حتى تجني الثورة ثمارها وتؤتي أكلها لا بد من المصارحة والشفافية في مخاطبة النفس والمصداقية في التعامل مع الذات مع احترام الآخر، ولكن لا بد أن نكون على قناعة أن عصر "كله تمام يا فندم" وليس في الإمكان أحسن مما كان، وأن التدليس في القول وتزييف الحقيقة وتبديل الأقنعة والتلاعب بثوابت الدولة طمعًا في رضا السيد المسئول أو الرئيس قد ولى إلى غير رجعة ولن يعود أبدًا بإذن الله تعالى.
فما نراه اليوم من انفلات أمني مزعج وخروقات للقانون ليس بمستغرب ولا بالشيء المقلق أو المزعج فنحن في الحقيقة نعايشه ونحيا فيه زهاء ثلاثة عقود إن لم يكن بهذه الصورة الفجة ولكن الذي غاب عنا بالفعل هذه الآلة الإعلامية الضخمة الموالية للنظام السابق المنحل التي كانت دومًا مهمتها الأساسية هي طمس الحقائق وتجميل القبيح وتزيين كل مشوه ولكن في الحقيقة لم يكن هناك اختلافًا جوهريًّا عن الواقع الحالي، فالجهاز الأمني كان بمثابة العصا الغليظة للنظام لتأديب الشعب وتهذيبه، ومهمته الأولى والأساسية هي قمع المعارضة، وتزوير الانتخابات، وتزييف إرادة الشعب، وإخماد الاحتجاجات والوقفات، ووأد المؤتمرات والمسيرات، وتركيع الشعب للسيد الرئيس المخلوع.كان هذا جوهر عمله ولب وظيفة الجهاز الأمني أما أمن الوطن والمواطن وتأمين الممتلكات الخاصة ومساكن المواطنين ومحالهم ومحاربة الإجرام والبلطجة بكل صورها فيأتي في المرتبة العاشرة إن كان موجودًا من الأصل، بل الأدهى والأشد مرارة أن يقوم الجهاز الأمني في العهد البائد وبالتحديد وزير الداخلية السابق المتهم حبيب إبراهيم العادلي بنفسه بحشد جيش من البلطجية والمعتادي الإجرام والمسجلين خطر ليكون تحت إمرته وتصرفه قدر بحوالي 40 ألف بلطجي ليقوم بالمهام القذرة الخارجة على القانون بإذن من وزير الداخلية السابق المجرم الذي كان دائمًا ما يتشدق بدفاعه عن الشرعية والقانون، فلم يكن الأمن موجودًا من الأصل ولكن المؤشرات والتقارير تدعي أننا أكثر دول العالم أمنًا وأمانًا زورًا وبهتانًا كالطبيب الفاشل الذي أخفق في علاج مريضه فبدلاً من اعترافه بفشله وعجزه في علاجه يلقي باللائمة على المريض، وأن العلاج صحيح ولكن الخلل في المريض نفسه فهو الذي لا يشعر بالتحسن والشفاء.
هذا تمامًا ما كانت تقوم به الأجهزة الأمنية في العهد البائد المنحل، فقد أقنعت أغلب شرائح الشعب- وليس كله بالطبع- أن الأمن مستتب ولكن المشكلة تكمن في الشعب ذاته فهو الذي لا يستطيع أن يستشعر هذا الجهد الخارق وهذه المهارات الفذة من جانب أجهزة الأمن في حفظ أمن المواطن وممتلكاته.
