الأعمال بسرعة الخاطرة - بيل جيتس (1)

مقـدمة

سوف تتغير الأعمال في السنين العشر المقبلة أكثر مما تغيرت في الخمسين سنة الماضية.

أثناء قيامي بإعداد خطابي لأول اجتماع قمة نعقده نحن مدراء الشركات التنفيذيين في ربيع عام 1997 كنت أفكر ملياً حول كيف أن العصر الرقمي سيغير الأعمال التجارية تغييراً جوهرياً. وقد أردت أن أتخطي حدود الخطاب العادي لأتحدث عن تطورات التقنية المذهلة وأتصدى لأسئلة ما فتئت تشغل بال القائمين على الأعمال مثل: كيف يمكن للتقنية أن تساعدك في تسيير أعمالك قُدماً بصورة أفضل؟ كيف ستبدل التقنية أعمالك تبديلاًًً؟ كيف يمكن أن تسهم التقنية في جعلك ناجحاً بعد خمس أو عشر سنوات من الآن؟

إذا كان عقد الثمانينيات عن النوعية والتسعينيات عن إعادة الهندسة فإن العقد الأول من الألفية الجديدة سيكون عن السرعة؛ السرعة التي ستتغير بها طبيعة الأعمال.. السرعة التي سنزاول بها الأعمال نفسها.. الكيفية التي ستغير بها سهولة الحصول على المعلومات أسلوب حياة العملاء وتوقعاتهم من العمل التجاري. سوف تتحقق التحسينات في النوعية وفي إجراءات الأعمال على نحو أسرع بكثير. إن طبيعة الأعمال ذاتها تتغير عندما تكون الزيادة في سرعة الأعمال كبيرة بالقدر الكافي؛ ذلك أن الصانع أو تاجر التجزئة الذي يستجيب للتغييرات في المبيعات في ساعات بدلاً من أسابيع لا يظل في الواقع شركة منتجات بل شركة خدمات تقوم بعرض منتجات.

سوف تحدث هذه التغييرات بسبب فكرة بسيطة بساطة آسرة: تدفق المعلومات الرقمية. إننا الآن في عصر المعلومات منذ حوالى ثلاثين سنة ولكن


نظراً لأن أغلب المعلومات المتحركة بين الأعمال التجارية ظلت في الشكل الورقي فقط فإن عملية عثور المشترين على بائعين بقيت بلا تغيير. صحيح أن معظم الشركات تستخدم أدوات رقمية للإشراف على عملياتها الأساسية: تسيير نظمها الانتاجية.. استخراج فواتير العملاء.. إدارة حساباتها.. إجراء أعمالها الضريبية، إلا أن هذه الاستخدامات لا تفعل شيئاً سوى إضفاء التسيير الآلي على عمليات قديمة.

هناك قلة قليلة من الشركات تستعمل الآن التقنية الرقمية في عمليات جديدة تحسِّن طريقة أدائها تحسيناً جذرياً.. تعطيها الاستفادة الكاملة من كل قدرات عامليها.. تعطيها سرعة الاستجابة التي ستحتاج إليها للمنافسة في عالم الأعمال الناشىء المتسارع. ولاتدرك أغلب الشركات أن أدوات تحقيق هذه التغييرات هى الآن في متناول كل فرد. إن أغلب مشاكل الأعمال في حقيقتها هي مشاكل معلوماتية ومع ذلك فلا أحد تقريباً يستعمل المعلومات كما ينبغي.

يبدو أن العديد من كبار المدراء يأخذون غياب المعلومات المواتية كأمر مسلم به. لقد عاش الناس زمناً طويلاً جداً بدون معلومات تحت تصرفهم بحيث أنهم لا يدركون ماذا ينقصهم، فلا غرو أن كان أحد الأهداف في خطابي لمدراء الشركات التنفيذيين هو استزادة تطلعاتهم. لقد أردت لهم أن يفزعوا من ضآلة ما جنوه في مجال المعلومات العملية من استثماراتهم الراهنة في تقنية المعلومات. أردت من اولئك المدراء أن يطالبوا بتدفق من المعلومات يعطيهم معرفة سريعة ومحسوسة عن كيف تسير الأمور حقاً لدى عملائهم.

حتى الشركات التي قامت باستثمارات ذات بال في تقنية المعلومات لا تجني الآن النتائج التي كان يمكن أن تجنيها. إن ما يثير الاهتمام هو أن الفجوة ليست نتيجة لشح في الإنفاق على التقنية؛ فمعظم الشركات قد استثمرت في اللبنات الأساسية: حواسيب شخصية لأجل التطبيقات الخاصة بالانتاجية، شبكات وبريد إلكتروني لأجل الاتصالات، تطبيقات عمل أساسية. لقد أنفقت الشركة النمطية من هذه الشركات 80% من استثمارها في التقنية التي يمكن أن تعطيها تدفقاً ثراًً من المعلومات غير أنها لا تحصل إلا على 20% من الفوائد الممكنة الآن. هذه الفجوة بين ما تنفقه الشركات وما تحصل عليه منشأوها توليفة من عدم فهم ما هو ممكن وعدم رؤية الإمكانية الكامنة عند استعمال التقنية لنقل المعلومات الملائمة بسرعة إلى كل فرد في الشركة.

