بسم الله، والحمد لله، وبعد.. فإن المسلمين يهتمون بليلة القدر؛ لما فيها من الخير والبركة والرحمة، ونذكر هنا: فضلها، وتعيينها، والعمل فيها.
فضلها
نذكر من فضلها أنها:
(1) أنزل فيها القرآن العظيم: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)) (القدر)، وقال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة: من الآية 185).
(2) وفي هذه الليلة يقدِّر الله فيها مما في اللوح المحفوظ إلى الملائكة الكتَبة ما يكون من الأقدار، وما يكون في السنة القابلة من حياة أو موت أو خير أو شر.
(3) أنها خير من ألف شهر (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)) (القدر)، ".. من حرم أجرها فقد حرم" (النسائي في الصيام)، وسورة القدر خمس آيات، يتكرر فيها لفظ القدر ثلاث مرات، وهذا لتفخيم شأنها وتعظيمه؛ فهي ليلة الخير والشرف والفضل، ولفظ: "وَمَا أَدْرَاكَ" تنبيه لشأنها.
(4) أنه "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" (البخاري).
(5) (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)) (القدر)، من كل أمر قدره الله وقضاه لتلك السنة إلى السنة القابلة ".. إن الملائكة تلك الليلة فى الأرض أكثر من الحصى" (أحمد : 2 / 519 والبيهقي).
(6) (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)) (القدر)؛ لأن الملائكة تسلم فيها على أهل المساجد حتى مطلع الفجر.
تعيينها
إن المتتبع للروايات التي وردت في تحديد ليلة القدر يجد فيها أقوالاً كثيرة، لكن أكثر الروايات على أنها في العشر الأواخر من رمضان في الليالي الوترية. ففي الحديث: "وكانوا لا يزالون يقصون على النبى صلى الله عليه وسلم الرؤيا أنها في الليلة السابعة من العشر الأواخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرى رؤياكم قد تواطأت في العشر الأواخر، فمن كان متحريًّا فليتحرها من العشر الأواخر" (البخاري في التهجد: 1158 وتكرر برقم 2015)، وتواطأت: توافقت. والبخاري يعقد بابًا بعنوان "تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر"، ثم يقول ابن حجر: في هذه الترجمة إشارة إلى رجحان كون ليلة القدر منحصرة في رمضان في العشر الأواخر منه ثم في أوتاره لا في ليلة معينة منه.. (فتح الباري: 4 / 305 وما بعدها) .. وفي شرح حديث الترمذي رقم 792 يقول الأحوذي: فالأرجح والأقوى كون ليلة القدر منحصرة في رمضان في العشر الأواخر منه ثم في أوتاره.. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وهذا هو الذى يدل عليه مجموع الأخبار الواردة فيها.. وحديث الترمذي حسن صحيح ورواه البخاري: 2020 ومسلم: 1169.. وهذا ما أجمع عليه الصحابة. قال ابن عباس: دعا عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم عن ليلة القدر، فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر" (فتح الباري: 4 / 308).
تحديد العشر الأواخر
لفظ العشر من ألفاظ الخاص، وحكمه أنه لا يحمل على ما هو أقل ولا أكثر؛ فدلالته على ذلك قطعية، وأكثر الناس تحسب ليالي الوتر على أن الشهر 30 ليلة فتكون أول ليلة هي 21 وهذا صحيح لكن الشهر قد يكون 29، وهذا متوقع في هذه السنة طبقًا للحساب الفلكي فتكون أول ليلة هي ليلة 20؛ لأن العشر لا بد أن تكون كاملة لا أقل ولا أكثر، وتكون ليالي الوتر بعدها ليلة 22، 24، 26، 28 يقول ابن حزم: فإن كان الشهر 29 فأول العشر الأواخر بلا شك، ليلة عشرين منه، فهي إما ليلة عشرين، وإما ليلة اثنين وعشرين، وإما ليلة أربعة وعشرين، وإما ليلة ست وعشرين، وإما ليلة ثمان وعشرين؛ لأن هذه هي الأوتار من العشر الأواخر.. وإن كان الشهر 30 فأول العشر الأواخر بلا شك: ليلة 21.. وإما ليلة 23، وإما ليلة 25، وإما ليلة 27، وإما ليلة 29، (راجع: المحلَّى مسألة: 809).
