أصدرت محكمة القضاء الإداري في 28/6/2011م، حكمًا تاريخيًّا بحل المجالس المحلية في جميع أنحاء مصر، وأشارت المحكمة إلى أن قيام الثورة كان يوجب حل هذه المجالس فورًا، بحكم ما كانت تمثله من فساد يضرب أرجاء المجتمع.
وأكد المستشار الإعلامي لرئيس الوزراء، أن الحكومة تؤكد احترامها لأحكام القضاء المصري، وبما يضمن حقوق المواطن، فيما أكد وزير التنمية المحلية أن الوزارة تحترم أحكام القضاء، وستدرس الوزارة وتفحص الحكم قانونيًّا؛ وذلك لاتخاذ السبل القانونية بمجرد استلامه، موضحًا أنه سيتم التعامل معه بالتنفيذ أو الطعن.
وقد استقبلت الأوساط السياسية والاجتماعية هذا الحكم بفرح بالغ؛ لأن هذه المجالس المزورة بالكامل كانت موجودةً، وتحكم وتتحكم في الميزانية العامة للدولة، وكانت تجهز لبقايا الحزب الوطني فرصة العودة في الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة.
وقد طالب بعض المحللين بسرعة تنفيذ حكم محكمة القضاء الإداري بحل تلك المجالس؛ لأن الدولة الآن في أمسِّ الحاجة إلى انتخابات محلية تزيح الفساد الذي يعشش في تلك المحليات وتطهرها، مؤكدًا أن الحكم هو أحد مكاسب ثورة 25 يناير.
ولا شك أن سر تفوق الغرب في المجال الاجتماعي والإداري هو نظام البلديات الذي يعتمد على انتخاب العناصر التنفيذية في المدن والقرى انتخابًا نزيهًا شفافًا، يصعد بمن يملكون القدرة على خدمة المجتمع وحل المشكلات دون خطب إنشائية، أو وعود هلامية لا يكون لها أثر على أرض الواقع.
وتمثل انتخابات البلديات أو المحليات في الدول الغربية اهتمامًا أكبر للمواطن العادي من الانتخابات التشريعية والرئاسية؛ إذ إن المجلس البلدي له أهمية تفوق المجلس التشريعي؛ بحكم أن الأول يلامس الحياة اليومية بالنسبة للمواطن، سواء ما يتعلق بالبيئة التي يعيش فيها ومشكلاتها، أو متطلبات الحياة اليومية وما تقتضيه من خدمات ومساعدات.
لذا يكون العضو المنتخب في المجلس البلدي ذا أهمية عظمى لدى الناس، فهو يعيش معهم الحياة الاجتماعية حتى النخاع، وهو يعلم تفاصيل ما يجري في البيئة الاجتماعية، ويعرف أبعاد المشكلات وما يلزمها من حلول، كما يعرف طبيعة الحلول الممكنة التي يمكن أن تساعد في دعم المجمع، والارتقاء به.
ويُركِّز كثير من السياسيين الغربيين على خوض تجارب النيابة عن المجتمع في البلديات والتمرس بحل مشكلاتها ليكون ذلك طريقًا إلى المجالس التشريعية والانتخابات الرئاسية، لأنهم يفيدون من البلديات أضعاف ما يفيدون من الانتخابات التشريعية، والفوائد التي يحصلون عليها من المدن والقرى تؤهلهم ليكونوا أكثر قدرةً على خدمة الوطن كله فيما بعد.
وربما كانت تجربة السياسي التركي المعروف رجب طيب أردوغان من أوضح الأمثلة في هذا السياق، فقد كان رئيسًا لبلدية إستانبول في النصف الثاني من التسعينيات، وقد زرتها عام 1994م، ورأيت تلال القمامة ترتفع في أهم شوارعها وميادينها الرئيسية (شارع الاستقلال، وميدان تقسيم)، فضلاً عن الشوارع الأخرى، بالإضافة إلى انتشار المخدرات واللصوصية والدعارة والخطف والرشوة والمعاكسات، فضلاً عن عذاب المرور ومشكلة المياه.. ولكن اختيار أردوغان مع العناصر الصالحة في بلدية إستانبول حولها بعد قليل إلى شيء آخر يفرح القلب ويبهج الروح، ولا ريب أن من يزور إستانبول الآن سيجد هذه المدينة الصعبة المزدحمة التي تقوم على سبعة تلال، وتتوه بين شوارعها المرتفعة والمنخفضة، نسيجًا آخر يفخر به أهلوها في النظافة والنظام والتنسيق، وسيولة المرور، والمياه النقية، والزهور التي تملأ كل شبر خال من الأرض، حتى الشرفات تمتلئ بها، فضلاً عن الشوارع التي تتفتح فيها أفخر أنواع الزهور العالمية.
وأود أن أشير هنا إلى مفارقة طريفة، وهي أن القطاع العام الخاضع للبلدية في إستانبول يحقق أرباحًا أكثر من القطاع الخاص، ويقبل عليه الناس أكثر مما يقبلون على القطاع الخاص، ولا تنتشر في القطاع العام سرقات أو فساد أو بيروقراطية قاتلة، مع أنه يتعامل في مجالات مهيأة للفساد والنهب، مثل المطاعم والمواصلات العامة، ولكنها من أكثر المجالات انضباطًا والتزامًا؛ وذلك كله لأن القوم هناك اختاروا العناصر الصالحة عبر الانتخابات، فاستطاعوا أن ينجزوا إنجازاتٍ حقيقيةً؛ جعلت الناس تتمسك بهم وتختارهم في دورات متتالية.
