نور الدين محمود زنكي ((511 هـ)11 شباط 1118 -(569 هـ) 15 أيار 1174) وهو أبو القاسم محمود
نور الدين محمود زنكي ((511 هـ)11 شباط 1118 -(569 هـ) 15 أيار 1174) وهو أبو القاسم محمود بن عماد الدين زنكي بن آق سنقر. يلقب بالملك العادل، ومن ألقابه الأخرى ناصر أمير المؤمنين، تقي الملوك، ليث الإسلام، كما لقب بنور الدين الشهيد، رغم وفاته بسبب المرض. هو الابن الثاني لعماد الدين زنكي. حكم حلب بعد وفاة والده، وقام بتوسيع إمارته بشكل تدريجي، كما ورث عن أبيه مشروع محاربة الصليبيين.
شملت إمارته معظم الشام، وتصدى للحملة الصليبية الثانية، ثم قام بضم مصر لإمارته وإسقاط الفاطميين والخطبة للخليفة العباسي في بغداد، وبذلك مهد الطريق أمام صلاح الدين الأيوبي لمحاربة الصليبيين وفتح القدس بعد أن توحدت مصر والشام في دولة واحدة. تميز عهده بالعدل وتثبيت المذهب السني في بلاد الشام ومصر، كما قام بنشر التعليم والصحة في إماراته.
أسس أبوه عماد الدين زنكي دولة في الموصل ضمت جزيرة الفرات وحلب. وعند وفاته اقتسم مملكته ابناه سيف الدين ونور الدين الذي استولى على حلب. حرر الرها من الصليبيين وخربها سنة 1146م. هزم جيوش الحملة الصليبية الثالثة لدى محاولتها الاستيلاء على دمشق سنة 1148، واستولى على العديد من معاقل الصليبيين وأهمها قلعة حارم بين حلب وأنطاكية. أرسل جيوشه إلى مصر بقيادة أسد الدين شيركوه، فضمها إلى مملكته. كان يشك بولاء بن أخي شيركوه صلاح الدين الأيوبي الذي تولى مصر بعد شيركوه، واعتزم السير إليه إلا أنه توفي قبل ذلك. كان مثالاً للحاكم الفاضل. بنيت في عهده المدارس والمساجد والبيمارستانات، وازدهرت في أيامه دمشق عمرانياً واقتصادياً. من آثاره فيها دار الحديث والبيمارستان النوري و حمام نور الدين.
نشأته
هو نور الدين محمود زنكي، مولده في شوال سنة إحدى عشرة وخمس مئة، وهم ينتسبون إلى قبيلة ساب يو التركية، ولا تذكر المصادر التاريخية شيئاً عن نشأة نور الدين وشبابه، ولكنها جميعاً تؤكد أنه تربى في طفولته تحت رعاية وإشراف والده عماد الدين، ولما جاوز الصبا لزم والده حتى مقتله 541ﻫ/1047م وكانت حياة عماد الدين في فترة حكمه الموصل من 521ﻫ -541 ﻫ مدرسة عليا شاملة لجميع أنواع المعارف الإنسانية في مجالات العلوم السياسية والإدارية والعسكرية، بالإضافة إلى العلوم الشرعية الدينية.
تزوج نور الدين عام 541ﻫ من عصمت الدين خاتون ابنة الأتابك معين الدين حاكم دمشق، ، وخلف نور الدين من زوجته هذه ابنة واحدة، وولدين هما الصالح إسماعيل الذي تولى الحكم من بعده، وتوفي شاباً لم يبلغ العشرين من العمر، من جراء مرض ألمّ به عام 577ﻫ وأحمد الذي ولد بحمص عام 547ﻫ ثم توفي في دمشق طفلاً،
الجهاد ضد الصليبيين
استهل نور الدين حكمه بالقيام ببعض الهجمات على إمارة إنطاكية الصليبية، واستولى على عدة قلاع في شمال الشام، ثم قضى على محاولة "جوسلين الثاني" لاستعادة الرها التي فتحها عماد الدين زنكي وكانت هزيمة الصليبيين في الرها أشد من هزيمتهم الأولى، وعاقب نور الدين من خان المسلمين من أرمن الرها، وخاف بقية أهل البلد من المسيحيين على أنفسهم فغادروها.
وكان نور الدين دائم السعي إلى استمالة القوى الإسلامية المتعددة في شمال العراق والشام وكسب ودها وصداقتها؛ لتستطيع مواجهة العدو الصليبي، فعقد معاهدة مع "معين الدين أنر" حاكم دمشق سنة (541هـ ـ 1147م) وتزوج ابنته، فلما تعرض أنر لخطر الصليبيين وكانت تربطه بهم معاهدة وحلف لم يجد غير نور الدين يستجير به، فخرج إليه، وسارا معا واستوليا على بصرى وصرخند قبل أن يقعا في يد الصليبيين، ثم غادر نور الدين دمشق؛ حتى يبعث في قلب حاكمها الأمان، وأنه لا يفكر إلا في القضاء على الصليبيين؛ فتوجه إلى حصون إمارة إنطاكية، واستولى على أرتاح وكفر لاثا و بصرفوت.