 

تغيير التقنية والتوقعات

 

كان ما تفعله أغلب الشركات بالمعلومات هذه الأيام سيبدو رائعاً قبل عدة سنوات؛ فالحصول على معلومات غنية كان أمراً مكلفاً بصورة مثبطة ولم تكن أدوات تحليلها وتنقيحها متوفرة في الثمانينيات بل وحتى في أوائل التسعينيات، أما الآن ونحن على عتبة القرن الحادي والعشرين فإن أدوات العصر الرقمي واتصاليته تتيح لنا طريقة للحصول بسهولة على المعلومات والمشاركة فيها والتعامل بها بطرق جديدة وعجيبة.

لأول مرة بات من الممكن وضع كل ضروب المعلومات ـ أرقام ونص وصوت وصورة ـ في شكل رقمي يستطيع أي حاسوب تخزينه ومعالجته وإرساله قُدماً. لأول مرة تقوم معدات قياسية مجتمعة مع منصة برمجيات قياسية بخلق اقتصاديات حجم تتيح حلولاً حاسوبية قوية بتكلفة زهيدة لشركات من كل الأحجام. وباتت كلمة " شخصي" في عبارة "الحاسوب الشخصي" تعني أن كل فرد من عمال المعرفة(*) لديهم الآن أداة قوية لتحليل واستعمال المعلومات التي تجلبها هذه الحلول. إن ثورة المعالِجات المصغرة لا تعطي الآن الحواسيب الشخصية طفرة أُسية في القدرة فحسب بل هى أيضاُ على وشك خلق جيل جديد بالكامل من "المرافِقات" الرقمية الشخصية: أجهزة ممسوكة باليد، حواسيب شخصية للسيارات(**))، بطاقات ذكية، وغيرها في الطريق ـ  والتي ستجعل استعمال المعلومات الرقمية أمراً شائعاً.  أحد الأدلة على هذا الشيوع هو التحسن في تقنيات الإنترنت التي تعطينا الآن اتصالية عالمية.

تأخذ "الاتصالية" في العصر الرقمي معنى أوسع من مجرد وضع شخصين أو أكثر على اتصال؛ فالإنترنت تخلق مجالاً شمولياً لتقاسم المعلومات والتعاون فيها والتجارة بها. إنها تتيح وسطاً جديداً تأخذ فورية وتلقائية تقنيات كالتلفاز والهاتف وتجمع بينهما وبين العمق والاتساع المتأصلين في الاتصالات الورقية. وفضلاً عن ذلك فإن القدرة على إيجاد معلومات والمضارعة بين أناس ذوي اهتمامات مشتركة أمر جديد تماماً.

سوف تعيد مقاييس المعدات والبرمجيات والاتصالات هذه تشكيل مسلك الأعمال والمستهلكين؛ ففي خلال عقد من الزمان سيستعمل معظم الناس الحواسيب الشخصية بانتظام في العمل والبيت وسيستخدمون البريد الإلكتروني بصورة روتينية ويرتبطون بالإنترنت ويحملون أجهزة رقمية تحوي معلومات عنهم وعن أعمالهم. ستظهر أجهزة استهلاكية جديدة تتناول في شكل رقمي كل أنواع البيانات تقريباُ: النص والأرقام والصوت البشري والصور المتحركة. أنا استخدم عبارتى "أسلوب عمل الانترنت" و"أسلوب حياة الإنترنت" للتأكيد على تأثير العاملين والمستهلكين المستفيدين من هذه التوصيلات الرقمية. إننا اليوم لا نتصل عادة بالمعلومات الإ عندما نكون على مكاتبنا موصلين إلى الإنترنت بسلك مادي أما في المستقبل فثمة أجهزة رقمية نقالة ستجعلنا على اتصال دائم مع نظم أخرى وناس آخرين، كما أن أجهزتنا المستخدمة يومياً مثل عدادات الماء والكهرباء والأنظمة الأمنية والسيارات ستكون موصولة لتقوم بإبلاغنا عن أدائها وحالتها. إن كل تطبيق من تطبيقات المعلومات الرقمية هذه يقترب الآن من نقطة انعطاف - اللحظة التي عندها يصبح التغيير فيما يستعمله المستهلكين مفاجئاً وهائلاً. وهى معاً ستحوِّل أساليب حياتنا وعالم الأعمال تحويلاً جذرياً.