إن اختيار القيادات المحلية عبر صندوق الانتخابات الشفافة قادر على إفراز أفضل العناصر الصالحة التي تستطيع حل المشكلات، وتيسير حياة الناس دون خطب أو ادعاءا ت.
وللأسف الشديد، فإن المحليات في بلادنا العزيزة، بدلاً من أن تحل مشكلات الناس وتيسرها، أسهمت في تعقيدها، وتشويهها، وصار الفساد في أرجاء المحليات "إلى الركب" كما يقولون، وبدلاً من أن يكون الحكم المحلي طريقًا إلى الحلول الذاتية، تحول إلى درجة متوحشة من التعقيد والإفساد والنفاق؛ لا قبل للمواطنين باحتمالها.
لقد نشأت المحليات من خلال صياغة اشتراكية تقلد ما كان قائمًا في البلدان الشيوعية، أي أن يكون النظام المحلي امتدادًا للحزب الشيوعي الحاكم، مهمته الأصلية، مساندة السلطة الشيوعية القائمة، ومواجهة خصومها بالدرجة الأولى، وهو ما ساد المجالس القائمة في المحافظات والمدن والقرى المصرية، وكان النظام الفاسد البائد يعتمد على هذه المجالس في تأييده، وجمع الأنصار وخاصةً في الانتخابات التشريعية، لتصعيد الأشخاص الذين تريدهم السلطة ليكونوا عونًا لها.
نشأ هنا نوع من التحالف الوثيق بين عناصر الحكم المحلي الفاسدة، والسلطة المستبدة، يقوم على تبادل المنافع الحرام، واستصدار القرارات التي تجعلها قانونيةً، ولو كانت ضد الضمير والأخلاق، بدءًا من الحصول على مكافآت من جهات متعددة، إلى الاستيلاء على أراضي الدولة والأوقاف، مرورًا بالمناقصات وعمليات الأمر المباشر وغير ذلك من مصادر المنفعة الحرام على حساب الشعب البائس المسكين، وبالطبع فإن محاسبة الفاسدين في المحليات تبدو صعبةً لأن الفاسد وراءه من يحميه ويسانده، فيتم التعتيم على جرائم النهب والفساد، وإهمال مصالح البلاد والعباد.. أما من يتم تقديمهم للمحاكمات أحيانًا فهم الذين يخرجون عن النص الفاسد الحاكم، وإذا تابوا وأنابوا عادوا إلى سيرتهم الأولى!.
ومن الغريب أنه يتاح لهذه المجالس سلطات بلا حدود، منها مثلاً سلطة فرض إتاوات على المواطنين تحت حجج إقامة مشروعات أو دعم بعض الجهات، ولكن لا تقوم مشروعات، ولا يتم دعم جهات.
خذ مثلاً بسيطًا موضوع الكارتة التي تفرض على سائقي السيارات، ويفترض أنه يتم إنفاقها على تحسين مواقف السيارات أو تقديم الخدمات للسائقين، هذه المبالغ التي تدفعها السيارة في كل دور تتجمع آخر الشهر ليتم توزيعها على السادة المسئولين في الحكم المحلي وربما جهات أخرى؛ بوصفها مكافآتٍ نظيرَ جهدٍ لم يبذل أبدًا، اللهم إلا ما يقوم به الأشخاص الذين يجمعون هذه المبالغ، ويتقاضون نظير ذلك مرتباتٍ ضئيلةً، وقد يكونون من الموظفين في المحليات أساسًا، فلا يحصلون إلا على مرتباتهم الأصلية ويحظى السادة الجالسون على مكاتبهم في المحليات ومجالسها بمكافآت دون مقابل!.
ومهما يكن من أمر فإن الضرورة تفرض الآن أن يكون هناك قانون جديد للإدارة المحلية يستهدي بنظام البلديات في أوروبا وتركيا، على أن يكون هناك مبدأ انتخاب القيادات جميعًا، بدءًا من رئيس القرية والحي، ورئيس المدينة والمركز، والمحافظ ونائبه.
إن إرساء هذا المبدأ بانتخاب القيادات؛ يجعل ولاءها لمَن انتخبها، قبل الحزب الذي تنتمي إليه أو الحكومة القائمة أو الرئيس الموجود في السلطة.
ثمة مَن يعترض على مبدأ الانتخاب بحجة أن المحافظ أو رئيس المدينة أو القرية المنتخب سيخضع لعائلته وأقاربه، ولن نستطيع محاسبته، وهذا كلام لا يستقيم مع وجود مجلس بلدي منتخب يراقب، ويشرع، ويحاسب.
يبقى موضوع المحافظات الحدودية التي تستلزم وجود محافظ عسكري بحكم ما قد تفرضه ظروف حربية أو استثنائية، تربط ما بين المحافظة وإمكاناتها من ناحية، وظروف العمليات العسكرية من ناحية أخرى، وهذا أمرٌ لا يعوق انتخاب نائب المحافظ في المحافظات الحدودية ليتحرك في إطار الصلاحيات غير العسكرية متعاونًا مع المحافظ العسكري، والمجلس المنتخب لتسيير الشئون العامة في المحافظة.
ساحة النقاش