Eternal Sunshine of the Spotless Mind
تستدعي محاولة الكتابة النقدية عن فيلم سينمائي إلى أولا مشاهدة الفيلم أكثر من مرة، الأمر الذي يثري ويعمق مثل هذه الكتابة في محاولة للوصول ثانيا إلى قراءة متأنية تؤشر الأبعاد الدرامية والفنية للفيلم وتبرز تمفصلاته ودوائره الدرامية، وكم الإحساس المنساب من بين مشاهده ولقطاته، وهو ما يشكل ردود فعل تستوجب على الكاتب الحصيف معاينتها وملاحقتها للخروج بقراءة أولية واعية.
فكثيرا ما يغفل أصحاب الكتابات النقدية لهذه الأمور البسيطة، فيسهبون في وصف قصة الفيلم، ويسطرون فيها ما يسطرون من عدم فهو وسذاجة في القراءة، متناسين بإصرار كشف الجهود الصورية المبذولة للخروج بفيلم ذي رسالة-على مستوى-مقروءة من قبل الداركين.
وفي خضم ما يشهده الفن السينمائي من تجارب اثرائية جديدة ومجتهدة، أجدني مشفقا على النقاد أولا لأنهم لا يملكون للأسف القدر الكافي من المخزون المعرفي السينمائي-بالأفلام وبالأشخاص وبالأساليب-، وثانيا بالمشاهدين لأنهم في الواقع بعيدين كل البعد عن الثقافة السينمائية، في ظل وجود الأسياد التقليديين من مخرجين ومنتجين وكتاب مهرة لا يفقهون في فن الصورة شيئا.
وبالعودة إلى فيلم (التألق الأبدي لعقل مشرق-Eternal sunshine of spotless mind 2004) الذي يدور حول جويل باريش (جيم كاري) الذي يصاب بصدمة وذهول وهو يرى انهيار قصة حبه أمام ناظريه بتخلي حبيبته كلامنتين كروسزينسكي (كيت وينسلت) عنه، اثر خلافات وفتور عاطفي تشهده علاقتهما، فتقرر كلامنتين الخضوع لعملية طبية عصبية يجريها الدكتور هوارد مايرزواك (توم ويلكنسون) تهدف لمحو أي ذكرى يحتفظ بها عقلها الباطن عن جويل، الأمر الذي يدفع جويل إلى خوض ذات التجربة في محاولة منه لمحو كل ما يتعلق بكلامنتين، لكن التجربة هذه تستوجب أن يتم محو ذاكرته بدءا بأخر ذكرى ثم التي تسبقها تبعا لخريطة رصف الذكريات زمنيا المرسومة مسبقا والمبنية على صور ومقتنيات وذكريات كلامنتين التي يحتفظ بها جويل، وكلما تم محو ذكرى من ذكريات الأخيرة المؤلمة معها حلت محلها ذكرى جميلة، وهكذا للوصول إلى أيامهم الأولى، حيث علاقتهما في أوجها، فيعمد حينئذ إلى محاولة الهروب بذكرياته الجميلة مع كلامنتين حتى لا تدمر.
يطرق الفيلم بقصته هذه منطقة مظلمة وبعيدة عن تصورات الإنسان الاعتيادي، مفترضا حلولا واقتراحات مستند بعضها لعلم الأعصاب وفسلجة الدماغ، وكذلك اجتهادات فنية يفترضها كاتب السيناريو (تشارلي كوفمان) لتقريب الصورة للمشاهدين، والفيلم يشترك مع بقية أفلام كوفمان السابقة من حيث الفكرة، إذ يخاطب العقل الباطن وعملياته اللاشعورية لدى الإنسان، وتداعيات تلك المخاطبة الافتراضية على عمليات العقل الشعورية، فبينما يناقش في فيلم (كن جون مالكوفيتش- 1999) للمخرج (سبايك جونز) النوازع الشهوانية لدى الإنسان بشقيها الجنسي والسلطوي، ويراجع في فيلم (اعترافات عقل خطير- 2002) للمخرج (جورج كلوني) الأفكار التي يحتويها عقل قاتل مأجور لدى السي أي إيه. فانه في (التألق الأبدي لعقل مشرق) يبدو أكثر عاطفية، حين يتناول البناء العاطفي في العقل الباطن من خلال الصور العشوائية التي تحتفظ بها ذاكرة الإنسان خلال حياته.
ويتعرض الفيلم بإيجاز لمراحل جويل العمرية، من دون ترتيب، كما رسمت في عقله-حيث تقع معظم أحداث الفيلم- وليس كما يفترضها الترتيب الزمني والمنطقي للأحداث، مؤثرا ذات الوقت التعامل اللا نحوي مع آلة التصوير من حيث اللقطات وزواياها وحركاتها، مما يدفع إلى الاعتقاد بان المخرج غير كفء وغير مسيطر على أدواته، بالرغم من انه يتعمد مثل هذه اللا منطقية، في محاولة للوصول إلى وصف لعملية تنظيم ورصف الأفكار العشوائية داخل خلايا الدماغ.
ونتيجة لان القصة تغوص في الافتراضات، فان المعالجة جاءت شديدة التكثيف والتركيز والإيجاز من دون الغور في بحور الذكريات بعيدا، ويتعكز المخرج (مايكل غندوري) بعمله هذه كثيرا على عمل (ألين كوراس) مدير التصوير، و(فالديس اوسكارسدوتير) المونتير، وكذلك الموسيقار (جون بريون) للإيحاء وإيصال الفكرة.
يبقى أن أشير إلى الأداء الرائع للنجمة (كيت وينسلت) التي عودتنا باختياراتها الناضجة واجتهادها في إدارة أدواتها التمثيلية، إلى جانب أداء النجم الكوميدي (جيم كاري) رغم تفاوت مستوى أفلامه، لكن كاري يحذو في هذا الفيلم حذوه في أداء شخصية ترومان في فيلم (استعراض ترومان-1998) للمخرج (بيتر وير)، والى جانبهما هناك الممثلة الشابة (كريستين دونست) والنجم (اليجا وود) والممثل الكبير (توم ويلكنسون).
علما إن هذه التحفة البصرية ليست التعاون الأول بين السينارست تشارلي كوفمان والمخرج مايكل غندوري، حيث سبق وان قدما فيلم (طبيعة إنسانية- 1998) لكنه لم يلق أي نجاح يذكر.
ساحة النقاش