وعلى أثر ذلك ملك الرعب قلوب الصليبيين من نور الدين، وأدركوا أنهم أمام رجل لا يقل كفاءة وقدرة عن أبيه عماد الدين، وكانوا قد ظنوا أنهم قد استراحوا بموته، لكن أملهم تبدد أمام حماسة ابنه وشجاعته، وكانت سنه إذ ذاك تسعا وعشرين سنة، لكنه أوتي من الحكمة والتدبير خيرا كثيرا.
وفي سنة (542هـ ـ 1147م) وصلت الحملة الصليبية الثانية على الشام بزعامة لويس السابع وكونراد الثالث، لكنها فشلت في تحقيق أهدافها وتعرضت لخسائر هائلة، وعجزت عن احتلال دمشق، ويرجع الفضل في ذلك لصبر المجاهدين واجتماع كلمة جيش المسلمين ووحدة صفهم، وكان للقوات التي جاءت مع سيف الدين غازي وأخيه نور الدين أكبر الأثر في فشل تلك الحملة، واستغل نور الدين هذه النكبة التي حلّت بالصليبيين وضياع هيبتهم للهجوم على إنطاكية بعد أن ازداد نفوذه في الشام، فهاجم في سنة (544ه ـ 1149م) الإقليم المحيط بقلعة حارم الواقعة على الضفة الشرقية لنهر العاصي، ثم حاصر قلعة إنب، فنهض "ريموند دي بواتيه" صاحب إنطاكية لنجدتها، والتقى الفريقان في (21 من صفر 544ه ـ آخر يونيو 1149م) ونجح المسلمون في تحقيق النصر وأبادوا الصليبيين عن آخرهم، وكان من جملة القتلى صاحب إنطاكية وغيره من قادة الفرنج وكان فرح المسلمون بهذا النصر عظيما.
ضم دمشق
آمن نور الدين بضرورة وحدة الصف، وانتظام القوى الإسلامية المبعثرة بين الفرات والنيل حتى تقف كالبنيان المرصوص أمام أطماع الصليبيين، وكانت دمشق تقف حجرة عثرة في طريق تلك الوحدة، وكان معين الدين أنر صاحب السلطة الفعلية في دمشق يرتبط بعلاقات ودية مع الصليبيين ومعاهدات وتحالفات، وبعد وفاته قام "مجير الدين أبق" بحكم دمشق، وجرى على سياسة أنر في التعامل مع الصليبيين، بل أظهر ضعفا ومذلة في التعامل معهم، وأعرض عن وحدة الصف وجمع الكلمة، وبلغ الهوان به أن وافق على أن يدفع أهل دمشق ضريبة سنوية للصليبيين مقابل حمايتهم، وصار رسل الفرنجة يدخلون دمشق لجمع الجزية المفروضة دون أن يستشعر حاكمها خجلا أو هوانا.
ولم يسكت نور الدين على هذا الوضع المهين، واستثمر شعور الغضب الذي أبداه الدمشقيون، ونجح بمساعدتهم في الإطاحة بمجير الدين أبق وضم دمشق إلى دولته في سنة (549هـ 1154م) وكانت هذه الخطوة حاسمة في تاريخ الحروب الصليبية؛ حيث توحدت بلاد الشام تحت زعامة نور الدين: من الرها شمالا حتى حوران جنوبا، واتزنت الجبهة الإسلامية مع الجبهة الصليبية التي كانت تستغل حالة التشتت والتشرذم، وتوجه ضرباتها إلى دولة الإسلام حتى إن نور الدين لم يستطع نجدة عسقلان عندما هاجمها الصليبيون سنة (548ه ـ 1153م) لأن دمشق كانت تقف حائلا دون تحقيق ذلك.
الطريق إلى مصر
بعد نجاح نور الدين في تحقيق المرحلة الأولى من توحيد الجبهة الإسلامية لم يعد أمام الصليبيين للغزو والتوسع سوى طريق الجنوب بعد أن أحكم نور الدين سيطرته على شمالي العراق والشام؛ ولذا تطلع الصليبيون إلى مصر باعتبارها الميدان الجديد لتوسعهم، وشجعهم على ذلك أن الدولة الفاطمية في مصر تعاني سكرات الموت فاستولوا على عسقلان، وكان ذلك إيذانا بمحاولتهم غزو مصر، مستغلين الفوضى في البلاد، وتحولت نياتهم إلى عزم حيث قام "بلدوين الثالث" ملك بيت المقدس بغزو مصر سنة (558ه ـ 1163م) محتجا بعدم التزام الفاطميين بدفع الجزية له، غير أن حملته فشلت وأجبر على الانسحاب.
