تعد السينما الإيرانية، واحدة من أبرز سينمات دول العالم الثالث، وأكثرها تميزا خصوصا في السنوات الأخيرة، فهي سينما تحمل في مجمل تجربتها لغة هادئة شفافة وتقنيات عالية، إذ يتسم الإنتاج السينمائي الإيراني في حقبة ما بعد الحرب العراقية الإيرانية بعمق تناوله لقضايا الواقع الاجتماعي وعكسه لتطلعات الأجيال الجديدة التوَّاقة لمزيد من الانفتاح على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، حتى إنه تحول في الآونة الأخيرة إلى ساحة مفتوحة للمناظرة بين دعاة المراجعة والتجديد والمتشددين الممتعضين من طغيان موجة الإصلاح.
قدمت السينما الإيرانية عددًا من الأفلام المتميزة التي استقطبت اهتمام مختلف الشرائح الاجتماعية وقوى الطيف السياسي، وأثارت ردود أفعال متباينة لكونها تجاوزت الخطوط الحمراء لتكسر حاجز الصمت عن العديد من القضايا السياسية والاجتماعية، وتثير أسئلة قلقة عن مسارات المستقبل ومصير التجربة الإسلامية في إيران.
أفرزت هذه السينما مجموعة كبيرة من أسماء الأفلام والمخرجين التي أصبحت الآن مدار حديث السينمائيين في كل مكان، ولما لا وأفلامهم أين ما تحل تنال أفضل الجوائز، ومن أبرزهم: أحمد رضا درويش، وجعفر بناهي، وأبو الفضل جليلي، ودرخشان بني اعتماد، وفريال بهزاد، ومنيرة حكمت، ومرضية مشكيني، وتهمينه ميلاني، وقد نالت أفلام هؤلاء جوائز مرموقة في العديد من المهرجانات العالمية، كما شارك بعضها في هيئات التحكيم في تلك المهرجانات.
وكان منهم المخرجة الشابة (سميرا مخملباف) التي استطاعت بأفلامها الثلاثة، وسنيها الثلاثة والعشرين، ووشاحها الأسود الطويل من هز الوسط السينمائي العالمي هزا عنيفا أدى بالنتيجة إلى فوزها ولمرتين متتاليتين بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي، الأولى عن فيلمها الثاني (السبورة- 2000)- الذي قدمته بعد فيلمها الأول (التفاحة- 1998)، والثانية عن فيلمها الثالث والأخير (الخامسة عصر -2003).
وسميرا هي ابنة (محسن مخملباف) أحد أهم المخرجين الإيرانيين، ويشكل مع (عباس كياروستامي) و(مجيد مجيدي) تأريخ السينما الإيرانية، الذي عكس اهتمامه وخبرته على أفراد عائلته، وكانت سميرا تزور استوديوهات السينما في عمر مبكر، وعلمها أبوها وزملاؤه فن الإخراج السينمائي سوية مع طلبة آخرين، وأدى ذلك إلى أن تتحول الدورات التدريبية إلى صفوف لتعليم السينما والفنون الأخرى، وأود الإشارة إلى أن أم سميرا مخرجة تسجيلية معروفة أيضا وكذلك يقال أن أختها الأصغر عملت مؤخرا فيلما قصيرا عنوانه (يوم كانت عمتي مريضة)، وهي لم تتجاوز الثامنة من العمر.
تنتمي أفلام سميرا مخملباف-على تفاوت مستواها الفني والتقني واستفزازها السياسي والاجتماعي -إلى تلك السينما التي تحاول أن تفلت، أخيرا، من قيود مفروضة سلفا للسينما في إيران، لتلقي على المجتمع الإيراني نظرة عميقة وخطيرة، نظرة تكاد في تنوعها، أن ترسم لنا، خلفية ما يحدث في إيران اليوم على الصعيدين السياسي والاجتماعي.
فقصة فيلم (التفاحة) مثلا قصة حقيقية تدور حول فتاتين إيرانيتين قرر أبوهما حبسهما في البيت للمحافظة عليهما حتى يبلغا من العمر اثنتي عشرة سنة حين يضعا أولى خطواتهما في عالم الحياة الخارجي، وقد أدى أدوار الفيلم أفراد العائلة نفسها. أما في فيلمها الأخير(الخامسة عصرا) تحدثت عن طالبة وجدت في نفسها ما أن سقط نظام طالبان، الجرأة على أن تحلم بأن تصبح رئيسة للبلاد، في الوقت الذي ظل فيه والدها قادرا على قمعها على الرغم من سقوط نظام المتعصبين المتطرفين, وفي فيلم (السبورة) فان مخملباف تطل على عالما آخر، عالما شديد القتامة، غارقا في الصحراوية، بائسا حد اللعنة، يشكو ليس فقط الجوع والذل وعدم الثقافة، لا بل يشكو فقد الكرامة الإنسانية والتهجير، ويستجدي وطن.