ولكن ما شجع البلطجية والمجرمين والمسجلين خطرًا على هذا الانتشار السريع وهذا التغول- خاصة بالطبع بعد فتح السجون هذه الجريمة التي لم يحاكم عليها العادلي حتى الآن- هو قراءتهم ما بين السطور للأحداث بطريقتهم الخاصة وبذكائهم الفطري فإن كان معظمهم إن لم يكونوا كلهم على الإطلاق لم يتلقوا قسطًا من التعليم ولو حتى الأساسي فمن البله والتعسف أن نصفهم بالأغبياء، فلدى بعضهم من الذكاء والقدرات الخاصة والمهارات المكتسبة في العمل الإجرامي وفي التعامل مع الداخلية بدءًا من إطلاق سراحهم من عشرات السجون والمعتقلات، وعدم ردعهم بالصورة التي تعودوا عليها وألفوها من النظام فعلموا وأيقنوا أن التعامل الآن هو نوع من التدليل الرخيص لهم وذرًا للرماد في العيون وإشارة خضراء أن يطلقوا أيديهم في السلب والنهب والخطف وقطع الطريق وترويع المواطنين الآمنين، فهم جميعًا معلومين بالاسم والعنوان وأماكن التردد لرجال المباحث، ولكن ما زالت قناعات كثير رجال الأمن- وليس كلهم بالطبع- حتى لا نعمم ما زالت قناعتهم أنه لا بد من معاقبة هذا الشعب الذي جردهم من صولجانهم وسلطانهم في البطش والتنكيل بمن شاءوا وفي أي وقت شاء فثار رافضًا الظلم والقهر والاستبداد ليغير هذا النظام القمعي المستبد السلطوي، وكأن هذه الثورة في المقام الأول- كما يظن بعضهم- موجهة في المقام الأول لسدنة الجهاز الأمني الذي كان يتلذذ بإذلال الخلق وتعذيبهم وإهانتهم، ولكن لوضع النقاط على الحروف هذه الثورة ضد كل ظالم متجبر مستبد فاسد أيًّا كان موقعه أو مكانته أو من هو فليس هناك عداوة مع شخص بعينه أو هيئة بذاتها إنما العداوة كل العداوة مع من يستبيح بيضة شعبه وكرامة قومه وينتهك حرماتهم ويروع أمنهم ويزيف إرادتهم.
ومع هذا أنا أجزم تمامًا أن هناك الكثير من الضباط الشرفاء والمخلصين والأحرار يرفضون تمامًا هذه الأساليب الرخيصة والمتدنية لترويع وتخويف المواطنين وبث الرعب في قلوبهم، ولكن وجود أعداد ليس بالقليلة في جهاز الشرطة تربت وترعرعت وشاركت في إرساء نظام فاسد قمعي مستبد ندفع ثمنه الآن حتى ولو بعد ذهاب الطغمة الحاكمة الفاسدة.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن وما هو المخرج؟؟؟ وما هو العلاج المطلوب لكي نتجاوز هذا المنعطف الخطير هذه الأزمة الخانقة؟أولاً: لا بد من توافر الإرادة القوية والرغبة الأكيدة لدى الأجهزة الأمنية- وخاصة القيادات العليا، خاصة وزير الداخلية ومدير الأمن العام ومديري الأمن بالمحافظات ومديري البحث الجنائي ثم أخيرًا الأمن الوطني الذي يدعى محاربة الإرهاب- في عزمها وإصرارها على تخطي هذه الفترة الحرجة، وهي فترة مخاض بكلِّ المقاييس من سماتها عدم الاستقرار والاضطراب والتوجس والجزع لأن في غياب الإرادة الحقيقية والرغبة الصادقة والهمة المتأججة واللجوء إلى تسديد الخانات سنعود إلى مربع العجز والملل والأداء الروتيني المحبط والمثبط ثم الفشل أخيرًا كما كان يحدث قبل الثورة في عهد المخلوع، وأكرر أن غياب الرأس- أعنى بالرأس أي الفكرة والرغبة والعزيمة والهدف ووضوح الرؤية- إنما يعني أي غياب الرأس في المقام الأول تحلل وتآكل الجسد برمته وزواله.