وأثارت هذه الخطوة الجريئة مخاوف نور الدين، فأسرع بشن حملات على الصليبيين في الشام حتى يشغلهم عن الاستعداد لغزو مصر، ودخل في سباق مع الزمن للفوز بمصر، فأرسل عدة حملات إليها تحت قيادة "أسد الدين شيركوه" وبصحبته ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي، ابتدأت من سنة (559هـ ـ1164م) واستمرت نحو خمس سنوات حتى نجحت بعد سباق محموم مع الصليبيين في الظفر بمصر سنة (564هـ ـ 1169م) وتولى شيركوه الوزارة للخليفة "العاضد" آخر الخلفاء الفاطميين، على أنه لم يلبث أن توفي بعد شهرين فخلفه في الوزارة صلاح الدين الأيوبي.
نجح صلاح الدين الأيوبي في إقامة الأمن واستتباب الأمور وتثبيت أقدامه في البلاد، وجاءت الفرصة المناسبة لإسقاط دولة الفاطميين؛ فقطع الدعاء للخليفة الفاطمي ودعا للخليفة العباسي في أول جمعة من سنة (567هـ ـ سبتمبر 1171م).
وكان لدخول مصر تحت حكم دولة نور الدين محمود دوي هائل، لا في مملكة بيت المقدس وحدها بل في الغرب الأوروبي كله، وارتفعت الأصوات لبعث حملة جديدة تعيد للصليبيين في الشام هيبتهم وسلطانهم، وتوجه لمصر ضربات قوية، غير أن حملتهم على مصر لم تحقق أهدافها ليقظة صلاح الدين في مصر.
وبنجاح نور الدين في ضم مصر إلى جبهة الكفاح يكون قد حقق الحلقة الأخيرة من حلقات الجبهة الإسلامية تمهيدا للضربة القاضية.
النهضة الاصلاحية
حمام نور الدين الشهيدوإذا كان نور الدين امتاز بالبراعة السياسية والحربية، فإنه كان إلى جانب ذلك مصلحاً اجتماعياً كبيراً، وصاحب نهضة رائعة، تدين له الدولة بالكثير من الإصلاحات في جميع النواحي.
ولسنا على كل حال بمستطيعين أن نمير أي عمل من أعمال نور الدين الإصلاحية عن غيره من الأعمال، فكل عمل عمله نور الدين يستحق الإعجاب والتقدير.
فإذا اتجهنا إلى اهتمامه بمصالح رعيته، وجدناه يعمل على راحتهم وطمأنينتهم على معايشهم ويتسير سبل الحياة الطيبة لهم.
وجد نور الدين أن الخمور منتشرة في بلاده، والخمر أسس البلاد وأم الكبائر، فأصدر أمره بمنع دخولها في جميع أنحاء مملكته، وكان يحدّ شاربها الحدّ الشرعي، لا فرق إن كان شاربها غنياً أو فقيراً، كبيراً أو صغيراً، فالكل عنده سواء.
وكان يريد للناس صفاء العقيدة، والإيمان الحقيقي، لا يضللهم مضلل أو يفسدهم مبتدع. فكان يضرب على يد كل مبتدع يعمل على إفساد عقائد الناس، وينفيه بعيداً يلقى جزاء ضلاله.
أما تخفيفه على الناس معايشهم، فإنه أسقط جميع المكوس والعشور من بلاده ولم يسْتبْقِ سوى الخراج والجزية، على كثرة ما كان يجمع من هذه المكوس والعشور.
ومنع عن رعاياه ظلم قواده وأمرائه. ولما رأى نور الدين أن الشكوى قد كثرت من أتباع قائده أسد الدين شيركوه، أمر بإنشاء دار العدل لمحاكمة الظالمين، فلما علم أسد الدين بذلك، أمر أتباعه برد المظالم إلى أهلها وشدد عليهم في ذلك، خوفاً من أن يحمله نور الدين مسئولية ظلم أتباعه، فيطلبه إلى المحاكمة العلنية فتضيع هيبته وتضعف مكانته عند الناس، فنفذ أتباعه ما أمرهم به، وردوا إلى الناس حقوقهم. ولما تم بناء دار العدل، كان نور الدين يجلس فيها يومين في الأسبوع للفصل في الخصومات بحضوره.
ومنع نور الدين تعدّي الجند والعسكر على أحد من الناس. فكانت أوامره لرجال جيشه صارمة.