لقد أخذ "أسلوب عمل الإنترنت" يغير سلفاً عمليات الشغل لدى ميكروسوفت والشركات الأخرى؛ فقد كان لقيامنا بإحلال عمليات رقمية جماعية محل العمليات الورقية أن وفّر أسابيعاً من زمن ميزانيتنا وغيرها من العمليات التشغيلية. هنالك مجموعات من العاملين تستخدم الآن أدوات إلكترونية للعمل معاً بذات السرعة التي يمكن أن يعمل بها شخص واحد ولكن برؤى فريق كامل. إن فُرقاً محفزة تحفيزاً عالياً تستفيد الآن من تفكير كل فرد. لقد بات باستطاعتنا أن نتجاوب بصورة أسرع مع مشاكلنا وفرصنا بفضل الوصول الأسرع إلى معلومات عن مبيعاتنا وعن أنشطة شركائنا و ـ الأهم من ذلك ـ عن عملائنا. كذلك فإن الشركات الرائدة الأخرى العاكفة على التحول إلى االنظام الرقمي تحقق الآن إنجازات خارقة مماثلة.

زوَّدنا مؤسستنا بمستوى جديد من الذكاء المبني على الإلكترونيات. وأنا بذلك لا أتحدث عن شىء ميتافيزيقي أوعن كائن غامض في حلقة من حلقات "درب النجوم"، إنما عن شئ جديد ومهم؛ فلكي نعمل كما ينبغي في العصر الرقمي قمنا بتطوير بنية تحتية رقمية جديدة تشبه الجهاز العصبي للإنسان. إن الجهاز العصبي البيولوجي يحفز حركاتك اللإرادية حتى يمكنك الاستجابة بسرعة للخطر أو الحاجة؛ إنه يعطيك المعلومات التي تحتاج إليها وأنت تقلّب المسائل في ذهنك وتحدد اختياراتك. وفيما تركز انتباهك على الأشياء الأهم يقوم جهازك العصبي بسد الطريق على المعلومات غير المهمة لك. تحتاج الشركات إلى امتلاك هذا النوع نفسه من الجهاز العصبي ـ القدرة على العمل بسلاسة وكفاءة.. على الاستجابة بسرعة للطوارئ والفرص.. على ايصال معلومات قيمة إلى من يحتاج لها من العاملين في الشركة.. القدرة على سرعة اتخاذ القرارات والتفاعل مع العملاء.

أثناء نظري في هذه المسائل وعكوفي على وضع اللمسات النهائية لخطابي الخاص بقمة مدراء الشركات التنفيذيين قفذت إلى ذهني فكرة جديدة: "الجهاز العصبي الرقمي". والجهاز العصبي الرقمي هو المكافئ الرقمي في الشركات لجهاز الإنسان العصبي؛ وهو بذلك يوفر تدفقاً من المعلومات متكاملاً تكاملاً جيداً إلى الجزء المناسب من المؤسسة في الوقت المناسب. يتألف الجهاز العصبي الرقمي من العمليات الرقمية التي تتيح للشركة أن تعي ما يحيط بها وتتفاعل معه وأ ن تحس بتحديات المنافسين واحتياجات العملاء وأن تدبر ردوداً مواتية. يتطلب الجهاز العصبي الرقمي توليفة من المعدات والبرمجيات ويتميز عن مجرد شبكة من الحواسيب بدقة المعلومات التي يجلبها لعمال المعرفة وفوريتها وثرائها وبالتبصر والتضافر اللذين تتيحهما المعلومات.



(*)   هم العاملون الذين مهمتهم الأساسية تحليل المعلومات ومعالجتها. تستطيع  الحواسيب الشخصية تحويل   مزيد من العامليين إلى عمال معرفة بإعطائهم معلومات أفضل عن العمليات التي ينفذونها.                                   

    (**)  Auto PC ،  وهو جهاز حاسوب شخصـي للمركبات الآلية يتيح الحصـول على البريد الإلكتروني

 والرسائل  الصوتية والمكالمات  الهاتفية وتعليمات الإبحار وما شابهها من الوظائف. ويكون التخاطب معه بواسطة الأوامر الصوتية أساساً حتى يتمكن السائقون من إبقاء أيديهم على المقود وتركيز انتباههم على حركة المرور.

 

 

المصدر: كتاب الأعمال بسرعة الخاطرة - بيل جيتس
BDCTatweer

محمد حسام سعد

  • Currently 160/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
55 تصويتات / 641 مشاهدة

ساحة النقاش

محمد حسام سعد

BDCTatweer
إستشاري إدارة الأعمال والموارد البشرية ماجستير فى ادارة الاعمال (MBA). 01222177523 - 22559516 »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

136,319