ثانيًا: حصر العناصر الإجرامية والمسجلي خطر الهاربة (فئة أ) التي يشكل وجودها خطرًا حقيقيًّا وتهديدًا مستمرًا للمواطنين والمعلومة جيدًا لرجال البحث الجنائي بأسمائهم وعناوينهم وأماكن تواجدهم حالة هروبهم من العدالة ويتم الاستعانة بكل أجهزة الشرطة المختصة والمعاونة والمدربة في رصدهم وتعقبهم وإلقاء القبض عليهم، وقد ساهمت القوات المسلحة بشكل فعال في المساعدة والدعم وكذلك الاستعانة برجل الشارع والطبقة المثقفة عن طريق النشرات الموزعة والملصقات في المساعدة في القبض على عناصر بذاتها وتحديد جوائز مادية مجزية لمن يدلي بأي بيانات صحيحة (كما يحدث في كثير من بلدان العالم) مما يعكس لدى رجل الشارع مدى اهتمام الدولة ممثلة في وزارة الداخلية بأمن المواطن واستقرار الشارع مع نشر المخبرين السريين في الأماكن التي يشتبه في تواجد العناصر الإجرامية، وعند استشعار المجرمين والبلطجية حقيقة القبضة الأمنية الشديدة والانتشار الأمني المكثف والدوريات المتنقلة بالعناصر الأمنية المدربة ستتغير الصورة تمامًا.
ثالثًا: الإعداد الجيد لنشرة غير دورية لرفع الواقع الأمني وطلب المعاونة من رجل الشارع إذا لزم الأمر؛ حيث إن مشاركتهم ستعاونهم تمامًا في تقويض الإرهاب والبلطجة ولكن لن تحدث هذه المشاركة من رجل الشارع إلا إذا استشعر الجدية والانتشار الأمني الموسع من الأجهزة الأمنية، ويتم الإعلان عنها في وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة أو عبر المساجد الكبرى استهدافًا لشريحة من الشعب أصبحت في عزوف عن سماع أو قراءة أي شيء وتسلم النشرة باليد لإمام المسجد يقوم بقراءتها بعد صلاة الجمعة على المصلين وطمأنتهم، وتذكيرهم باستهداف الدولة لكل بؤر الإجرام وبالعقوبات الرادعة للمجرمين وعقوبة قطع الطريق والخطف والسرقة تحت تهديد السلاح التي تتراوح بين المؤبد والإعدام، وأسماء من تم تنفيذ العقوبة فيهم على مستوى الجمهورية، وإعلان أرقام الخط الساخن الخاص للتبليغ عن وقائع السرقة والخطف والتهديد.
رابعًا: إن استهداف الطاقات الشبابية والقطاعات الشعبية الوطنية المثقفة التي تمثل رقمًا هامًّا ومؤثرًا في معادلة المنظومة الأمنية إذا تم توظيفها التوظيف الأمثل من خلال مسارات وأوعية يمكن تحديدها كما هو متبع في كثير من دول العالم من الممكن أن تستوعب هذه الطاقات للقيام بالمهام الأمنية المطلوبة، ولكن للأسف الشديد ما زالت القيادات الأمنية أسيرة تجربتها العتيقة بلا تحديث أو تطوير أو إضافة أو ابتكار فما زال الاعتراف سيد الأدلة، والاعتراف هنا بالطبع حتى وقت قريب قبل الثورة المجيدة كان بالجلد والسلخ والشبح دون الرجوع إلى معيننا الإسلامي الصافي الراقي العظيم في كيف نتعامل مع المتهمين والقاعدة الشرعية الحقوقية القانونية أن المتهم بريء حتى تثبت أدانته، وكذلك الاستفادة بتجارب من سبقونا في هذا المضمار.. لا بد أن نستيقظ وننتبه ونستعيد وعينا وعافيتنا قبل أن نجد أنفسنا في منأى ومعزل عن العالم المتحضر المستنير ونحن في سرداب الجهل والخوف والتخلف الذي صنعه وصممه وجدده المتهم حبيب إبراهيم العادلي تحت إشراف المتهم المخلوع حسنى السيد مبارك.------------------------ * عضو الأمانة العامة لحزب الحرية والعدالة بالشرقية.
ساحة النقاش