خفاء ليلة القدر
إذا كانت ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان إلا أنها غير معروفة بالتحديد كما رأينا، وقد علمها النبي صلى الله عليه وسلم ثم خفيت عليه لحكمة أرادها الله، وسبب نسيانها قد ورد في الأحاديث الصحيحة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أُرِيت ليلة القدر. ثم أيقظني بعض أهلي، فَُنسيتها، فالتمسوها في العشر الغوابر" (مسلم: 1166).
2- وفي سبب خفائها أيضًا، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا أيها الناس، إنها كانت أبينت لي ليلة القدر، وإني خرجت لأخبركم بها، فجاء رجلان يحتقان معهما الشيطان فنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان" (مسلم: 1167/ 217)، ويحتقان: يطلب كل واحد منهما حقه ويدعي أنه المحق، وفي رواية: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا ليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين.. فرفعت وعسى أن يكون خيرًا لكم.."(البخاري: 2023). وتلاحى: من الملاحاة؛ أي: المخاصمة والمنازعة. فهذه الليلة خفيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نسيها، فلا يدعي أحد أنه يعلمها.
سئلت زينب بنت أم سلمة: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم ليلة القدر؟ فقالت: لا، لو علمها لما أقام الناس غيرها. راجع: شرح حديث البخاري السابق، وقال ابن حزم: وإذا نسيها عليه السلام فمن المحال الباطل أن يعلمها أحد بعده، وإذ لم يقطع عليه السلام برؤيا من رأى من أصحابه فرؤيا من بعدهم أبعد.. فإن قيل قد جاء أن علامتها أن الشمس تطلع حينئذ لا شعاع لها؟ قلنا: نعم، ولم يقل عليه السلام: إن ذلك يظهر إلينا فنعلم من ذلك ما لم يعلمه هو عليه السلام.. فإن قيل: قد قال عليه السلام أنه أُري أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين فكان ذلك في صباح ليلة إحدى وعشرين؟ قلنا: نعم، وقد حدث ذلك في صبيحة ليلة ثلاث وعشرين فسجد عليه السلام في ماء وطين. (المحلى: المرجع السابق).
أما قوله صلى الله عليه وسلم في سبب خفاء ليلة القدر: "وعسى أن يكون خيرًا" كما جاء في حديث البخاري السابق. فإن خفاءها وعدم تعيينها يدعو إلى الاجتهاد في طلبها فكان أكثر للعبادة، بخلاف ما إذا عرفوها، فإن الهمم تتقاصر عن القيام بواجبها ونيل فضلها؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر حتى توفاه الله.
إن كثيرًا من الناس في نشاط واهتمام بليالي الوتر على أساس الشهر 30 يهتمون بها ويهملون الليالى الأخرى على حساب الشهر 29 التي يحتمل أن تكون ليلة القدر فيها كما ذكرنا. ولا أقطع بهذا ولكنه احتمال، وقد يفوت خير كثير.. ومن فاتته ليلة القدر فقد حرم، والنبي صلى الله عليه وسلم كما رأينا كان يجتهد في العشر الأواخر دون تفرقة بين ليلة وأخرى.
العمل فيها
عن عائشة قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله" (البخاري: 2024 ومسلم: 1174)، وشد مئزره: اجتهد في العبادة زيادة على عادته، ويعني أيضًا اعتزال النساء للانشغال بالعبادة، والمئزر هو الإزار. وأحيا ليله: أحياه بالطاعة وسهر فيه؛ لأن النوم أخو الموت، وأيقظ أهله: للصلاة في الليل.. وفي الحديث: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها" (مسلم: 1175 ورواه غيره). والله نسأل أن نصيب من ليلة القدر، وألا يحرمنا خيرها وأجرها.
وعلى الله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ساحة النقاش