يبدأ الفيلم بمشهد أخاذ لمجموعة من الرجال/ المعلمين الذين يتسلقون جبلا، وكل واحد منهم يرزح تحت ثقل لوح اسود، وفجأة يدوي صوت مروحية فيزيح المعلمون الألواح معا وخلفهم السماء الصافية. هؤلاء المعلمون يجوبون الطرقات الوعرة القاحلة في كردستان سيرا على الأقدام بحثا عن طلاب ليكسبوا لقمة عيشهم، عشرة أقمار سوداء تكاد تحلق فوق تلك الجبال التي تحمل قلوبا تضج بالحياة والإصرار على البقاء، برغم قسوة الطبيعة وقمع البشر، ورغم حملة التهجير والقتل الجماعي واللا إنسانية التي جابهتهم، إلا أنهم وفي أحيان كثيرة يرددون أغنيات كردية تكسر قلب الوحشة وتحاكي الموت المنتظر ولو بعد حين.
يرافق الفيلم رحلة المعلمين في عملية بحثهم هذه، ويصور كيف يلتقي المعلم (ريبور) بمجموعة من الفتيان الذين يهربون الزاد والمتاع من كردستان إيران إلى كردستان العراق، أطفال خرجوا إلى الحياة هكذا مهجرين لا يعرفون عن أهلهم أي شيء ولا يتذكرون أهلهم، وان تذكروهم فانهم في عداد الأموات، في حين يلتقي المعلم الآخر (سعيد) بمجموعة من الأكراد العراقيين الذين يبحثون عن مسقط رأسهم لقضاء آخر أيامهم هناك، ونتابع مع المعلمين مسيرتهم في تلك المنطقة المحفوفة بالمخاطر حيث الناس يعيشون تحت رحمة الدوريات العسكرية والألغام ولا أحد سواء من الأطفال أو المسنين لديه الرغبة أو الوقت في تعلم القراءة، وهنا تبدأ أحاديث المحنة، أحاديث القلوب المتكسرة والمنكوية بنار الغربة. فيسقط أحد المسنين ويحمله (سعيد) على السبورة كالنعش، لكنه يأبى مفارقة الحياة حتى يصل إلى قريته، وسط هذا الألم تنشأ علاقة غير محسومة بين المعلم (سعيد) و (هلالة) الأرملة، التي تحمل ابنها ووالدها المسن معها، الذي يقرر تزويجها من (سعيد)، فيعقد قرانهما، إلا أن اعترافات الحب التي يكتبها لها (سعيد) على السبورة لا تثير أي اهتمام لديها.
يرتفع الأذان بين هذه المجموعة التي تسير، والكل يرتقي قمم الجبال ليعلى فوقها تقربا من الرب لعل الأحزان تنتهي. أما على الجانب الآخر يحتمي الأطفال الذين يحملون بضاعتهم على أكتافهم بقطيع من الأغنام، للخلاص من ويلات السلاح الكيماوي.
في النهاية يقترب أهل القرية من سور المدينة الحلم، لتكتمل الصلاة فوق الأرض امتنانا بالوصول، والجميع يقبل الأرض ويرفع رأسه إلى الأعلى. وتتوج العلاقة بين (سعيد) و (هلالة) بمشهد عذب يعقد فيه الشيخ القران والصداق هو السبورة التي يحملها المعلم، فتضعها (هلالة) على ظهرها وتتجه إلى القرية لتأتي بعدها النهاية.
في هذا الفيلم تحسب للمخرج محسن مخملباف أولا تلك المعالجة الدرامية المتميزة لفكرة مباشرة ودقيقة، فمن الواضح إن خبرة مخملباف الأب السينمائية كانت كفيلة ببناء تتابع درامي يجذب إليه المشاهد، إذ تميزت المعالجة الدرامية باعتماد الانتقالات المتزامنة في الأحداث بين قصة (ريبوار) و قصة (سعيد)، وإيجاد نقاط تحول في البناء كلما انحدرت الدراما إلى النمطية وأصابها البطء والرتابة، خصوصا وان الفيلم يعتمد مكان يكاد يكون واحدا، لذا فقد أوجد كاتب السيناريو بدائل درامية عديدة غير التوثيقية كالمواجهات بين المعلميْن وأهالي القرية.
وبعد هذا، فقد تم الاعتماد على اللقطات المتوسطة والعامة في إطار التركيز على البيئة الجبلية القاحلة، ومحاولة عمل بعض التشكيل في حركة الشخصيات كي تضفي على الفيلم طابعا توثيقيا من خلال اللقطات وحركة الكاميرا العشوائية والمهتزة في كل مشاهد الفيلم تقريبا.
كذلك فان المخرجة أفرطت في الرمزية كوسيلة لرصف الأفكار وتعميق الدلالات السيكولوجية والفنية، وإكساب الفيلم أبعاد درامية عميقة ومؤثرة، وأشير مثلا إلى تعدد استخدامات اللوح الأسود التي تعدت العشرين استخداما، فمرة يستخدم كسبورة لتعليم الأولاد، وأخرى كباب للمنزل، وثالثة كنعش يحمل عليه الرجل المسن، ورابعة كحاجز مادي يفصل بين (سعيد) و(هلاله)، وخامسة كحمالة ملابس وسادسة كواقي من الحرب... وغيرها من الاستخدامات الكثيرة الدلالات.
ساحة النقاش