ثقافته الدينية
اهتم بتثقيف نفسه ثقافة دينية، فدرس الفقه على مذهب أبي حنيفة، وسمع الحديث حتى أجاده، فأخذ يسمعه بدوره للناس طلباً للأجر، وكان يعقد حلقات الدرس والبحث، فيجمع حوله العلماء يتدراسون ويبحثون وكان يشاركهم الدراسة والبحث عن علم وفهم. لذلك كان العلماء والصوفية من أحب الناس إليه، فبنى للصوفية الربط والخانقاهات، ووقف عليهم الوقوف الكثرة، وأدر عليهم الإدرارات الصالحة، وكان يدعو مشايخهم إليه، ويقربهم ويدنيهم ويباسطهم ويتواضع لهم.
وكذلك كان مع العلماء. وقد حدث أن بعض الأمراء حسد الفيقه الشافعي قطب الدين النيسابوري لمكانته عند نور الدين.
زهده
سلك نور الدين في حياته الخاصة سبيل الزهد. وكان له بمدينة حمص ثلاث دكاكين فوهبهم لها.
صفاته
نور الدين محارب شجاع، يخوض المعارك بنفسه، ويتقدم على الجند أثناء القتال. وكان قوي الثقة بنفسه، لا تضعفه هزيمة، ولا يبطره انتصار، حتى انتاصره في الحروب لا ينسبه لنفسه أو لمهارته وشجاعته، وإنما ينسبه إلى الله، وكان يشغل وقت فراغه، أو وقت راحته من مهام الدولة، إما بين العلماء باحثاً ودارساً، وإما في ميدان الفروسية يلعب بالكرة.
وقال فيه ابن الأثير:
جمع الشجاعة والخضوع لربه * ما أحسن المحراب في المحراب
نور الدين في التاريخ
كان نور الدين مؤمنا بالإسلام وعظمته؛ وهو ما جعله يحقق ما عجز عنه غيره ممن كانوا أوسع منه بلادا وأعظم مالا ونفقة، ولم يكن يحارب الصليبيين على أنهم نصارى بل على أنهم أجانب عن بلاد العرب والمسلمين جاءوا لاحتلال الأرض وتدنيس المقدسات؛ ولذا لم يمس نصارى بلاده بسوء، بل كانوا عنده مواطنين لهم حق الرعاية الكاملة، فلم يهدم كنيسة ولا آذى قسا أو راهبا.
ولم يشغله الجهاد وتوحيد الصف عن إقامة المدارس والمساجد حتى بلغت مدارسه ومساجده المئات، لا يخلو منها بلد دخل تحت سلطانه، وكان إذا أنشأ مدرسة أوسع النفقة في بنائها، واجتهد في اختيار شيوخها، وأوقف عليها الأوقاف الكثيرة، وكانت مدارسه تُعنى بالقرآن والحديث، وكان له شغف بالحديث وسماعه من جلّة المحدثين، وأجازه بعضهم بالرواية.
وإلى جانب إنشاء المدارس توسع في إقامة البيمارستانات في كل بلدة تحت حكمه، وجعلها للفقراء الذين لا تمكنهم دخولهم من الاستعانة بالأطباء والحصول على الدواء، كما حرص على إقامة الخانات على الطرق لينزل بها المسافرون للراحة أو للمبيت، وجعل عليها من يحرصها ويحافظ على زائريها.
وكان نور الدين مؤمنا صادق الإيمان، ومجاهدا عظيما، وزاهدا متصوفا لا ينام إلا منتصف الليل ثم ينهض فيتوضأ، ويقبل على الصلاة والدعاء، حتى يقبل الصباح فيصليه ثم يأخذ في شئون دولته.
ولزهده في أبهة الحكم والسلطان لم يكن له راتب يتقاضاه، وإنما كان يأكل ويلبس من ملك له كان قد اشتراه من ماله، ولم يكن له بيت يسكنه، وإنما كان مقامه في غرفة في قلعة البلد الذي يحل فيه.
وفاة نور الدين محمود
وبينما كان نور الدين محمود يستعد للسير إلى مصر، فاجأته الحمى، واشتد به المرض حتى لقي الله في (11 من شوال 569ه ـ 15 من مايو 1174م) وهو في التاسعة والخمسين من عمره، وكان لموته رجة عنيفة في العالم الإسلامي، وشعر الناس بحجم الخسارة، وعظم المصيبة التي حلت بهم.
وشاء الله تعالى أن تظل سلسلة المجاهدين قائمة، فكلما غاب من الميدان زعيم نهض من بعده زعيم، وكل خلف يزيد عن سابقه في المواهب والملكات، حتى انتهت الراية إلى صلاح الدين الأيوبي فحقق ما كان أمنية في الصدور وخاطرا في العقول
ساحة النقاش