ما يحدث فى العالم العربى يعد كارثة أمنية من وجهة النظر الأمريكية، ذلك أن الثورات والانتفاضات الجماهيرية التى تفجرت فى أرجائه أسقطت حلفاء الولايات المتحدة فى المنطقة، وعلى رأسهم الرئيس المصرى السابق الذى اعتمدت عليه المخابرات الأمريكية طوال ثلاثين عاما. هذه واحدة من أهم الخلاصات التى سجلها ملف العدد الأخير من مجلة «نيوزويك» الذى خصص لقراءة التحولات الحاصلة فى العالم العربى، من خلال استطلاع آراء الخبراء الأمريكيين الذين كانت لهم أدوارهم فى نسج تلك العلاقة أو تتبع أطوارها. حين يطالع المرء التقرير الأمريكى ويقف على نبرة الأسف فيه على رحيل الرئيس مبارك وسقوط نظامه، فإنه يستحضر على الفور الأسف المماثل الذى عبرت عنه إسرائيل على لسان ساستها، إلى الحد الذى دفع حاخامها الأكبر للدعاء له بالشفاء من مرضه ودعاه إلى محاولة التواصل مع شيخ الأزهر لمنع محاكمته بأى رأى أو فتوى تؤدى الغرض، وهى إشارات تقنعنا بأن الرئيس السابق لم يكن يعد كنزا إستراتيجيا لإسرائيل فقط، وإنما للولايات المتحدة أيضا. وأنه كان مقبولا ومرحبا به من جانب الأمريكيين والإسرائيليين بأكثر من قبول المصريين له. بما يعنى أنه كان ممثلا وراعيا لمصالحهم بأكثر من رعايته لمصالح الشعب الذى ظل يحكمه طوال ثلاثين عاما. الملاحظة الأخرى المتصلة بهذه النقطة أن رجل مبارك لدى الأمريكيين ورجل الأمريكيين لدى مبارك كان اللواء عمر سليمان، الذى لعب الدور ذاته فى علاقة مصر مع إسرائيل. ولدى الفلسطينيين والأتراك قرائن وشهادات متعددة تجمع على أن الرجل كان متحيزا للإسرائيليين فى مباحثاته مع الفلسطينيين. وفى بعض الحالات فإنه كان إسرائيليا أكثر من الإسرائيليين. حتى أنه فى إحدى المرات نقل إلى الفلسطينيين مطلبا أدهشهم بدعوى أنه صادر عن الإسرائيليين. ونقل المطلب إلى الأتراك، فسافر مبعوث منهم إلى إسرائيل بطائرة خاصة لتحرى الحقيقة فى الأمر، ثم تبين أن المعلومة غير صحيحة، وأن الإسرائيليين ليست لديهم فكرة عن الموضوع. لم يكن مبارك ورجاله فقط هم الوكلاء، لأن ما يستوقف المرء أيضا فى التقرير المنشور أن الخبراء الأمريكيين تحدثوا عن قادة الدول العربية ومسئولى الأجهزة الأمنية فيها (المقصود تونس ومصر وليبيا واليمن) باعتبار أنهم بين رجالهم فى المنطقة، فى إشارة واضحة إلى أن الولايات المتحدة ظلت طوال العقود الأخيرة مطمئنة إلى أن العالم العربى مستسلم ومستكين داخل بيت الطاعة الأمريكى. ولكن مفاجأة الثورات العربية أخلت بهذه المعادلة، بحيث خرج البعض من بيت الطاعة فى حين ظل آخرون كامنين فى داخله. ثمة إشارة أخرى مهمة فى التقرير هى أن إدارة الرئيس بوش التى دعت فى العلن إلى ضرورة الالتزام بقيم الديمقراطية لمحاصرة الإرهاب وتجفيف منابعه، لكنها فى الوقت ذاته كانت ترسل المعتقلين إلى مصر ودول أخرى لتعذيبهم واستنطاقهم لمتابعة أنشطة الجماعات الإرهابية. الأمر الذى دفعها فى مقابل ذلك إلى غض الطرف عن ممارسات الأنظمة الاستبدادية فى المنطقة العربية، ليس ذلك فحسب، وإنما لجأت الولايات المتحدة إلى حماية تلك الأنظمة إذ وجدت أن استمرارها يحقق مصالحها الحيوية فى المنطقة. من المفارقات الجديرة بالملاحظة فى هذه النقطة، أن إدارة الرئيس بوش ظلت تتحدث عن الديمقراطية فى العلن وتناصر الأنظمة الاستبدادية فى الواقع، ولكن إدارة الرئيس أوباما وجدت أن رياح الديمقراطية تتقاطع مع مصالحها، فكفت عن الحديث عنها، وظلت على موقفها من رعاية ما تبقى من أنظمة استبدادية، وفى الوقت ذاته فإنها اتجهت إلى محاولة اختراق المجتمعات التى تخلصت من الحكم الاستبدادى من خلال الإعلان عن تقديم مساعدات للمنظمات الأهلية بدعوى مساعدة التطور الديمقراطى. الملاحظة الأخيرة على ملف «نيوزويك» أن ما حدث فى العالم العربى من ثورات فاجأ العواصم الغربية وأربكها، وواشنطن فى المقدمة منها. وتمثلت المفاجأة فى أن ما جرى كان خارج كل التوقعات التى رصدتها الأجهزة الاستخبارية. وسواء كان السبب فى ذلك هو الاستعلاء أم سوء التقدير والغباء، فالشاهد أنهم لم يفهمونا، لا هم ولا أصحابهم الذين حكمونا.
نشرت فى 20 يونيو 2011
بواسطة BADRFOUDA
ابو استشهاد
ندعوا الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والى تكوين الفرد المسلم والاسرة المسلمة والمجتمع المسلم والى الحكومة المسلمة والى الدولة المسلمة والخلافة الاسلامية والى استاذية العالم »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
121,430
ساحة النقاش