي أن موضوع المعرفة الصوفية هو ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وهو أسمى موضوع لأسمى معرفة، فيقول: " وأشرف أنواع العلم هو العلم بالله وصفاته وأفعاله، فيه كمال الإنسان، وفي كماله سعادته، وصلاحه لجوار الجلال والكمال ... على أن الحضرة الربوبية محيطة بكل الموجودات، إذ ليس في الوجود شيء سوى الله تعالى وأفعاله، فما يتجلى من ذلك للقلب هو الجنة بعينها عند قوم، وهو سبب استحقاق الجنة عند أهل الحق "([7]).
وهذا المعنى يؤكده ابن عربي حين يقرر أنه ليس في قدرة كل ما سوى الله أن يدرك شيئًا بنفسه، وإنما أدركه بما جعل الله فيه ... فإذا تجلى الحق، إما منه أو إجابة لسؤال فيه لظاهر النفس، ومع الإدراك بالحس في صورة من برزخ التمثل فوقعت الزيادة عند المتجلي له في علوم الأحكام إن كان من علماء الشريعة، وفي علوم موازين المعاني إن كان منطقيًا، وفي علوم ميزان الكلام إن كان نحويًّا ، وكذلك صاحب كل من علوم الأكوان وغير الأكوان تقع له الزيادة في نفسه من علمه الذي هو بصدده، فأهل هذه الطريقة يعلمون أن هذه الزيادة إنما كانت من ذلك التجلي الإلهي لهؤلاء الأصناف فإنهم لا يقدرون على إنكار ما كشف لهم([8]).
والمعنى نفسه ورد عند ابن الفارض، فمن يشاهد الصفات عن طريق الذات عارف بالحقيقة، واصل إليها، على عكس من يعرف الذات أو يشاهدها عن طريق صفاتها فإنه لن يعرفها أو يصل إليها حقيقة، وكذلك من يعرف الأسماء عن طريق الذات أشبه ما يكون بيقظ يرى مشهودًا حقيقيًا لا خياليًا، على عكس الذي يعرف الذات عن طريق الأسماء فإنه أشبه ما يكون بنائم يرى خيالاً لا حظ له من الحقيقة ([9]).
(1) د/ كمال جعفر: التصوف، ص 200.
(2) د/ محمد الجليند: من قضايا التصوف، ص 133.
(3) د/ محمد الشرقاوي: الصوفية والعقل، ص 218 وما بعدها.
(4) الكلاباذي: التعرف لمذهب أهل التصوف، ص 158.
(5) د/ السيد الحجر: التصوف الإسلامي، ص 186.
(7) د/ التفتازاني: مدخل إلى التصوف الإسلامي، ص 211 وما بعدها.
(8) ابن عربي: الفتوحات المكية، 1: 215-216.
(9) د/ محمد مصطفي حلمي: ابن الفارض والحب الإلهي، ص 268 وما بعدها.
ساحة النقاش